ـ 1 ـ
لنتأمل بهدوء ثلاثة مواقف صغيرة من عهد النبوة المحمدية، سطرها أصحاب النبي محمد بشجاعة لا نظير لها:
الموقف الأول:
(عن أبي الزناد قال: شهد أبو حذيفة بدراً ودعا أباه عتبه إلى البراز). بعد انقضاء المعركة، أمر النبي محمد بأن يُسحَبَ صناديد قريش المقتولين من أرجلهم ويرموا في القليب، ومنهم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد ابن عتبه. لما رأى أبو حذيفة هذا المنظر المؤلم بان الحزن عليه، فنظر النبي إليه نظرة ذات مغزى، وقال: يا أبا حذيفة كأنك ساءك ما أصاب أباك (!)، قال: لا والله يا رسول الله ولكني رأيت لأبي عقلاً وشرفاً كنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام فلما أخطأه ورأيت ما أصابه غاظني.
الموقف الثاني:
(عن ابن اسحاق أنه قال: أن رسول الله قال بعد قتل كعب بن الأشرف (من سادة اليهود اغتيل بأمر من النبي): من ظفرتم به من يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله (!) وكان حويصة بن مسعود (أخو محيصة) إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتل جعل حويصة يضربه ويقول أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فقال محيصة: والله لقد أمرني بقتله (يقصد محمداً) من لو أمرني بقتلك لقتلتك (!)
الموقف الثالث:
(عن ابن اسحاق أنه قال: أن رسول الله قال ليامين (أحد اليهود الذين أسلموا): ألم ترَ ما لقيت من ابن عمك وما همّ به من شأني، فجعل يامين لرجل جعلاً (مكافأة) على أن يقتل له عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون، وكان يامين بن عمير (أبو كعب) بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما أحرزاها) وفي رواية أخرى، أن ابن يامين جاء إلى النبي فأخبره بقتله فسر بذلك (!)
ـ 2 ـ
الصحابي الأول يدعو أباه للقتال، ثم يغالب حزنه الفطري بعدما اخترقت رأسه عينا محمد المتشككتان، وهو يرى أباه يجر كجيفة ويرمى في الجب. أما الثاني فلم يكتف بعض اليد التي كسته شحماً ولحماً، بل ويهدد بقتل أخيه الأكبر فيما لو أمر. أما الثالث فيجعل رأس ابن عمه الذي يشاكس النبي دليلاً دامغاً على إسلامه وضماناً لصون ماله من المصادرة.
كيف ينظر غالبية المسلمين لمثل تلك الحكايات المضرجة بالدم، والمستوحاة من عهد النبوة الذهبي، والعصي على النقد والمساءلة؟ ماذا يرمي معلم الدين الذي يغرس شتلات الظلام في رؤوس النشء وهو يسوق تلك القصص بافتخار؟ ماذا يبغي الشيخ الذي يوزع أكفان الموت على مريديه وهو يترحم على زمان أولئك الأبطال؟ عندما تستعاد تلك (البطولات) يجب أن ننزع من قلوبنا أسلاك العواطف، وأن نخرج من ثقب المشاعر الإنسانية الضيقة إلى فضاء الإيمان الرحب. من منا قد سمع استغاثة العجوز أم قرفة وهي تشق إلى نصفين بأمر من الصحابي الجليل زيد بن حارثة بعدما علت أصوات التكبير في الأرض لتتعانق مع تكبيرات الملائكة في السماء؟ ألا يخفق حزن نبيل في قلبك وأنت تتخيل الصحابي الكريم عمير بن عدي وهو ينتزع الرضيع من صدر أمه عصماء بنت مروان ويلقيه بعيداً قبل أن يغرس سيفه في صدرها حتى ينفذه من ظهرها؟ لا فرق لدي بين صيحات "الله أكبر" وهي تشتبك فوق دماء القتلى وبين صرخات وغناء ورقصات القرطاجيين وهم يقذفون بفلذات أكبادهم في محرقة الإله بعل حتى يرفع الإله الحصار عن المدينة المنكوبة. في كلا الحالتين، داس العباد المخلصون على قلوبهم ليفوزوا برضا الله. نحن أيضاً يجب أن نسير فوق خنجر العذاب كما فعل أبو حذيفة حتى لا نسقط في بئر الكفر السحيق.
ـ 3 ـ
مات النبي محمد، فخلفه أنصاف وأرباع أنبياء كابن لادن والزرقاوي. ومات أبو حذيفة ومحيصة ويامين وزيد بن حارثة وعمير بن عدي، فأنبتت أرض الإسلام المباركة والولودة مئاتٍ بل ألافاً من شبابٍ غض بعمر الزهور. شباب شرب من حليب العهد النبوي الصافي، فاستغنى به عن متاع الدنيا وزخرفها. شباب يتنسم ريح الجنة وعطر نسائها اللاتي يزف إليهن على أشلاء الموتى. من قال أن "شباب الأمة" لا يرقون إلى قدمي أبي هريرة أو نعال صهيب. إذا كان صحابي الأمس يقتل واحداً، فإن مجاهد اليوم يقتل عشرة، وإذا كان صحابي الأمس يقتل عشرة، فمجاهد اليوم يقتل مائة. ليست هناك من فوارق شاسعة بين النموذجين، فالأول كان يتلقى الأمر فيتحسس سيفه دون أن يقدح زناد عقله، والثاني يتلقف الفتوى من شيخه أو الأمر من أمير جماعته فيعتمر حزامه المتفجر ولا يخلو ولو دقائق مع عقله الذي تنازل عنه بعدما اشترى الآخرة بالدنيا. الأول لكي يفوز برضا الله ورسوله ترك الشوك يغزو قلبه فأذاق طعم الموت أقرب أهله، والثاني لكي يرضي الله ورسوله وشيخه وأميره انسلخ من قلبه لينشر ظلال الموت الأسود.
من المقبول أن نرضى بإسلام فاقد للعقل، شأنه كباقي الأديان التي تمنح معتنقيها الطمأنينة والدفء والخلاص، لكن أن يولد هذا الدين بأنياب ومخالب تسفك الدم وتزرع الموت فهذا مما لا يحتمل ولا يطاق.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط