ـ 1 ـ
جلس الكهل المصري الذي دعاني ولفيف من الأصدقاء إلى العشاء في مطعمه البسيط إلى جواري. بعد أن أكلنا وشربنا، أخرج من جيبه سيجارته وأشعلها، ثم أخذ نفساً عميقا، وقال بصوت مكسو بالتعب والإحباط، وبلهجته المصرية اللذيذة: هو ايه اللي جرى يا خونا... إحنا العرب بقينا كده ليه؟ وبدون لحظة من التفكير والتأني، وكأني أريد ألا يسبقني أحد لإجابة هذا السؤال التقليدي والمر، قلت وبسرعة فائقة وبطريقة مبرمجة حفظتها في المدرسة والمسجد ومن الصحف والتلفزيون: لقد أصبحنا هكذا لأننا ببساطة تخلينا عن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله. لا أذكر تحديداً ما قاله تعقيباً علي، ولكني شعرت وقتها بشيء من الحرج لأن من كان يجلس بجواري من الجهة الأخرى كان قبطياً.
كان هذا قبل عشر سنوات، ومنذ ذلك الزمن، بدأت الأسئلة تنمو كالأشواك في رأسي: ترى هل تخلفنا ناتج عن البعد عن كتاب الله وسنة رسوله؟ هل يحتوي المصدران التشريعيان على كل الحلول لأسئلة ومشاكل التخلف الحضاري والثقافي والعسكري والعلمي الراهن؟ لكن لماذا لم ينقذ تمسك السعودية مثلاً بالكتاب والسنة على المستويين الحكومي والشعبي من الخروج من ربقة التخلف؟ ولماذا تعاني أفغانستان المليئة بالمجاهدين القابضين على جمر الكتاب والسنة من التمزق الداخلي والاقتتال القبلي والمذهبي؟ ولماذا لم ينقل تمسك الحكومة الإسلامية في السودان بالمصدرين التشريعيين البلاد من خانة الفقر والعجز والحرب إلى خانة القوة والازدهار؟
اكتشفت أني بلا وعي كنت أردد عبارات حركات الإسلام السياسي التي ترفع شعار الإسلام هو الحل، وأتباكى مع المتباكين من الجماعات السلفية على زمان السلف الصالح وذكريات الجيل الذهبي الذي لم ولن يتكرر. وهذا زميل جمعتني به ظروف الدراسة فترة من الزمن. كان رغم ما يمتاز به من خفة الظل وطيبة القلب شديد الاعتزاز بالماضي وبشخصياته التاريخية تصل إلى درجة التقديس والافتنان. كان لا يتورع بمناسبة أو بدون مناسبة على حشر عصر النبوة والصحابة في كل صغيرة وكبيرة. اشتكى أحدهم من تأخير في انجاز معاملة إدارية خاصة به، فقال زميلي دون أن تنطفئ ابتسامته الدائمة عن محياه: لا تستغرب! فلقد ولى زمن الصحابة. غريب! لماذا عاد إلى القرون الغابرة ولديه نماذج إيجابية معاصرة يمكن استعارتها من الحضارة الغربية؟ أم أن كراهيتنا للغرب تجعلنا لا نرى حتى مزاياه؟!
ـ 2 ـ
أسطرة الماضي بكل ما فيه من شخصيات وتجارب ونماذج هو امتداد لنفوذ النقل على العقل وهيمنة التقليد على الإبداع. وهو فوق ذلك مؤشر على إفلاس المجتمعات الإسلامية اليوم من امتلاك أي مشروعات معاصرة وحضارية. التمرغ في تراب الأمس والتبرك بالأسماء القديمة يشبه من يتعاطى المخدرات للهروب من مواجهة الواقع وتحدياته. لماذا يتمسك أبناء اليوم بحبال الأمس؟ هذا سؤال صعب. ولكن السؤال الأصعب منه والذي يحتاج إلى جرعات من الشجاعة أن نقول: هل صفحة الماضي شديدة البياض؟ أو بشكل أدق، هل كل من جايل النبي محمد وأشهر إسلامه هو بالضرورة عظيم واستثنائي لا نظير له؟ وهل كانت كل عناصر المجتمع النبوي والراشدي مطهرة من كل شائبة وخالية من كل منقصة؟ الإجابة على تلك الأسئلة تستدعي قراءة عقلانية بعيدة عن الانفعال والتعصب والأحكام المسبقة والإجابات الجاهزة. لكن المشكلة أننا أمام ثلاثة أنماط من البشر. الطبقة الأولى، وهي الأكثر عدداً، لا تقرأ لما تتلمذت عليه من كسل ثقافي و خمول فكري. ولأنها لا تقرأ فهي تستبدل الثقافة المكتوبة بالثقافة الشفهية. وهي الأكثر وفاءً للفكر التقليدي، والأسرع لتقبل ما يلقى عليها خاصة من شيوخ الدين الذين يريدون العودة بعقارب الزمن للوراء. وهذه الطبقة ذات ثقافة هشة تقف عند أعتاب ما يتلى عليها في وسائل الإعلام الموجهة، وأشرطة الكاسيت التضليلية لمشايخ الصحوة والإسلام السياسي، وما تلقفته من الكتب المدرسية المتواضعة.
الطبقة الثانية، تقرأ، وأحياناً بكثافة، ولكن دون أن تعي ما تقرأ أو تفهم ما وراء السطور. هالة التقديس التي تحيط بشخصيات الماضي تجعل هؤلاء القراء لا يرون إلا ما هو جميل وعظيم حتى ولو كان ذلك معاكساً للواقع والمنطق والأخلاق. فعلى سبيل المثال، زميلي السابق المفتون بالصحابة كان يتحدث بانبهار وإعجاب شديد بأحد أصحاب النبي محمد عندما بقي لعدة أيام جامداً لا يبرح مكانه فيما لسانه يلهج بدعاء واحد. يقال أن من يكرره كل مرة سيبنى لقائله بيتاً في الجنة (!). شخصياً، أرى أن سلوك هذا الصحابي لا يدعو للإعجاب بل إلى التعجب أو لنقل الامتعاض، ولثلاثة أسباب منطقية على الأقل:
الترديد القياسي لهذا الدعاء لا يعبر عن علاقة حب خالي من الفوز بأي عطايا ومنافع أخروية. فالصحابي كان يردد هذا الدعاء تحديداً ليفوز بجوائز مادية في الجنة وليس حباً خالصاً في الله.
ألا يكفي الحصول على بيت واحد في الجنة؟ بيت واحد في السماء مهما بدا متواضعاً هو أكبر وأجمل وأوسع من كل قصور الدنيا. ما الذي سيفعله بآلاف القصور وملايين الغرف فضلاً عن الخدم والحشم وحور العين؟ لو قيل الدعاء مرة واحدة لكان مفهوماً ولكن أن يعاد مرات ومرات فهو مؤشر على طمع وجشع لا مبرر له.
بقاء الرجل في مكانه لترديد دعاء بعينه دون القيام بأي نشاط اقتصادي من زراعة أو رعي أو تجارة يتنافى مع كل القيم والمعايير حتى الإسلامية التي تحبذ الرجل القوي على الضعيف والعامل على الخامل.
ولو قيل أن هذا الرجل كان من المتصوفين المتأخرين لعد تصرفه مستهجناً ومذموماً، إذ يؤخذ على دراويش المتصوفين الخمول والتواكل، ولكن لكونه صحابي فكل ما يفعله المليح مليح!!!
الطبقة الثالثة، تقرأ وبكثرة ولكن بتحيز وبتقصد. تنتخب من التاريخ ما يروق لها وينسجم مع بنود أجندتها ومشاريعها. التاريخ لديها مثل أرفف السوبر ماركت المليئة بكل ما تحتاج إليه. إذا أرادت سلماً، مدت يدها إلى آيات وأحاديث وروايات ومواقف مغلفة بروح التسامح والمحبة. وإذا أرادت حرباً، مدت يدها إلى آيات وأحاديث وروايات ومواقف تنضح بالتهجم والكراهية. تتحدث عن الشورى لدى أبي بكر الصديق مرتكزة على خطبته بعد مبايعته خليفة للمسلمين، وتغض الطرف عن ديكتاتوريته وانفراده بالقرار في حرب من امتنعوا عن أداء الصدقات بالرغم من اعتراض الصحابة وعلى رأسهم وزيره وذراعه الأيمن عمر بن الخطاب. تتحدث برومانسية عن زهد الفاروق عمر في ملبسه ومأكله وسلوكياته اليومية وتطمس ما تذكره كتب التاريخ من دفعه من بيت مال المسلمين للآلاف المؤلفة من الدنانير مهراً للزواج من ابنة علي بن أبي طالب التي كانت تصغره بحوالي خمسة عقود!!
ـ 3 ـ
قراءة أسباب نزول بعض الآيات القرآنية تزيح الستار عن بعض ملامح هذا المجتمع النبوي، وتزيل هذا الالتباس التاريخي الذي يحكم عقول غالبية المسلمين. التمعن في تلك الآيات يكشف بلا مراء أن المجتمع النبوي كباقي المجتمعات الإنسانية، يتعايش فيه الخير والشر، ويجاور فيه الطيب الخبيث، ويحيا فيه الصالح والطالح. عناصر هذا المجتمع لم تهبط من الفضاء، ولم تكن ملائكة مجنحة، فكل فرد فيه هو بصمة فريدة يحمل في داخله صفات جيدة ورديئة. إن صبغ هذا المجتمع بالمثالية فيه انتزاع لإنسانيته وحقه في أن يصيب ويخطئ. الإسلام ليس بجهاز آلي من يدخل فيه يولد من جديد. ليس كل من اسلم وقتها كان يملك الخيار في هذا الدين. هناك من أسلم خوفاً، وهناك من أسلم طمعاً، وهناك من اسلم تأثراً وتقليداً لأفراد المجتمع. سأنتخب من القرآن وتفاسيره نتفاً لمجرد بيان أن سيرة السلف الصالح ليست ناصعة البياض كما يرسمونها لنا ويحلمون باستعادتها، مع ملاحظة أن الآيات والتفسيرات المبينة أدناه مأخوذة من كتاب الشيخ خليل عبد الكريم (النص المؤسس ومجتمعه: السفر الثاني، دار مصر المحروسة، الطبعة الثانية، 2002).
ـ 4 ـ
"إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استنزلهم الشيطان" (سورة آل عمران: آية 155)
نزلت هذه الآية عندما فر أصحاب النبي يوم أحد بعدما انقلبت موازين المعركة ضدهم. لم يكن من فر بضعة أشخاص بل أن غالبية المقاتلين المسلمين فرت من المواجهة، تاركين النبي محمد مع بضعة من المخلصين من أصحابه يقاتلون ببسالة ضد كفار قريش. وحسب القمي النيسابوري (غرائب القرآن ورغائب الفرقان، المجلد الثالث، ص 307) فإن من بقي وقتها يقاتل ويذود عن النبي: أبي بكر الصديق، علي بن أبي طالب، العباس بن عبد المطلب، طلحة بن عبيد الله، سعد بن أبي الوقاص. ويورد أبو جعفر الطبري في كتابه (تفسير الطبري، الجزء السابع، ص 327) خبراً نقلاً عن عمر بن الخطاب يعترف فيه بأن الآية السالفة نزلت فيه وباقي الصحابة الذين فروا من المعركة. ومن الأسماء اللامعة التي ولت الأدبار يوم أحد كان ذا النورين عثمان بن عفان. يذكر ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف عندما خاصم عثمان أواخر أيام خلافته، قال رداً على الوليد بن عقبة عندما سأله الأخير عن سبب جفوته للخليفة: إني لم أفر يوم أحد ولم أتخلف عن بدر. وهو هنا يعرض بالخليفة ويعيره (تفسير ابن كثير، الجزء الثامن، ص 126).
"ومن يوليهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا لفئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير" (سورة الأنفال: آية 16)
سجل الشيخ أبي عمر نادي الأزهري (نهاية السؤال فيما استدرك على الواحدي والسيوطي من أسباب النزول، ص 124) ما رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال: كنا في غزوة فحاص الناس حيصة، فقلنا: كيف نلقى النبي (ص) وقد فررنا فنزلت: "إلا متحرفاً لقتال". فقلنا: لا نقدم المدينة فلا يرانا أحد، فقلنا لو قدمنا فخرج النبي (ص) من صلاة الفجر، فقلنا: نحن الفرارون، قال أنتم العكارون فقبلنا يده، فقال: أنا فئتكم.
"ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" (سورة التوبة: آية 25).
مرة أخرى يتكرر السيناريو، فيولي عناصر الجيش الإسلامي الكبير الأدبار، بعدما توقعوا نصراً سهلاً لكثرة عددهم والبالغ حوالي أثنا عشر ألف. أما النبي محمد فقد بقي في نفر قليل من أصحابه، ومنهم علي أبي طالب، العباس بن عبد المطلب، أسامة بن زيد، أبي بكر الصديق، عمر بن الخطاب.
ـ 5 ـ
"وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين" (سورة هود: آية 114).
أخرج الترمذي والنسائي والبخاري في تاريخه والواحدي عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا، فقلت إن في البيت تمرا أطيب منه، فدخلت معي البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب، فأتيت عمر فذكرت ذلك له، فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحد فلم أصبر فأتيت رسول الله (ص) فذكرت له ذلك فقال: أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا، حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا في تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال (أي أبي اليسر) وأطرق رسول الله (ص) حتى أوحى الله إليه الآية أعلاه.
"واللذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنبهم" (سورة آل عمران: آية 135).
أخرج الثعالبي عن مقاتل عن الضحاك عن أبن عباس أنه قال: هو (أي المقصود في الآية) نبهان التمار، أتته امرأة جميلة، تبتاع منه تمرا، فضرب عجيزتها، فقالت: والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فسقط في يده فذهب إلى النبي (ص) فأعلمه، فقال له: إياك أن تكون امرأة غاز؟ فذهب يبكي يصوم النهار ويقوم الليل فأنزل الله عز وجل في اليوم الرابع هذه الآية. فأرسل إليه فأخبره، فحمد الله وأثنى عليه وشكره وقال: يا رسول الله هذه توبتي فكيف لي بأن يقبل شكري؟ فأنزل الله عز وجل: "وأقم الصلاة طرفي النهار...".
وهناك أكثر من رواية تدور حول ذات موضوع التحرش الجنسي بنساء المغيبين مما يشي عن تفشي ظاهرة داخل أوساط المجتمع المديني وليست مجرد حالة فردية لا حكم لها. وحسب الشيخ خليل عبد الكريم في كتابه المذكور (ص58) فإن تكرار سؤال أبي بكر وعمر: لعلها زوجة مغيب في سبيل الله؟ ينبئ عن تلمسهما لأبعاد مشكلة اجتماعية عامة متفشية، وهو ما يتعارض مع الصورة الوردية التي ترسم لنا مجتمعاً ملائكياً خالياً من الهفوات والنزوات البشرية.
ـ 6 ـ
"والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم الله ذلك على المؤمنين" (سورة النور: آية 2)
أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب النبي أن يتزوجها فأنزل الله الآية أعلاه. وجاء في تفسير الجلالين أن الآية نزلت لما هم فقراء المهاجرين أن يتزوجوا بغايا المشركين وهن موسرات لينفقن عليهم (تفسير الجلالين، تصحيح ومراجعة: محمد صادق قمحاري، مكتبة الجمهورية العربية مصر، ص 292). يتضح من تفسير الجلالين أن المسألة لم تكن حكراً على رجل بعينة بل أن فقراء المهاجرين، ومنهم من اضطر إلى ترك أمواله في مكة للحاق بالنبي أرادوا الزواج ببغايا المدينة لضمان مصدر دخل متدفق!!!
ـ 7 ـ
تلك عينات صغيرة مأخوذة من قلب المدينة الفاضلة ومن بواكير القرن الأول الذي هو خير القرون وأفضلها. كل القصص والوقائع مسنودة بآيات من القرآن وبتفاسير الثقاة المعتمدين من المسلمين. وكل القصص أبطالها مسلمون خلص وليسوا بيهود ولا بمنافقين. ليس القصد من المقالة التجريح وكشف العورات، ولكن القصد لفت الانتباه إلى أن جيل السلف الصالح ليس مصنوعاً من الذهب الخالص، فأفراده هم أشخاص عاديون مثلنا، لهم حسناتهم وعليهم سيئاتهم. ولعل نظرة مبتسرة لما جرى بعيد وفاة النبي من أحداث دامية وحروب أهلية أكلت الأخضر واليابس تغني عن الكلام. لكن من يريد أن يصدق وقد ذبحنا عبد الله بن سبأ وقدمنا دمه قربانا للتاريخ ليكفر عن أخطاء السلف الصالح وقتلهم بعضهم البعض؟ يتهمنا المتأسلمون بالانبطاح للغرب الكافر وبالعمالة للإمبريالية واليهودية وهلم جرا... ترى ماذا يمكن أن نطلق على انغماسهم في عبادة الأموات الذين تفصلنا عنهم قرون عديدة؟ أليس هذا بدوره انبطاحاً لجيل نصفه حقيقي ونصفه الآخر مزيف صنعناه بأنفسنا ووقعنا في عبادته والتغني به؟
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط