هناك عبارات كثيراً ما يحتفي بها الخطاب الديني بمختلف إيقاعاته ودرجاته مثل "الإسلام دين الرحمة"، "الإسلام رسالة السلام"، "الإسلام كرم المرأة"، "الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان"، و"الإسلام هو الحل". يتم تعاطي تلك العبارات وترويجها بكثافة كما لو كانت حقائق ومسلمات مقدسة لا يرقى إليها الشك، ويتم حشو عقول الصغار بها في مراحل تعليمية مبكرة دون التفطن إلى ما قد تسببه من خلق شروخ عميقة في نفوس وعقول متلقيها تمتد بحجم المسافة ما بين رومانسية الشعارات وبريقها ومأسوية الواقع المعاش وتجلياته. وتطبيقاً لذلك، ظلت قطاعات كبيرة من المسلمين تنفي وتدفع باستماتة التهم الموجهة للإسلام والمسلمين بعيد الأحداث المروعة للحادي عشر من سبتمبر وفاءً للشعارات التطهرية والتنزيهية أعلاه ولو كانت الدلائل والبراهين الدامغة تدين تنظيم القاعدة.
سبق لي أن كتبت مقالة سابقة لي بعنوان (الأصل والصورة). تتلخص فكرة المقالة الجوهرية في أننا نرى نصف الحقيقة عندما نكيل التهم ونصب اللعنات على رجال الدين الذين يوظفون النصوص المقدسة لخدمة مآرب السلطان أو الحزب أو لأغراضهم الشخصية، بينما نغفل النصف الآخر من الحقيقة والمتمثل في أن تلك النصوص المقدسة لا تخلو بدورها من التناقضات المحيرة. يستغرب الكثير وجود آيات تحمل غصن الزيتون في وقت توجد آيات أخرى على مقربة منها تشتعل وتضطرب كالجمر. لكن تناقضات القرآن ليست فوضوية كما تبدو، إذ أنها تسلك إيقاعا متصاعدا يسير بالتوازي مع منجزات الدولة الفتية ونجاحاتها. الآيات المكية في مجملها توحي بالسلام والدعة واللين والصبر على تحمل الأذى، أما الآيات المدنية فتتحول إلى طبول تقرع من أجل الدخول في حروب ليس فقط مع المعتدين بل من أجل استئصال المختلف وتصفيته وإفراغ الساحة للقوة الجديدة.
وشخصية النبي محمد لا تختلف عن القرآن، ألم تقل عائشة أن خلقه كان هو القرآن؟ فالنبي كان ليناً وسلساً مع خصومه في مكة كشأن باقي الأنبياء الذين وردت قصصهم في القرآن، غير أنه وبعد نزوحه إلى المدينة صار أقرب إلى ما كانت عليه سلوكيات الأنبياء / الملوك من بني إسرائيل بما عرف عنهم في الأسفار التوراتية من نزعات متقدة للفتوحات ومن تسلط على خصومهم من الأقوام الكنعانية. أكثر المسلمين يجهلون أو يشككون في الروايات التاريخية الموجودة في كتب السيرة والتاريخ والحديث عن حالات تصفيات شخصية حرض عليها وباركها النبي في معرض بناءه للدولة لأنّ تلك العمليات وما انطوى عليها من غدر لا تليق بالسمعة العريضة التي يتمتع بها النبي محمد في أنه كان نموذجاً لا يضاهى في رحمته ورفقه حتى بألد أعدائه ومناوئيه. وبالمناسبة، قصص الاغتيالات السياسية التي دشنها النبي محمد تحظى بقبول واسع من جماعات الإرهاب الديني لتسويغ جرائمهم ودمويتهم ضد من يقف في طريق طموحاتهم السياسية.
سأورد في الجزء المتبقي من المقالة (بعض) من عمليات الاغتيال التي تمت بتوجيه وإيعاز من الرسول، وجميعها وقعت بعد هجرته إلى المدينة. وعموماً فقصص الاغتيال السياسي ليست سراً على الإطلاق فهي موجودة في كتب التاريخ الإسلامي وسيرة النبي محمد لمن أراد الإطلاع والاستزادة. أما في هذه المقالة فسوف أتعكز على ما جاء في كتاب المرحوم هادي العلوي (الاغتيال السياسي في الإسلام، دار المدى:2001). قبل أن يقرر النبي الهجرة إلى المدينة، استأذنه بعض أصحابه لقتل بعض من رؤوس المشركين المكيين الذين عرفوا بعدائهم البين للدين الجديد، لكن النبي نهاهم عن القيام بذلك، وجاء القرآن على الفور ناهياً عن الغيلة (الاغتيال) كما في الآية (38) من سورة الحج "إن الله يدافع عن الذين آمنوا. إن الله لا يحب كل خوان كفور). وإلى جانب تلك الآية التي تنهى عن الغيلة وتصف مرتكبها بالخوان الكفور، فهناك حديث يروى عن النبي "الإيمان قيد الفتك. لا يفتك مؤمن". كلاهما ـ أي الآية والحديث ـ يربطان إيمان المسلم باجتناب الغيلة، وهذا ما يعكس قاعدة أخلاقية رائعة في التعامل مع الأعداء حتى لو كان التخلص من العدو سيجلب للمسلمين منافع كثيرة. غير أن سلسلة الاغتيالات التي انطلقت من المدينة المنورة في إطار استكمال بناء الدولة الإسلامية تلقي بظلال من الشك على مصداقية وصمود النهى القرآني والنبوي أمام التحولات السياسية الطارئة وإغراءات السلطة. لنستعرض بإيجاز بعضاً من تلك العمليات وفق ترتيبها التاريخي التقريبي:
اغتيال كعب بن الأشرف: زعيم يهودي من بني قريظة، قام بالاتصال مع قريش وتحريضها على الثأر لهزيمة غزوة بدر، ويذكر أنه نظم الشعر في التعريض بنساء أصحاب النبي وفي رثاء قتلى بدر من المكيين. قرر النبي محمد التخلص منه لموقعه القيادي ولتطاوله بالشعر على نساء المدينة بانتداب محمد بن مسلمة الذي تجمعه بكعب صلة قربى. اختار بن مسلمة مجموعة أخرى من الرجال وبينهم أبي نائلة قريب الصلة بكعب. ذهب الرجال ليلاً إلى الحصن اليهودي ونادوا كعباً الذي أسرع لملاقاتهم رغم تحذيرات زوجته التي شمت رائحة الدم تقطر من أصوات الرجال المتربصين به. سار كعب مع الرجال خارج القلعة، ثم أخذ بن مسلمة برأس كعب وطفق يشم رائحة الطيب في رأسه، ثم كرر الحركة مرة ثانية وهو لا يكف عن ترديد إعجابه برائحة الطيب. كان الرجال قد اتفقوا فيما بينهم أن ما إذا أمسك بن مسلمة برأس كعب للمرة الثانية وتمكن منه أن يبادروه بسيوفهم، وهو ما حصل فعلاً كما خطط له. لم يكتف رجال النبي بذبح كعب بل جزوا رأسه ليضعوها بين يدي النبي الذي هلل وجهه وانشرح صدره بعد أن تخلص من أحد أهم رجالات اليهود.
اغتيال سلام بن أبي الحقيق: وهو من كبار زعماء بني النظير، ومن المناوئين للنبي محمد والمحرضين على تجييش تحالف الأحزاب ضد المسلمين في موقعة الخندق. قاد عملية الاغتيال رجل من الخزرج اسمه عبد الله بن عتيك، ومعه عدد من رجال الخزرج. نجح بن عتيك في التسلل ليلاً إلى داخل الحصن اليهودي وفتح باب الحصن لجماعته. تمكن الرجال من دخول بيت بن أبي الحقيق دون أن يحدثوا أي جلبة. وعندما دخلوا عليه في غرفته صاحت بهم زوجته لكنهم هددوها بالقتل لو فتحت فمها، ثم تناولوه بسيوفهم فأردوه قتيلاً. وبعيد خروجهم من مسرح الجريمة صرخت زوجته، فجد أهل الحصن في البحث عنهم، لكن بن عتيك وجماعته تواروا قي أحد زوايا الحصن المعتمة، ثم تسلقوا جدار الحصن فجراً، وعادوا إلى المدينة ليزفوا خبر مصرع بن أبي حقيق.
اغتيال عصماء بنت مروان: تضاربت الروايات حول تفاصيل القصة، وإن كان من المرجح أن تكون عصماء هذه من النساء اللاتي هجون النبي بشعرهن. ويقال أن رجلاً أعمى اسمه عمير بن عدي دبر لقتلها إرضاءً للنبي. دخل عمير على عصماء وكانت ترضع طفلها، فظل يتلمس دربه حتى وجدها، ثم انتزع الصغير وألقاه بعيداً، وغرس سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. وبعد انقضاء صلاة الفجر، سأله النبي: أقتلت بنت مروان؟ قال: نعم يا رسول الله فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير فقال: على شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. ثم استدار النبي قائلاً لأصحابه: إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي.
اغتيال خالد بن سفيان: هو سيد من قبيلة هذيل، كان قد قرر حشد جيش للزحف على يثرب. أراد النبي محمد تجنب كلفة هذه الحرب بتوجيه ضربة استباقية لنزع فتيل المعركة المرتقبة وذلك بالتخلص من خالد بن سفيان. تقول الرواية أن النبي زود عبد الله بن أنيس الذي انتدبه لهذه المهمة بمعلومات عن أوصاف خالد. وصل الصحابي إلى حمى هذيل فوجد خالد يمشي مع بعض النساء كان يبحث لهم عن منزل. بادر الصحابي بالسلام وتظاهر بأنه جاء ليتطوع في الجيش المتجه إلى حرب المسلمين، وبينما كان الاثنان يسيران معاً، استغل الصحابي غفلة الناس، وسدد ضربة قاتلة لخالد بسيفه فأرداه قتيل، ثم لاذ بالفرار إلى المدينة، حيث بارك النبي صنيعه وكافأه لقاء ذلك.
اغتيال أم قرفة: اسمها فاطمة بنت ربيعة الفزاري، وقرفة هو اسم أكبر أولادها وقد قتل في أحد غزوات النبي، أما باقي أبنائها فقد قتلوا في حروب الردة أيام أبي بكر. كانت تلك المرأة مضرب الأمثال لدى العرب في العزة والمنعة، فكانت العرب تقول: أمنع من أم قرفة، وتقول: لو كنت أعز من أم قرفة. بعث النبي بزيد بن حارثة على رأس سرية فكان زيد يكمن في النهار (تكنيك قتالي اعتادت سرايا النبي تنفيذه للإطباق على القوم وهم نيام) ويسير بالليل حتى انقض برجاله على قوم أم قرفة فقتلوا منهم نفراً وأسر أم قرفة. أصدر زيد حكمه عليها بالقتل لإنها كانت تسب النبي. كانت طريقة الإعدام المنفذة غاية في الوحشية والهمجية، وذلك بإن أمر بربط قدميها بحبلين بينما ربط الطرفي الآخرين في قدمي جملين أو حصانين، ثم أطلقهما في اتجاهين مختلفين فشقت أم قرفة إلى نصفين.
ها نحن مرة أخرى أمام مأزق جديد تصنعه التناقضات ما بين القول والفعل، وما بين مثالية الشعارات وميكافيلية السياسات. ألا يفترض أن تكون النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إرساءً لدستور أخلاقي غير خاضع للخرق والنقض وتدشيناً لمبادئ إنسانية تتسم بالديمومة والاستقرار؟ ألم يعقد القرآن علاقة وشيجة بين الكفر والاغتيال؟ لماذا إذاً تخلى النبي عن سياسة التسامح واللين التي صبغت الإسلام الطفولي في مكة ليستبدلها بسياسة عنيفة تقوم على الفتك بمعارضي الدعوة الجديدة وإخراسهم للأبد عندما أخذ المشروع السياسي للدعوة يتبلور في المدينة؟ هل يستحق هؤلاء "المغدورين" عقوبة الموت البشع؟ ألم يكن من وسيلة أكثر دبلوماسية لاحتواء المعارضة دون إراقة الدماء؟ موجة الاغتيالات السياسية تفتح السؤال حول أسباب سكوت النبي عن ما يسمى بحزب المنافقين في المدينة، وعن صحة ما يتردد في أن النبي قبل بوجودهم ولم ينكل بهم انطلاقاً من أسس أخلاقية "ليبرالية" تبيح للآخر العيش بسلام تحت سقف مكان واحد. اعتقد أن صبر النبي على غمز ولمز المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن سلول كبير قبيلة الخزرج ـ وفي ضوء التصفيات السياسية التي وجهها ـ لم يكن حباً في سواد عيون التنوع الديني والسياسي بقدر ما كان حرصاً منه على استقرار التوازنات السياسية وخوفه من مغبة انتفاض ذوي المقتول ضده ووقوع انشقاق داخل جسد الدولة الغض قد يؤدي إلى تقويض المشروع الإسلامي في بداياته المبكرة. إن عبد الله بن سلول لو قدر أن يقتل غيلة فسيجد من يبكيه وربما يثأر له أما الضحايا الذين لقوا حتفهم من قبل فلا بواكي لهم.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط