ـ 1 ـ
لم أفرغ بعد من قراءة كتاب (تدوين السنة) لمؤلفه إبراهيم فوزي والذي قمت بتحميله من أحد المواقع الأنترنتية والتي توفر لزائريها فرصة نادرة للحصول على مؤلفات المفكرين المسلمين المضطهدة من قبل المؤسسات الدينية التقليدية أو الحكومية باعتبارها نوع من "الهرطقة الفكرية". المهم، الكتاب يحتوي على377 صفحة، وهو يمتاز كثيراً برشاقة عباراته، وجلاء أفكاره، وغزارة معلوماته، وهدوء نقاشاته. ولو أني كنت أملك من الأمر شيئاً لفرضت هذا العمل الجيد على طلاب الجامعات السعودية بدلاً من المقررات الإسلامية الإجبارية ذات الاتجاه الأحادي والحس المتعالي العصي على النقد والمراجعة.
اللافت للنظر أن النبي نفسه تشدد في منع أصحابه من تدوين أقواله في أكثر من مناسبة. كما سار الخلفاء الراشدون في سياسة المنع وخاصة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب إما خوفاً أن يختلط الحديث بالقرآن أو خوفاً من اكتساب الحديث لقدسية تجعله في منزلة القرآن، وإن صح هذا التبرير فهو دليل على امتلاك النبي وخليفتيه لنظرة مستقبلية ثاقبة.
لندع مؤقتاً ما يعتور معظم الأحاديث النبوية من ملابسات كثيرة، مثل افتقادها للمضمون الأخلاقي أو التشريعي، وتصادمها الصريح مع نصوص قرآنية، ومغالطاتها لحقائق علمية وتاريخية، وتحريضها على امتهان المرأة والعنف ضد غير المسلم، فضلاً عن التناقضات الحادة بين الأحاديث بعضها البعض. لنتوقف قليلاً ونتساءل عن مصداقية الأحاديث بما فيها تلك التي توصف بأنها صحيحة. وهنا يقفز اسم أبو هريرة الذي حطم الرقم القياسي برواية (5374) حديث، كل هذا رغم أنه صاحب النبي لمدة عامين! وعلى ما يبدو فإن سيرة الرجل لم تكن على ما يرام بدليل أن عمر بن الخطاب هدده إن عاد لرواية الحديث قائلاً له: "والله لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس (موطن أبو هريرة)". وبعد اغتيال عمر استقطبه الداهية معاوية بن أبي سفيان واسكنه قصره في دمشق مقابل أحاديث حسب الطلب تدعم سياسات معاوية في حروبه ضد خصومة وخاصة علي بن أبي طالب. غير أن الأكثر غرابة أن يروي عبد الله بن عباس (1660) حديثاً سمعها من فم النبي بلا وسيط، مع العلم أن ابن عباس كان في العاشرة عندما توفي النبي! أرجوا ألا يحدثوننا عن قدرات عقلية جبارة تمتع بها الأطفال زمن النبي كما تمتعت ذات السبعة أعوام أم المؤمنين عائشة بقدرات جسمانية تفوق أطفال "ماما نستله".
ـ 2 ـ
يعتقد المسلمون أن صحيح البخاري هو أصح وأصدق الكتب بعد القرآن. التسليم بهذا الإدعاء غير قابل للتفاوض وإلا فإنك كمسلم ستفتح على نفسك أبواب الجحيم. يجب أن تقر وتعترف بذلك حتى ولو قيل لك أن البخاري جمع تلك الأحاديث في القرن الثالث الهجري، فالإيمان لا يمر عبر بوابة العقل بل يرفرف بوداعة كحمامة بيضاء في القلب. يكفي أن تسلم سلسلة الرواة من الجرح ليستقر الحديث في أصح وأصدق الكتب في الدنيا بعد القرآن. ولا تسأل عن متن الحديث ومعقوليته حتى لو نصحك النبي بأن تأخذ بجناح الذبابة الآخر التي سقط نصفها في إنائك لتغمسه في شرابك.
عندما واجه الفقهاء التناقضات بين الأحاديث في صحيح البخاري وبقية الصحاح الأخرى لم يخطر في بالهم أن هناك احتمالاً ولو ضئيلاً أن أحد الحديثين موضوع، بل أخذوا يفكرون في تبريرات واهية منافية للعقل لتقريب المسافات بين تلك الأحاديث، وكأن العيب في عقل الإنسان العاجز عن استقراء الحكمة الكامنة وراء التناقضات الظاهرية! يقدم الباحث إبراهيم فوزي بعض الأمثلة لأحاديث تصيب سامعها بالدوار.
جاء في البخاري ومسلم الحديث التالي: "إذا التقى مسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". يتساءل إبراهيم فوزي: هل نستنتج من هذا الحديث أن أصحاب معركة الجمل وعلى رأسهم علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام سيلقون في النار؟ لكن ألا يتعارض هذا الحديث – والكلام للباحث- مع حديث العشرة المبشرين في الجنة، ومنهم الثلاثة المذكورين؟ وينوه الباحث بالنقاشات التي دارت في الندوة العلمية حول منزلة السنة النبوية من القرآن التي عقدت في طرابلس الليبية عام 1978 وفيها تحدث الرئيس معمر القذافي عن التناقضات في صحيح البخاري مستشهداً بعدد من الأحاديث منها: (خذوا دينكم من عائشة) وحديث آخر: (عائشة ناقصة عقل ودين). وحسب الرئيس القذافي فإن الحديث الأول وضعه أنصار عائشة أما الحديث الآخر فوضعه شيعة علي في معركة الجمل. ماذا علينا أن نفعل حيال ذلك؟ هل نأخذ العلم من عائشة أم نتجاهل ما قالته باعتبارها ناقصة عقل ودين؟ ما أعرفه أننا يجب أن نقبل بالاثنين حتى لو سارا في اتجاهين متعاكسين فالمعنى في بطن القائل.
ـ 3 ـ
يورد الباحث إبراهيم فوزي نماذج كثيرة جداً من أحاديث مشكوك جداً بحقيقتها انتفخت بها أوداج السنة. البعض منها شق طريقه ليحط في الصحاح والبعض الآخر بقي خارج أسوار الصحاح لكنها مازالت تدور مع الزمان وتتسرب فعاليتها الطاغية إلى الكثير من مناحي الحياة.
أحاديث المناقب
استخدم معاوية بن أبي سفيان أثناء صراعه المسلح مع علي بن أبي طالب حرباً دعائية قوامها أحاديث ترفع من شأن الخلفاء الراشدين الثلاثة وتحط من قدر علي. طبعاً لم يكن هذا بالعمل المجاني، فمعاوية كان كريماً ويثمن الرجال كما يجب حيث خصص جعلاً للمرتزقة من الصحابة كأبي هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين كعروة بن الزبير مقابل ابتكار أحاديث من هذا النوع. فعلى سبيل المثال، يروي عمرو بن العاص أنه سأل النبي يوماً: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب". هنا تعمد عمرو إزاحة اسم عثمان بن عفان من مرتبته الثالثة المحجوزة له في هذا الحديث الذي هو أقرب أن يكون من بنات أفكار عمرو للكراهية المتبادلة بينه وبين عثمان! في المقابل، لم يكن خيال الفريق الآخر من أنصار علي بأقل خصوبة من خصومهم بوضعهم أحاديث نبوية ترصع صدر علي بنياشين محمدية وتملأ ملفه الشخصي بشهادات التقدير والشكر جزاءً على تطاول خصومهم في الشام على رمزهم الروحي والتاريخي.
أحاديث الخروج على الإمام
كان لغياب القانون وافتقاد المسلمين لوجود أنظمة وضعية تشرعن اختيار الحاكم وتقنن آليات انتقال السلطات وتتدخل عندما يحيد الحاكم عن مساره دوراً في الانفلات السياسي وتفجر الخلافات العنيفة. ولعل التفاوت الواضح بين صور تناقل الحكم بين الخلفاء الراشدين دليل بارز على افتقاد الحياة السياسية لإطار نظري يحكمها سلمياً دون الحاجة لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح. زد على ذلك، أن الإسلام وهو تأيدولوجيا السائدة والمقبولة وقتها لم يقدم الحلول الناجعة والشافية، بل أنه كدين تم توظيفه لإحكام السيطرة على مقاليد الحكم وامتصاص حالة الحنق الشعبي باختلاق أحاديث تحذر من مغبة عصيان إرادة الحاكم والخروج عليه. وكالعادة عمل الأمويون على بث أحاديث تهدف إلى نزع فتيل التمرد وإقرارهم على الخلافة التي اغتصبوها عنوة.
لنتأمل في بعض الأحاديث التي شاعت بين الناس والتي مازال فقهاء السلطان ليومنا هذا يستخدمونها كغطاء شرعي تتكسر أمامه محاولات التغيير ورغبات التصدي للنظم القمعية. ويلفت الباحث إبراهيم فوزي إلى نقطة على قدر من الأهمية وهي أن معظم الأحاديث المنسوبة للنبي بشأن طاعة الإمام تنسب رواياتها إلى صحابة امتد بهم العمر طويلاً ليعاصروا نشأة الدولة الأموية وما صاحب قيامها من ثورات وحروب متواصلة.
حديث رواه مسلم أن النبي قال: "ستكون هنات وهنات. فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان". أليس هناك آيات وأحاديث ينفي النبي فيها علمه بالغيب؟ ألا يعد هذا من التناقضات التي أشرت إليها سابقاً؟
حيث رواه عبد الله بن عمر أن النبي قال: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
حديث رواه عبد الله بن عباس (تذكر أنه كان في العاشرة عندما مات النبي) أنه سمع النبي يقول: "من كره من أميره شيئا فليصبر عليه. فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتة الجاهلية".
حديث رواه حذيفة بن اليمان أن النبي قال: ".. تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
أتساءل.. أي نوع من الحياة تريدها لنا تلك الأحاديث؟ هل الوقوف في وجه الظلم والفساد جريمة تستحق الموت في الدنيا والنار في الآخرة؟ لا شك أن مثل تلك الأحاديث هي من صنع الطغاة الذين لا يملكون من شرعية سواء الالتحاف بأحاديث وآيات تعد من يخرج على إرادة الديكتاتور بالويل والثبور وعظائم الأمور. ومرة أخرى يتساءل إبراهيم فوزي عن مصير كل حركات التمرد التي قادتها ـ على سبيل المثال لا للحصر ـ الزبير وطلحة وعائشة ضد علي بن أبي طالب، والحسين ضد يزيد بن معاوية، وزيد بن يحيى على هشام بن عبد الملك. ما حكم الشرع في هؤلاء؟ وهل سيفضي بهم خروجهم على الخليفة إلى النار؟ سؤال يستحق التفكير. أليس كذلك؟
أحاديث العبادات
هناك نوع من الأحاديث التي تزايد على إسلام المرء بقصد ترغيبه في الآخرة وتحبيبه في الجنة وتخويفه من النار من خلال إشغاله بالنوافل والأدعية والزهد في الحياة. وهذا النوع من (الكذب الأبيض) إن صح التعبير لا يختلف عن القصص الكاذبة والإشاعات التي لا يخجل المتدينون اليوم من اختلاقها والمزايد ة عليها بهدف حمل الناس وخاصة النساء على سلوك معين كارتداء العباءة وفق شكل محدد وتقليل الخروج من البيت وما إلى ذلك. أحد هؤلاء الذين تخصصوا في وضع هذه الأحاديث الكاذبة رجل اسمه عبد الله بن المسور والمعروف بأبي جعفر المدائني، وقد سئل يوماً عن سبب ترويجه لأحاديث مختلقة في العبادة والزهد فقال: إن فيه أجراً. وروي عن أبي عصمة نوح ابن مريم أنه وضع أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة بعنوان "من قرأ سورة كذا فله ثواب كذا.." ولما سئل من أين له تلك الأحاديث، قال: "لما رأيت الناس اشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن أسحاق، وأعرضوا عن حفظ القرآن، وضعت هذه الأحاديث حسبة لله". غريب أمر أبي عصمة هذا! يجر الناس بالسلاسل إلى الجنة ويعرض نفسه للنار وكأنه لم يسمع بحديث النبي الذي قال فيه: "من كذب علي فليتبؤ مقعداً في النار". عندما قرأت هذه المعلومة بدأت اشكك في تلك الأحاديث التي تعد من يردد جملة بعينها بجنان وقصور ونخيل أكثر مما يحتاجه الإنسان العادي إلا إذا كان قانون تناقص المنفعة الحدية الاقتصادي لا يعمل في الجنة!
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط