استرعى انتباهي في الآونة الأخيرة أثناء زياراتي لبعض المكتبات الخاصة والعامة وجود بعض المطبوعات (كتابين ومجلة) مقلوبة الوجه. وبالرغم من أن ذلك التصرف لا يخرج عن كونه ممارسة فردية لا يرقي لمستوى الظاهرة إلا أنه يحمل بين ثناياه بعض الإشارات الخفية، وهي ما أود أن أشاركك بها. الكتاب الأول (لا أذكر عنوانه أو مؤلفه) يناقش فكرة الحوار بين السنة والشيعة، والكتاب الثاني للمفكر السعودي الدكتور تركي الحمد وبعنوان: "من هنا يبدأ التغيير". أما المجلة فهي مختصة بالاقتصاد والإدارة وعلى غلافها صورة صغيرة لسيدة بحرينية سافرة الوجه تشغل منصباً حكومياً. لا يحتاج القارئ إلى قدر من الفطنة للتعرف على هوية الفاعل (اقصد توجهه الفكري والديني) والدافع من وراء سلوكه. إن تراكم مثل تلك المشاهدات مع مرور الوقت أتاح لي الخروج ببعض الاستنتاجات الصغيرة، كما يتضح أدناه:
الملاحظة الأولى: قلب الكتاب الأول يشي برفض فكرة الحوار مع أو قبول المسلم الآخر من الأصل، وبالطبع فالمسألة ـ كما أرى ـ لا تتصل بالشيعي لكونه شيعي بل بكل أصحاب المذاهب وأتباع الحركات الفكرية الأخرى في الإسلام. أما معضلة الكتاب الآخر فهي ليس بمحتواه ومقاصده ولكن بهوية كاتبه والذي يحظى برصيد عالي من الكراهية لدى الشارع الأصولي وحتى لدى شريحة واسعة من التقليدين اللذين لا يثقون إلا بأصحاب اللحى والثياب القصيرة باعتبار أنهم لا ينطقون عن الهوى. أما مشكلة المجلة فتتلخص ببساطة بوجود امرأة خليجية عربية مسلمة سافرة الوجه، وهو ما يصطدم بشده مع دعوات الأصوليين لنفي المرأة بين الجدران الأربعة وإخفاء ملامح وجهها الذي هو هويتها بقطعة قماش سوداء مستوردة من مخلفات الديانات الوثنية باعتبار الوجه عورة وفتنة.
الملاحظة الثانية: من الغريب أن الدوافع الكامنة وراء هذا السلوك يحمل في أحشائه صدّاً مبطناً لفكرة مؤتمر الحوار الوطني السعودي الذي انطلق في الشهور الأخيرة ورفضاً لمنطلقاته شكلاً ومضموناً. فمن الناحية الشكلية، يضم المؤتمر كافة ألوان الطيف التي يرسمها المشاركون بتنوع الإيقاعات المذهبية والفكرية والجنسية التي يمثلونها بعد أن كان الصوت الذكوري والسلفي اللون الوحيد والسائد في الساحة السعودية. أما ما قصدته بمضمون المؤتمر، فهي تلك الموضوعات التي نوقشت حتى الآن فيما يتصل بالاعتراف بالمذاهب الأخرى واحترام التباينات الفكرية والإقرار بوجود المرأة.
الملاحظة الثالثة: قلب الكتاب الأول إشارة إلى أننا سنبقى رهن عقدة سياسية ذات بعد عائلي داخل البيت القرشي، حمل وزرها الأحفاد من بعد، ودفعوا ثمنها من الدماء والأرواح وقرون من التخلف. أما قلب الكتاب الثاني فهو يكشف عن عقدة لدى غالبية المتدينين في فهم الغرب، وتقبل التيارات الفكرية المعاصرة، والإصرار على وصمها بالكفر والإلحاد، إما لحرص فقهاء التخلف على الاحتفاظ بمكاسبهم وعدم التفريط بها وإما لسوء الفهم والمسبوق بموقف صلب وعدائي لطروحات الآخر غير المسلم. وبما أن الدكتور تركي يعد أحد أهم رموز الليبرالية في السعودية، فهو بالتأكيد ـ كما يفكر المتدينون ـ يحمل أفكاراً معادية للدين يريد بثها في أواسط مجتمع دائماً ما يردد بمناسبة وبدون مناسبة على تمسكه بالإسلام عقيدة ومنهج. أما صورة المرأة الموظفة لدى الحكومة فهي تفتح جروحاً غائرة في بنية العقل الوهابي المتكلس، فالمرأة أساس لشرور الدنيا ـ كما اختزلها إمام الحرم المكي سعود الشريم مؤخرا ـ ووجهها سبب الفتن والآثام، وخروجها للعمل تجاوز للسلطة الذكورية البطريركية.
الملاحظة الرابعة: قلب الكتب هو تعبير رمزي يعكس بشكل أو بآخر المزاج الحاد لتلك الفئة المتورطة بوهابيتها، وسعيها الحثيث إلى فرض خياراتها على الغير وفق إملاءات ضميرها الديني ووهم امتلاكها للحقيقة المطلقة.
مسألة أخرى، قلب الكتاب أيضاً تعبير عن موقف تاريخي مارسه بوحشيه جلاوزة السياسة وسدنة الدين في محاربة وقمع الفكر الحر ومصادرته من خلال حرق الكتب وإتلافها لضمان عدم بلبلة أفكار الرعية وفضح المسكوت عنه.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط