ـ 1 ـ
من يقرأ كيفية صعود وأفول الأديان وتحولاتها يستطيع أن يلمح قانوناً أزلياً يحكم تطور تلك الأديان وصيرورتها، سواء أكانت وثنية أم سماوية، ألا وهو أن الدين اللاحق لا يبصر النور دون امتصاص مقومات الدين السابق من أساطير وأفكار وعبادات وتصورات ما بعد الموت. الإسلام بدوره لا يعتبر استثناء من القاعدة. إن إزاحة القشرة الظاهرية عن جلد الإسلام ستكشف عن طبقات يهودية ومسيحية وزرادشتية ومندائية. وإذا واصلت الحفر أكثر ستصل إلى طبقات ورواسب وثنية، وما هذا إلا أن الأديان عامة نتاج تصورات واجتهادات بشرية تراكمت مع مرور الزمن.
إذا كان شعار "الإسلام يجبّ ما قبله" قد وفر لمعتنقي الدين الأوائل الخلاص من ماضي الوثنية والتمتع بحماية الدين الصاعد بقوة، إلا أنه وللأسف قد تحول هذا الشعار إلى نار تحرق مخزون الذاكرة البشرية لتعيد كتابة التاريخ من نقطة الصفر. إن طمس التاريخ والتعتيم على ما قبل ميلاد الإسلام، على اعتبار أن ما وراء ظهر الإسلام ليل طويل غارق في الظلام والهمجية وعبادة الأوثان، يذكرني بمشهد حرق قبائل التتار البدوية لمدينة بغداد، حاضرة الخلافة الإسلامية، وإتلاف مكتباتها الضخمة في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية. صحيح أن المسلمين لم يتورطوا في ارتكاب مجازر وحشية كما انفرد بها التتار، لكننا في كلا الحالتين أمام هجمتين رعويتين، احداهما انطلقت من أواسط آسيا والأخرى من جزيرة العرب، لتطيحا بالحضارات القائمة، وهو ما يشف بشكل أو بآخر عن صراع أزلي بين قيم الحضارة (المزارع) والبداوة (الراعي).
ـ 2 ـ
إن دراسة الأديان القديمة، وتحديدا السومرية والبابلية، يوحي بكثير من التطابقات ما بين تلك الأديان الوثنية والدين الإسلامي فيما يتصل بتسلط الفكر الديني وتغلغله على الصعيد الفردي والمجتمعي، وعلى رؤية الإنسان وفهمه للحياة وتصوراته لما بعد الموت مع الإقرار بوجود اختلافات جمة على مستوى التفاصيل الجزئية. وباعتقادي الخاص، فإن النزعة التوحيدية للإسلام مقابل التعددية في تلك الأديان الوثنية لا تلغي إيمان الإنسان هنا أو هناك بوجود قوى ميتافيزيقية تسيطر بالكامل على الكون وتتحكم بمصائر الأفراد والشعوب والكائنات.
إن كثيراً من القيم الدينية التي كانت تؤطر سلوك الإنسان السومري أو البابلي أو الآشوري قبل آلاف السنين هي ذاتها التي تحكم سلوك الإنسان المسلم اليوم وتوجهه. وإليك نماذج منتقاة من الماضي مازلت تتردد أصداؤها إلى يومنا هذا.
ـ 3 ـ
المرأة: تفكيك بنية الأسطورة الدينية يتيح للباحث قراءة عامة للمزاج الشعبي والوقوف على المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي السائد آنذاك. منذ انصرام العصر النيوليتي، حيث سادت الزراعة وعلت عبادة الأنثى التي يعود لها اكتشاف الزراعة، بدأ الرجل يسود وبدأت ملامح النموذج البطريركي تتشكل بسرعة. في ملحمة الخليقة البابلية الشهيرة يتصدى الإله الشاب الشجاع "مردوخ - ذكر" لإلهة العماء والسكون "تيامت - أنثى" ليشطرها إلى نصفين، مدشناً عاماً جديداً يمور بالحركة والحيوية والبناء. حتى إلهة العالم السفلي التي تحكمها "أرشكيكال – أنثى" لم تستطع مقاومة الانقلاب الذكوري المتمثل في الإله "نرجال – ذكر" الذي أهانها فلم تجد بدا من الاستسلام له والزواج منه والعيش في ظله. الواقع الحياتي والتنظيمات القانونية في بلاد الرافدين كانت متناغمة مع إيقاع الصراع بين الذكر والأنثى. الرجل صاحب الصلاحيات شبه المطلقة كان يملك الحق في اقتناء الإماء للمتعة، أما المرأة التي يضبطها الزوج مع رجل آخر فله أن يرميها في النهر أو يعفو عنها لتتحول إلى أمة مملوكة. القوانين الأشورية المتشربة بروح العنف أطلقت الصلاحيات للرجل أن يضرب زوجته وينتزع شعرها ويشق أذنيها في حالات معينة. المرأة ليس لها الحق في أن تقبل أو ترفض العريس المتقدم لها، فالكلمة الأولى والأخيرة لوالدها.
الإسلام لم يحمل الخلاص للمرأة كما يشيعه الكثيرون زوراً وبهتاناً، معتمدين دوماً على تحريم الدين لوئد البنات (لفظ المؤودة في القرآن يشير إلى النفس والتي من الممكن أن تكون ذكر أو أنثى) وعلى منحها نصف حظ الذكر من الإرث. ولو افترضنا جدلاً أن الإسلام كان تقدمياً بالنسبة للعصر الذي ولد فيه إلا أنه بمقاييس عصرنا هذا يعد متخلفاً أمام مبادئ حقوق الإنسان التي ساوت بين المرأة والرجل في وقت مازال فقهاء المسلمين يصرون بعناد على عدم أهلية المرأة وعلى نقص عقلها. من الجائز أن تكون تفسيرات وأهواء الفقهاء هي من تجعل الإسلام ظلامياً ومتحجراً لكن في الوقت ذاته من الصعب تجاهل الرصيد الهائل من الأحاديث النبوية والنماذج المروية من داخل مجتمع يثرب والتي تصور المرأة بأنها مخلوق لا يصلح إلا للخلف والعلف، على حد تعبير الدكتور شاكر النابلسي.
سؤال: هل مازال حديث الآحاد المنسوب إلى الصحابي أبي بكر، والذي يقال أنه تذكره عندما كانت عائشة تحرض على قتال علي بن أبي طالب في موقعة الجمل (ما فلح قوم ولوا أمرهم امرأة) صامدا أمام نجاحات نسائية خلاقة قبل الإسلام (زنوبيا في تدمر، وبلقيس في اليمن)، وأثناء الخلافة الإسلامية (الملكة أروى في اليمن، والسلطانة شجر الدر في مصر)، وفي العصر الحديث (جولدا مائير في إسرائيل، مارجريت تاتشر في إنكلترا، إنجيلا مركل في ألمانيا)؟
ـ 4 ـ
الحجاب: إن تغطية الشعر لم تكن حكراً على النساء بل حتى الرجال أثناء صلواتهم للآلهة والوقوف بين يديها.
ففي مصر مثلاً كان رجال ونساء الفراعنة يحلقون شعورهم بالكامل دلالة على الخضوع للآلهة. وحتى اليوم نجد البوذيين والهندوس يحلقون رؤوسهم عند ممارسة طقوسهم الدينية. وإذا كان حلق الشعر دليل على الخضوع والانصياع للآلهة فربما يكون تشدد الأديان الوثنية في بلاد الرافدين على تغطية النساء الحرائر لشعورهن تأكيداً لخضوع المرأة للرجل القوي. لقد بلغ – مثلاً - من تشدد القوانين الآشورية المعروفة بقسوتها بخصوص الحجاب أن يضع المشرع الآشوري القانون التالي: "لا يجوز للمرأة الحرة الخروج للشارع حاسرة الرأس، حتى السرية التي تخرج مع سيدتها عليها أن تتحجب وكذلك البغي المقدسة التي تزوجها رجل، ولكن التي لم تتزوج فعليها ألا تتحجب، والزانية لا تتحجب. وعلى كل من يرى زانية محجبة أن يلقى القبض عليها، ويجلبها للقصر، وعليه أن يأخذ ملابسها دون حليها. ويجب ضربها خمسين ضربة بالعصا، وصب الزفت على رأسها..."
الإسلام بدوره ليس "نبتة شيطانية" بل تجمعه بالأديان السابقة صلات قرابة وثيقة، ولهذا فقد أخذ بالحجاب، دون أن نغفل مساهمة فقهاء المسلمين وتردي الأوضاع الاجتماعية والثقافية في تأصيل الحجاب بإضفاء هالة من القداسة عليه. الطريف هنا أن فكرة الحجاب لم لتكن جزءاً عضوياً من الفكر الديني الإسلامي ومرتكزاته الجوهرية كما نراها اليوم لولا إلحاح عمر بن الخطاب على تحجيب نساء الرسول ".. وإذا سألتموهن (أي نساء النبي) متاعاً فأسلوهن من وراء حجاب.." (سورة الأحزاب: آية 53)، ولولا مشاكسات بعض رجال المدينة وتحرشاتهم بالنساء الخارجات لقضاء حاجاتهن في العراء "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" (سورة الأحزاب: آية 59). والحجاب في الآية الأخيرة ليس نظاماً أخلاقياً أو دينياً كما يتوهم أو يصر البعض، ولنا أن نكتفي بما كتبه القرطبي تفسيراً للآية الأنفة "لما كانت عادات العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوهن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن أمر الله رسوله أن يأمرهن بارتداء الحجاب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء.. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فبتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي فنزلت هذه الآية".
إذا الحجاب الإسلامي ما هو إلا تكريس للطبقية التي مارسها من قبل الوثنيون. وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب الذي كان عندما يطوف شوارع المدينة ويجد أمة محجبة يضربها بدرته الشهيرة حتى يسقط عنها الحجاب وينهرها بقوله: "فيم الإماء يتشبهن بالحرائر؟".
سؤال: إذا كان للحجاب غاية أخلاقية كما يدعي المتحمسون له، فلماذا تحرم الأمة المسكينة من هذا؟ أليس للأمة قيمة إنسانية أو أخلاقية في الإسلام؟!!!
ـ 5 ـ
سطوة الإله: استعراض الأساطير والأفكار الدينية الوثنية يشي بضخامة الآلهة وتعدد أدوارها مقابل ضآلة الإنسان وتفاهته عند مقارنته بالآلهة. لقد ابتدع العقل البشري في ظل عجزه عن فهم ظواهر الكون وقوانين الطبيعة شجرة هائلة من الآلهة، ووكل لكل إله دوراً ما، ثم خر لها ساجداً! الإنسان السومري والبابلي الذي لم يكن يعرف كيف جاء، ومن أين انحدر، اعتبر أن سبب مجيئه للحياة كان من أجل التخفيف على الآلهة الصغار التي عانت من إرهاق العمل اليومي وطلبات الآلهة الكبرى. الدين الإسلامي استعار نفس المنطق مع بعض التعديلات الطفيفة. الله العربي ليس بحاجة إلى إسداء خدمات يومية من الإنسان، بل هو في غنى عنها مادام أنه يقول لكل شيء كن فيكون، فكل ما يبتغيه أن يعترف الإنسان به وبحق عبادته دون شريك.
الآلهة القديمة تملك حق الخلود، وتملك نواميس الكون وألواح القدر ومصائر البشرية. إذا غضبت على عبيدها من البشر سلطت عليهم الأمراض والأعاصير والفيضانات. وإذا رضيت وأحبت عبيدها منحتهم ثمار الحقول وخيرات الأرض والبحر. عندما يدب الجدب وتنشف عروق الأرض فهذا لأنّ الإله الراعي "تموز أو دموزي" قد تم حجزه في العالم السفلي المخيف، وعندما يثور النهر ويغرق العباد والبلاد فهذا لأنّ ضجيج البشر سرق النوم من عيون الآلهة في السماء، وعندما تكتسح الأمراض والأوبئة الفتاكة المدن فهذا لأنّ "إير" إله الطاعون قرر أن ينفض الغبار عن سلاحه الفتاك الذي علاه الصدأ بسبب إيثاره للدعة والكسل.
الإسلام أزاح كل الآلهة المنافسة من الوجود لتصب كل المهام وكل القوى بيد الله دون سواه. وكما كانت الآلهة القديمة، فالله خلق الكون وقدر أعمال البشر منذ البداية وإلى النهاية. ما يجري للإنسان من خير أو شر هو بتقدير من الله، وما يجري للأمم والحضارات من صعود أو هبوط هو بتدبير من الله. التفسيرات العلمية والتاريخية لحالات الحرب والهزائم والكوارث الطبيعية لا تلغي الإرادة الإلهية التي تملك مفاتيح كل شيء. عندما ضرب إعصار "كاترينا" ولاية لويزيانا الأمريكية هلل المسلمون لأن الله انتقم من جرائم بوش في أفغانستان والعراق وفلسطين بتشريد الفقراء السود الأمريكيين تماماً كما ينتقم بن لادن والزرقاوي من الأنظمة السياسية بتقتيل المدنين الأبرياء!! الرد بالنفي جاء سريعاً من باكستان الإسلامية حيث قضى أكثر من خمسين ألف تحت الزلزال.
سؤال: هل يا ترى الله يختبر صلابة إيمان الشعب الباكستاني وصبرهم على الشدائد أم ينتقم من الجنرال بارويز مشرف الذي يحارب مع الرئيس بوش ضد الأصولية الإسلامية؟
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط