مالك مسلماني
/
Jan 29, 2006
ما زالت حرية المعتقد عرضةً للقمع في دول كثيرة في العالم، وإذا كان حال الحريات في العالم العربي والإسلامي الأسوأ عالمياً، فإن القمع لا يقتصر فيه على الحريات السياسية والاقتصادية، بل يشمل حرية الضمير والتفكير. وعندما ننظر إلى مستوى الحريات الدينية فإننا نجد أن الدول العربية والإسلامية (وبالتحديد السعودية، والسودان، وإيران) تتصدر قائمة الدول القامعة لكل دين عدا الإسلام.
لا شك أن غياب الحرية الدينية وضعية تتفرع عن ممارسة منهجية لسياسة كبت الحريات بالعموم، التي تمارسها الأنظمة المستبدة، وبالتالي، إن هذه الأنظمة وإذْ تمارس القمع السياسي على كافة النشاطات المدنية، والتجويع الاقتصادي على شعبها (وهو الأمر الذي يعزز وسائل القمع السياسية)، فإن حرية الاعتقاد بالنسبة لها ميدان من ميادين القمع أيضاً. فكما الحرية كلّ لا يتجزأ، فإن الحكم الاستبدادي كلي لا يقف عند حدٍ.
ما يميز غياب الحرية الدينية في الدول العربية والإسلامية أنه غياب لا نتيجة قمع نابع من أيديولوجية معادية للدين، مثلما كان في المنظومة السوفييتية السابقة التي مارست القمع وفق الرؤية الشيوعية، بل الحالة في هذه الدول أن القامع يرتكز على الشريعة الإسلامية، ويجد سنده من جماهير ذوي مزاج إسلامي يؤيد القمع الديني. وهو بهذا كبت للحرية الدينية بأدوات دينية. ومن هنا ينشأ السؤال، هل غياب الحرية الدينية يعود إلى البناء السياسي لهذه الأنظمة، أما بسبب التشريع الإسلامي نفسه، الذي يحكم عملية إنتاج القانون في هذه الدول، على الأقل فيما يخص طريقة التعاطي مع الأديان الأخرى.
وللإجابة على ذلك، لا يسعنا إلاّ أن نعود إلى القرآن نفسه، فهو الحكم الفصل في هذه القضية، وسنعثر فيه على إجابة ما إنْ كان الإسلام مع الحرية الدينية حسب الآية: <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين [1] >، وهي الآية التي طالما سعى الدعاة إلى إبرازها تأكيداً لسماحة الإسلام، أم إن الإسلام ضد الحرية الدينية وفق آية أخرى: <إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[2] >، وهي الآية التي تضمر موقفاً معادياً لكل دين خلا الإسلام.
إن تعليقنا الأول على الآية المكية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين> أنها أتت والإسلام في حالة ضعفٍ بعد، ولم يكن له في مكة إلاّ القليل من الأتباع. آنذاك كان أسلوب الدعوة الإسلامية سلمياً. وبعد هجرة المسلمين إلى يثرب، ولحاق محمد بهم، جاء النص القرآني يقول:
<أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[3]>.
لقد عُرفت الآية (39) بآية القتال، ويقول الزمخشري بأنها أوّل آية أجازت القتال، بعد أن كان القرآن قد نهى عنه في أكثر من سبعين آية. ونقرأ لدى الطبري، والقرطبي:
«<أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا>: «هذا ناسخ لكلّ ما في القرآن من إعراض وترك وصفح. وهي أول آية نزلت في القتال».
ويضيف القرطبي في تفسيره:
«فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات».
إِذاً، إنَّ النصّ القرآني أعلاه ألغى كل ما ورد في القرآن من آيات متسامحة. وهو، حسب قاعدة الناسخ والمنسوخ، المعيار النهائي، كون الآيات المتسامحة قد تقادمت (نُسخت). وقد يقول لنا أحدهم إن النص هنا يجيز القتال نصرةً للمسلمين الذين لقوا ظلماً من المكيين وفق منطوق الآية العام.[4] ولكن سنسير أكثر مع النصوص القرآنية لنرى كيف عالج القرآن مسألة التعاطي مع الأديان الأخرى.
1ً. <إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[5]>
تقدم التفاسير نظرة موسعة نسبياً لمفردة الإِسْلامِ الواردة في هذه الآية، فيقول الطبري: «إن الطاعة التي هي الطاعة عنده، الطاعة له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلّة، وانقيادها فيما أمر ونهى وتذللها له بذلك»، ولكن هذا التحديد العام يحتاج إلى مزيد من التوضيح، وعندما نمضي قدماً في قراءتنا، نجد الشروحات التالية:
«والإِسْلاَمُ شهادة أنْ لا إِلَه إلاّ اللَّه، والإقرار بما جاء به من عند اللّه، وهو دين اللّه، الذي شرع لنفسه».[6]
«إخبار منه تعالى بأنّه لا دين عنده يقبله من أحدٍ سوى الإسلام... فمن لقي اللَّه بعد بعثة محمدٍ بدينٍ على غير شريعته، فليس بمتقبل منه».[7]
«لا دين مرضي عند اللَّهِ سوى الإسلام، وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد».[8]
إن هذه الشروحات تأتي في سياق ينسجم مع الآية: <وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[9]>. والتي يشرحها الطبري: «ومن يطلب ديناً غير دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل اللَّه منه». في حين يرى البيضاوي في شرحه على آية أخرى، وهي: <وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً[10]> بأن الإسلام «هو الدين عند اللَّهِ لا غير»،
مع ذلك، لو انحصرت القضية بالعلاقة بين الإله والبشر، وقرار اللّه برفض جميع الأديان ما عدا الإسلام، وإن حسابه لمن يرفض الإسلام سيكون في يوم الآخر، فإنه يسعنا القول بأن ثمة تسامحاً دينياً ما في الإسلام، وأن الأمر يتعلق بأسلوب إنذار ووعيد آخروي. لكن النص المقدس لا يقف عن حدود الإنذار، بل يتعداه إلى طلب حمل السلاح لنشر الدين. وهذا ما نجده في سورة متأخرة:
2ً. <وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[11]>.
تطالب هذه الآية من المسلمين مقاتلة كلّ من لا يدين بالإسلام:
«<وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ>: حتى لا يكون شرك... <فَإِنِ انتَهَوْاْ>: إن انتهوا عن الفتنة وهي الشرك باللَّهِ، وصاروا إلى الدين الحق معكم».[12]
«<فَإِنِ انتَهَوْاْ> عن الكفر».[13]
وإذا كان البعض قد «ضلَّ» ورأي بأن المعنى هو «إن انتهوا عن القتال»، فإن ما يراه المفسرون صواباً هو أن المشركين «وإنْ انتهوا عن القتال، فإنّه كان فرضاً على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا».[14] وهو تفسير يتسق مع سياق حديث محمدي ورد في الصحيحيْن يقول محمد إنّه أُمرَ أنْ يقاتل «الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللَّه».
إذاً، هنا تماماً يكمن الهدف المركزي لدعوة الإسلام، إلاّ وهو إكراه الناس على اعتناق الإسلام؛ وهو منطوق الآية التالية:
3ً. <هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[15]>.
والمقصود برَسُولِه محمداً. وتعني عبارة: <لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ>: أي «على سائر الأديان».[16] والهدف النهائي للإسلام هو أن لا «يبقى أحدٌ إلاّ دخل في الإسلام أو أدّى الجزية».[17] ويحلم المسلمون بأن في نهاية الزمان ستضمحل «الملل كلها إلاّ الإسلام».[18]
من هذه النصوص يتبين أن الإسلام يهدف إلى إخضاع البشرية لسلطته، وقد قسم القانون الإسلامي غير المسلمين إلى ثلاث فئات: أهل الكتاب، وأهل الأديان الأخرى الذين اُعتبروا كافرين، والفئة الأخيرة هم المرتدون. وكان تعاطي الإسلام معهم على الشكل التالي:
أ ـ قاعدة أهل الكتاب:
وهم المجموعة التي يجب أن تدفع الجزية بصغار وفق نص الآية: <قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[19]>.
تطالب الآية في قسمها الأول بمقاتلة الذين لا يؤمنون باللَّهِ، ولا باليوم الآخر. وهو أمر عام. وتحدّد في القسم الثاني منها طبيعة العلاقة مع «أهل الكتاب»، وهم فئة يجب أن تدفع الجزية. وسنتجاوز النقاش الموجود في الكتب على من تنطبق عليهم شرط الجزية (مثلاً، هل يدخل فيهم المجوس، أو هل ينطبق على العرب). ولننظر إلى الجزء الذي يصف حالة إعطاء الجزية بصغار.
«<وَهُمْ صَاغِرُونَ>: أي ذليلون حقيرون مهانون؛ فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم... أن النبي قال: ‹ لا تبدءوا اليهود والنّصارى بالسّلام. وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ›».[20]
وتُشرح صفة الصغار أيضاً:
1. الآخذ جالس، والمعطي قائم، إمعاناً بالإذلال؛[21]
2. تُؤخذ من الذمي وتوجأ عنقه.[22]
ويذكر البغوي في تفسيره الأمور التالية:
1. تؤخذ منه ويوطأ عنقه؛
2. إذا أعطى صفع في قفاه؛
3. يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه؛
4. يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف.
ويقول صاحب «فتح القدير»، محمد بن علي الشوكاني المفسر المعاصر:
«إن الذمي يعطي الجزية حال كونه صاغراً. وقيل: هو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد. وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المُسلّم بها حال قبضها صاغراً ذليلاً».
ب ـ قاعدة الكافرين عموماً
هذه المجموعة التي تشمل ربما أكثر من ثلثي البشرية، فإن مصيرها هو القتل أو اعتناق دين الإسلام كرهاً وفق ما ورد أعلاه من آيات، وفق قاعدة قرآنية: «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[23]».
ج ـ المرتدون
مع إن القرآن في مرحلته المكية طالب الوثنين بتمحيص عقائدهم الموروثة، وبعدم الالتزام بما كان عليهم أباؤهم، فقال: <وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ[24]>؛ فإنه فرض على سلالة المسلمين لاحقاً عدم الخروج عن دين الآباء، فالإنسان الذي وُلد مسلماً ملزم بأن يبقى مسلماً وإلاّ كانت عقوبته القتل حسب القاعدة الشرعيّة المستندة إلى نص محمدي يقول: «من بدل دينه فاقتلوه». وثمة إجماع بين الفقهاء المسلمين على أن القتل عقوبة المسلم الذي يخرج من الإسلام. وهو ما وضحه سيد سابق في الجزء الثاني من كتابه الفقهي «فقه السنة»:
«حكمة قتل المرتد: الإسلام منهج كامل للحياة فهو: دين ودولة، وعبادة، وقيادة، ومصحف وسيف، وروح ومادة، ودنيا وآخرة، وهو مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان أو يقف حائلاً دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي. ومن دخل فيه عرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجاً على الحق والمنطق، ومتنكرا للدليل والبرهان، وحائداً عن العقل السليم، والفطرة المستقيمة. والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الإنسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه؛ لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الإسلام كمنهج عام للحياة، ونظام شامل للسلوك الإنساني، لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه، فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه، ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لان الخروج عليه يهدد كيانه ويعرضه للسقوط والتداعي. إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه...».
خاتمة
إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام، وكيفية أسلمة الجزيرة العربية، ثم أخذنا بنود المدونة القانونية المتصلة بالفئات غير المسلمة (فئة أهل الكتاب، وأتباع الأديان الأخرى، و«المرتدين») فإننا نجد أن الإسلام لا يمنح حرية المعتقد لمجموعتين من أصل ثلاثة من البشر؛ والفريق الوحيد الذي يسمح له بالبقاء على قيد الحياة هم «أهل الكتاب» ولكن وفق شروط لا إنسانية: دفع الجزية بصغار، والحرمان من المساواة في المواطنة،... والحقيقة هي إن الحرية الدينية من المنظور الإسلامي تعني حرية التبشير بالإسلام في جميع أنحاء العالم بدون السماح للأديان الأخرى بالتمتع بهذا الحق لا في أرض الإسلام فحسب، بل حتى بين المسلمين أنفسهم في الدول غير الإسلامية. ومن هنا فإن هذا الحق الذي يقبل به الإسلام لنفسه هو نوع من العمليات العسكرية في قلب الآخر: أي «العدو» الواقع في دار الحرب. ولهذا نجد أن فرحاً كبيراً يغمر المسلمين لدى دخول مؤمنين جدد إلى الديانة، وهذا الفرح يعود إلى طريقة فهم المسلمين للعلاقة مع الآخر، ويتسق مع هدف الإسلام النهائي القاضي بالسيطرة على العالم، فالنصوص الإسلامية تطالب بفرض مقاتلة غير المسلمين لحين «يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه[25]». وفي السورة الأخيرة ـ أو قبلها مجيئاً حسب اختلاف الآراء ـ جاء النص: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[26]».
إنّ تشبث الإسلام بيقينيته أنه الدين الحق، وأنه دين اللّه، والأهم من كل ذلك بحقه بالتبشير، ومنع هذا الحق عن الآخرين يجعل منه منظومة أيديولوجية شمولية تحتل السماء والأرض، وهي تناوئ الحريات على اختلافها بما في ذلك الحرية الدينية. ومن هنا تتشكل مفارقة خطيرة في النظم الغربية حالياً، وهي إن التسامح مع الإيديولوجية الإسلامية، هو إعطاء حرية لطرف لا متسامح. إن «حرية» دين منغلق نقض لحريات العقائد الأخرى، دعْ عنك المبدأ الأساسي في الإسلام وهو مبدأ السيف التي يفرض نشر الدعوة بكل الطرق، وبالطريقة العسكرية بإصرار. وعلى ذلك نورد آية واحدة ـ من مجموع آيات كثيرة ـ تحض على القتال لأجل نشر الإسلام:
<كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[27]>.
وهو يُفسر على أن «فرض الجهاد»[28] وكما جاء في الحدث المحمدي الموثوق: «من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات ميتةً جاهليةً».[29]
إنَّ الإسلام منذ انتقاله إلى يثربِ نبذ المنهج السلمي في الدعوة وأصبحت آية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين> منسوخة بآيات كثيرة تحض على الحرب، وبرأينا فإن ذلك يعود إلى الظروف المرافقة لنشأة الإسلام والوضعيات الاجتماعية في الحجاز. لقد صار عدم التسامح تجاه الأديان الأخرى من سمات الإسلام في مرحلته النهائية؛ وهو أمر ينسجم مع روح مراحل التأسيس هذه، كما أن ذلك خلق قاعدة نشر الإسلام بالسيف.
إن جزءاً من مسوغات رفض حريات الأديان الأخرى نجده في حياة المؤسسين الأوائل، كما نجد أيضاً أن محمداً أرسى سابقة خطيرة وحتى قبل تشكّل الدولة الإسلامية، فعندما وقع النضر بن الحارث أسيراً في معركة بدر، فإن محمداً أمر بقتله وقتل رفيقه عقبة بن أبي معيط. كان النضر يتردد على فارس قبل إعلان الإسلام، ونال فيها قسطاً من الثقافة، فكان كلما قام محمدٍ يدعو لدينه، ويلقي على القرشيين آيات من قرآنه، كان النضر يقول بأن لديه أفضل مما لدى محمدٍ. فانتقم منه محمد بقتله وهو أسير رغم أن المسلمين قبلوا الفدية من بقية أسرى معركة بدرٍ. وعندما اعترض المقداد على قتله كونه وقع بين يديه، طمعاً في الفدية، فإن محمداً أجابه بأن النضر سيلقى عقوبة تناوله للقرآن.
ومن جهة أخرى، يعود قمع الإسلام للأديان الأخرى إلى نقطة لم يسلط عليها الضوء بعد وهي أن الحجة الإسلامية، كما جاءت في النصوص القرآنية والحديثية، أوهي الحجج مقارنةً مع الديانتين اليهودية والمسيحية، وهو أمر يعود بالمقام الأول إلى بساطة البيئة الصحراوية التي نشأ فيها. وتطور اللاهوت الإسلامي حصل لاحقاً مع توسع الإسلام، وخضوع شعوب مختلفة لهيمنته.
إن الإسلام دين لا يقبل التعايش مع الأديان الأخرى، ويسعى إلى الحلول محلها، وهو عقيدة ترى نفسها أسمى العقائد، وهو لا يتسامح مع أي دين، والمبدأ الذي يحكم علاقته بالأديان الأخرى قائم على أساس إكراه البشرية على اعتناق الإسلام.
ــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة: 2/256.
[2] سورة آل عمران: 3/19.
[3] سورة الحج: 22/39 ـ 40
[4] سنسجل ملاحظة أولية هنا: إن مكة عُرفت بالتسامح الديني، ووجدت فيها مختلف العقائد: التوحيدية (مثل المسيحية، واليهودية)، والوثنية، ولكن لم تنشأ حالة صادم بين قريش شبه الوثنية، وبين أي من أتباع هذه الأديان. وفي حالة محمد، فإن الإصرار العنيد من جانبه على إدانة قريش، والسعي لجعل الإسلام دين مكة هو ما أجبر قريشاً على قبول المجابهة الحتمية.
[5] سورة آل عمران: 3/19.
[6] تفسير الطبري.
[7] ابن كثير.
[8] البيضاوي.
[9] سورة آل عمران: 3/85.
[10] سورة المائدة: 5/3.
[11] سورة الأنفال: 8/39.
[12] تفسير الطبري.
[13] البيضاوي والبغوي.
[14] تفسير الطبري.
[15] سورة التوبة: 9/33.
[16] ابن كثير.
[17] القرطبي.
[18] البغوي.
[19] سورة التوبة: 9/29.
[20] ابن كثير.
[21] تفسير الطبري.
[22] البيضاوي.
[23] سورة التوبة: 9/5.
[24] سورة لقمان: 31/21.
[25] سورة الأنفال: 8/39.
[26] سورة التوبة: 9/33.
[27] سورة البقرة: 2/ 216.
[28] القرطبي.
[29] ابن كثير.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط