حول الرسالة الموجهة للبابا بِنِديكت السادس عشر
مالك مسلماني
/
Nov 02, 2006
في خضم الجدل الذي أُثير حول مقطع ورد في محاضرة البابا في ألمانيا بتاريخ 12 سبتمبر (أيلول) 2006، وجه 38 رجل دين مسلم رسالة مفتوحة إلى بِندِيكت السادس عشر، بهدف نقد المقطع مثار الجدل في نص المحاضرة. كانت الرسالة تتسم بسمة المنافحة عن الإسلام، إضافةً إلى ذلك، كانت تهدف إلى تقديم صورة طيبة عن الإسلام، ولهذا السبب كانت أولاً مفتوحة وثانياً باللغة الإنجليزية.[1]
وقد تضمنت الرسالة سبعة عناوين فرعية، هي:
1. لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ؛
2. تعالي الإله؛
3. استعمال العقل؛
4. ما هي «الحرب المقدسة»؟
5. الإكراه على اعتناق الدين؛
6. أي شيء جديد؟
7. «أهل العلم»؛
7. المسيحية والإسلام.
ما يمكن ملاحظته على هذه الرسالة أنها تناولت سبعة مسائل تخص فرعيْن مختلفيْن: المجموعة الأولى من هذه المسائل، وهي المتصلة بالجوانب الفقهية والتشريعية والتاريخية؛ والمجموعة الثانية يمكن أن تدرج في إطار المباحث اللاهوتية أو علم الكلام. وبالرغم من ذلك فإن الرسالة تناولت هذه المسائل في نص مؤلَّف من حوالي (2850) كلمة لا غير، حسب النص الإنجليزي.
في مادتنا الحالية سنتناول ما يخص الفرع الأول من الرسالة، أي الجانب التشريعي ـ التاريخي، وبالتحديد، العناوين الفرعية الثلاثة موضع التشديد من قبلنا؛ لكي نرى إنْ كانت المضامين الواردة فيها تعبّر عن الرؤية الإسلامية الحقيقية أم هي محاولة لتقديم إسلام إعلامي، لوحة بسيطة بلون زاهٍ ليس لها صلة بالإسلام.
ـ 1 ـ
<لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[2]>
تقول الرسالة إنَّ ما قاله المختصون بأن آية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ> جاءت لمّا كان محمد «ضعيفاً وبظل التهديد»، أمر غير صحيح. وتضيف الرسالة القول:
«في الواقع من المعترف به أنَّ الآية تعود إلى فترة الوحي القرآني الذي يتطابق مع الصعود السياسي والعسكري للمجتمع الإسلامي اليافع. وإن <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ> ليس أمراً للمسلمين بالبقاء بدون حراك بوجه مشيئة مضطهديهم التي تقضي بإجبارهم على التخلي عن دينهم، بل لتذكير المسلمين أنفسهم، بأنهم إنْ كان لديهم القوة، فإنهم لا يستطيعون إجبار قلوب الآخرين على الإيمان. وإن آية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ> تخاطب من هم في موقع القوة، وليس الضعف».
وعلاوة على ذلك، تشير الرسالة إلى أن الخلفية التاريخية للآية (أسباب النزول) هي أن بعض المسلمين في المدينة أرادوا إكراه أبنائهم على ترك اليهودية أو المسيحية، فجاءت الآية لتكفهم عن ذلك. وتضيف الرسالة لتقوية محاججتها بسماحة الإسلام، بأن المسلمين اهتدوا بآيات مثل: <وَقُلِ: «الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ؛ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن، وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ[3]>. و<قُلْ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ! لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ؛ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[4]>.
فهل فعلاً يمكن اعتبار الآية أعلاه تشريعاً يؤسس لحرية الإيمان، وأن الإسلام يقبل مبدأ عدم الإكراه في الدين كما ورد في الرسالة؟ لنبدأ مع الخلفية التاريخية للنص، أو سبب النزول، وبعد ذلك نسير مع التفاسير من أجل معرفة الموقف النهائي للإسلام من الآية.
أولاً: الخلفية التاريخية لآية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>
ترتبط باليهود ـ حالة خاصة.
ـ أ ـ
تخبرنا الروايات التي لدينا في المصادر الإسلامية أنَّ المرأة اليثربية التي كانت لا يعيش لها ولد، وتُسمّى مِقْلاة؛ هذه المِقْلاة، كانت تنذر إنْ عاش لها مولود، فإنها ستهوّده؛ والسبب في أنها كانت تنذر ذلك أن اليثاربة كانوا يرون أن اليهودية خير من عبادة الأوثان. فلما انتشر الإسلام في يثرب، وفي خضم الصراع الذي خاضه محمد مع من رفض دينه، قام سنة (4 ﻫ) بمحاصرة يهود بني النضير، وفيما بعد أمر بإجلائهم عن حصونهم؛ فكان في بني النضير عدد من أولاد اليثاربة معتنقي اليهودية، فأراد أهالي هؤلاء الأولاد استعادتهم قبل التهجير؛ ويبدو أن الأمر ترافق مع اعتراض على محمدٍ من اليثاربة المعنيين بالأمر، الذين رفضوا ترحيل أبناءهم، فقالوا لمحمد: «لا ندعْ أبناءنا»؛ وعندها جاءت الآية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>.[5]
وقد أضاف محمدٌ إلى هذه الآية «خيروا أصْحَابُكُمْ! فإنْ اخْتارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ؛ وَإنْ اخْتارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ».[6] والصيغة الأخرى أنّ محمداً قال: «فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل في الإسلام».[7]
تجعل المصادر الإسلامية الآية هنا في سياق تاريخي معين، وتحدد حالة تاريخية محددة سبباً لتنزيل الآية.
ـ ب ـ
ولدينا رواية عن الطبري تقول أن اليثاربة الذين كانوا قد جعلوا أبناءهم يهوداً، سألوا محمداً إنْ كان عليهم إكراه أولادهم المتهودين على اعتناق الإسلام بعد أنْ جاء يثربَ؛ وعندها تلا محمدٌ عليهم الآية.
هذه الرواية التي ترد عند الطبري لا تعيّن زمن الآية بواقعة إجلاء بني النضير، بل عن مسألة ما إذا كان يجب أن يُكرَهَ الأولاد على ترك اليهودية وبالتالي، علينا أن نطرح احتمال أن تكون هذه الآية أبكر عهداً من سنة 4 هجرية، إنْ لم يكن الأمر أقدم عهداً من الهجرة إلى يثرب، إِذْ نجد رواية في تفسير الطبري تشير إلى مكية الآية:
«حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول اللّهِ: <لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ>، قال: ”كان رسول اللّه بمكة عشر سنين لا يُكره أحداً في الدين, فأبى المشركون إلاَّ أنْ يقاتلوهم, فاستأذن اللّه في قتالهم، فأذن له“».
إن هذه الرواية ـ وإنْ لم تحدد صراحة مكية الآية ـ تعتبر شرعة الآية كان في العهد المكي فحسب.
ترتبط بالمسيحيين ـ حالة مفردة.
في المصادر الإسلامية لدينا صيغة لسبب النزول. إذْ تقول رواية بأن نص <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ> يتصل بشخص من الأنصار من بني سالم بن عوف، يُقال له الحُصَين، كان له ابنان مسيحيان، وبينما كان هو يدين بالإسلام، فسأل محمداً إنْ كان يجب عليه أنْ يُكرهما على الإِسلام، لأنهما كانا يرفضان الإيمان به، فتلا محمد عليه الآية.[8]
إذا أخذنا في تحليل هذه الروايات، فإننا نصل إلى الاستنتاج التالي:
إما إن هذه الآية مكية، وقد تمّ إدراجها في سورة البقرة أثناء جمع القرآن، وسورة البقرة هي من أولى السور في يثرب.
وإما إذا أخذنا القول بمدنية الآية، فالأمر على الشكل التالي:
في حال كانت الآية مدنية، لا ترتبط بمسألة بني النضير، كما في الرواية (ب)، فإن رفض محمدٍ لاقتراح هذا الفريق من الأنصار، يعود إلى حقيقة أن محمداً في السنتيْن الأوليتيْن من عهده لم يصطدم مع يهود يثرب، بل سعى إلى كسبهم، أو كسب ولائهم، وأول المؤشرات على خيبة أمله من اليهود كان بعد سنتين من الهجرة عندما أعلن محمدٍ تحويل القبلة إلى مكة.
وإذا أخذنا بأبعد تاريخ للآية، وهو تاريخ إجلاء بني النضير (ربيع الأول 4 ﻫ/آب (أغسطس) 625 م)، فإنه لا يمكن لهذه الآية أن تكون قد خاطبت «من هم في موقع القوة، وليس الضعف»، فيثرب لم تكن خالصة لمحمدٍ ولا للمسلمين، وكان فيها تجمع معارض قوي أطلقت عليه المصادر الإسلامية لقب المنافقين، دعْ عنك أنه لا وجود بعد لقوة ضاربة بيد الحركة الإسلامية. فهؤلاء الذين كانوا «في موقع القوة» ـ على حدّ تعبير رسالة اﻟ 38 ـ تعرضوا قبل بضعة شهور لهزيمة خطيرة في معركة أُحد (شوال 3ﻫ/آذار (مارس) 625م) وأصيب فيها محمد بجراحات، والأخطر أنها كادت تؤدي إلى القضاء على الحركة الإسلامية. وكان على هؤلاء الذين «في موقع القوة،» (!!!) أن ينظروا سنوات كي يصيروا «في موقع القوة،» فعلاً. وعندما بدأت قوتهم الحقيقة تزداد، فإن الآيات التي تحث على القتال بدأت تشغل حيزاً أكبر وأكبر من النصوص القرآنية. وكمثال واحد يمكننا أن نجد آيتين: آية السيف (التوبة: 9/5)، وآية القتال (التوبة: 9/29) قد نسخت عشرات الآيات المتصلة بالسلم.
وبالتالي إذا لم يشجع محمد الإكراه في هذه الحالة المحددة، حالة أبناء اليثاربة المتهودين، فإن الأمر يعود إلى أن مؤسس الإسلام قد بدأ للتو في صياغة نصوص الحرب، ولم تكن فكرة الإكراه متبلورة بعد على المستوى النظري، ولم تكن بالطبع ممكنة على المستوى العملي.
ومع ذلك لم يَخلُ الموقف المحمدي من الإكراه، إذ إنه أعلن أنه على الأبناء الاختيار بين البقاء على اليهودية وبالتالي الجلاء، أو الإسلام والبقاء في المكان.[9] فهل هذا يدعي <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>؟
أما بخصوص الرواية التي تربط السبب بشأن ابنيْ أبي الحُصَين المسيحييْن، فالرواية التي لدينا، والواردة أعلاه، لا تحدد زمن الآية، فربما كان محمد يقتبس من الوحي المكي أمام أبي الحُصَين. وحتى لو قبلنا مجدداً فكرة مدنية الآية، فإن روح الآية قد جرى نسخها لاحقاً لحساب آيات القتال، وبالتالي لا يمكن أن تكون الآية موجهة ﻟ«من هم في موقع القوة». وهذا ما تضمره رواية الواحدي، الذي يقول بعد أن يسرد كيف تنصّر ابنَا أبي الحُصين: «وكان هذا قبل أنْ يُأمر رسول اللّه بقتال أهل الكتاب، ثم نسخ قوله <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>، وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة».[10]
هل <لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ> حكم عام في الإسلام؟
ومع ذلك، ما زال علينا مناقشة السؤال التالي: سواءً أجاءت هذه الآية في حالة محددة بشأن أبناء من اليثاربة تهودوا، أو كانت الحالة تتعلق بأبي الحُصين، فما يمنع أن يكون حكم آية <لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ> عاماً؟ وعلى هذا سنعود إلى النصوص التفسيرية.
لقد انقسم الرواة بشأن هذه الآية بين منسوخة ومحكمة:
أ ـ منسوخة
اعتبر فريق من العلماء أن الآية منسوخة، وقد نسختها آية <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ[11]>؛[12] وكذلك لأن محمداً أكره العرب على اعتناق الإسلام، وقاتلهم لإجبارهم عليه، فهو لم «يرضَ منهم إلاّ الإسلام». وتقول المصادر بصراحة إنّه عُمل بهذه الآية قبل أنْ يؤمر محمدٌ بالقتال؛ وإنه: «نُسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في [سورة] براءة».[13] وعلى هذا يتفق الجميع:
البغوي في تفسيره: «وقيل كان هذا في الابتداء قبل أنْ يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف».
ابن كثير الذي يقول تفسيره لهذه الآية بأنها نسخت ﺒ«آية القتال»، وبأن الواجب يفرض دعوة جميع الناس للدخول في الإسلام ويضيف: «فإن أبى أحد منهم الدخول فيه، ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل».
إذاً، لا يُكره أهل الكتاب على اعتناق الإسلام بشرط أن يدفعوا الجزية.[14] وعدم «الإكراه» هذا، ورغم إنه مشروط بدفع الجزية، فإنه لا ينطبق على العرب، إذ النصوص التفسيرية تتفق على أن العرب لا يقبل منهم إلاَّ القتل أو الإِسلام.[15]
والبغدادي يقول بنسخها القطعي، ويضعها تحت باب «في بيان الآيات التي اتفقوا على نسخها واختلفوا في ناسخها».[16]
ب ـ محكمة
الفريق الذي يقبل أنّ الآية محكم يقول إنها تعني أنه لا يُكره أهل الكتاب على اعتناق الإسلام في حال أدّوا الجزية؛ وإن الذي يُكرهون على الإسلام غيرهم من أهل الأديان الأخرى، حيث تنطبق عليهم آية <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّار>.[17]
إذاً، هذا الفريق يقول بأن الآية غير منسوخة بحالة أهل الكتاب، ومنسوخة بحالة غيرهم. وكلا القوليْن لا يعبران عن تسامح ديني؛ ففي حال السماح للمسيحيين واليهود بالبقاء على دينهم، فإن عليهم ذل أداء الجزية، وعدم الإكراه هنا يقابله إذلال مادي ومعنوي. أما جهة غير أهل الكتاب، فإن التعامل معهم بالسلاح.
وبغض النظر عن طبيعة الناسخ والمنسوخ في هذا الموضع، وإذا ما تغاضينا عن حقيقة أن آيات «الجهاد» جاءت لاحقاً ونسخت كل مبدأ يقبل التسامح، فإن السيرة النبوية، أو الممارسة الفعلية على الأرض أسست لقوانين عملية، جعلت روح هذه الآية منسوخةً، فحروب محمد لأسلمة محيط يثرب، والاستيلاء على مكة، عندما أُجبر جميع سكانها على اعتناق الإسلام غدت من أحكام السنة التي تؤكد أن هذه الآية منسوخة عملياً، وحتى لو أقصينا أنفسنا عن إشكالية الناسخ المنسوخ.
ربما من المناسب إيراد الأقوال بشأن هذه الآية كما عددها القرطبي في تفسيره[18]:
1. إنّها منسوخة لأنّ محمداً قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم؛ ولم يرضَ منهم إلاّ الإسلام. علاوةً على أنها نُسخت ﺒ<يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ>.
2. ليست بمنسوخة وأنها نزلت في أهل الكتاب خاصة «وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف». وهو الأمر الذي يرجحه الطبري.
3. تتعلق بحالة بعض الأنصار المسرودة أعلاه، بشأن من تهود من الأنصار، وحالة إجلاء بني النضير.
4. خاصة النزل، تتعلق حالة أبي الحصين.
5. «أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبراً مكرهاً».
6. «إنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام إذا كانوا كباراً، وإنْ كانوا مجوساً صغاراً أو كباراً أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام، لأنّ من سباهم لا ينتفع بهم من كونهم وثنيين».
خلاصة الموقف النهائي ﻟ<لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ>
وفق المصادر القرآنية المحمدية نفسها، فإن الآية منسوخة لجهة العموم، فلم يعد محمد يرضى بعد أن حاز على القوة العسكرية بالتسامح الديني، بل كان يؤكد دائماً في آياته القرآنية اللاحقة على الإكراه. والفريق الذي يقبل عدم نسخ الآية يضعها في إطار القاعدة الخاصة بأبناء من الأنصار أو بشأن ابنيْ أبي الحصين؛ أو بأهل الكتاب بشرط دفع الجزية؛ وبالتالي، فهذا الموقف من الآية يقبل حكم نسخها في نهاية المطاف. وهذا يتسق مع الواقع التاريخي للآية التي أُعلنت عندما كان موقع محمد ـ وحتى لو أخذنا بأبعد زمن للآية ـ ما زال في طور اللاّقوة، وطور عدم التبلور النهائي لموقفه اللاحق، غير المتسامح من الأديان والنحل في الجزيرة العربية. كانت هذه الآية في مرحلة تشكل رؤية الإسلام نحو الأديان الأخرى، ولهذا فنحن إذا كنا نجد في سورة البقرة <لا إكْرَاهَ فِي الدّينِ>، فإننا نجد أيضاً <كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ[19]>، وَ<قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ[20]>، حتى أن القاعدة بلغت: <وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ[21]>.
فيما بعد، وصل محمد إلى خاتمة رحلته، فأعلن سورة التوبة، ودعا لقتال كلّ من لا يؤمن بالإسلام، وحظر على كل من لا يؤمن بدينه الاقتراب من المحيط المكي، وقبيل وفاته، أعلن وصيته التي ما زال صداها يُسمع في كل مكان: «لا يبقى في جزيرة العرب دينان». وتورد المأثورات الحديثية قوله «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: ”لا إله إلا اللّه“». وكذلك «ديني بالسيف، ومع السيف، وفي السيف». ولهذا فالقول الواضح بأن آية <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>: «إما عامٌ منسوخ بقوله: <جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ>؛ أو خاص بأهل الكتاب».[22] أو إنها «إنها مخصوصة» تتصل بقضية أبناء الأنصار.[23] وكل ما يرد من نصوص، مثلما نص سورة الكافرون (109) التي أوردتها الرسالة مثلاً على قبول الآخر، فإن جميع العلماء والمفسرين وأصحاب الرأي الإسلامي متفقون أنها منسوخة بآية السيف.[24]
ـ 2 ـ
ما هي «الحرب المقدسة»؟
الإكراه على اعتناق الدين
ترى رسالة اﻟ 38 عالماً أنه لا يجوز تطبيق مصطلح «الحرب المقدسة» على العمليات الحربية للمسلمين، وذلك لأنه «مصطلح ليس موجوداً في اللغات الإسلامية». وتدّعي أيضاً بأن «الجهاد» لا يندرج ضمن مقولة «الحرب المقدسة» وتقدم تعريفاً مختصراً للجهاد. ولكن كي نبقي موضوعنا محدداً وهو العلاقة بين «الجهاد» و«الحرب المقدسة»، فإننا سنأخذ تعريفاً للجهاد من كتاب كان في الأصل رسالة دكتوراه: «إن لفظ ”الجهاد“ نقله الشرع في الكتاب والسنة من معناه اللغوي العام وقصره على معنى خاص هو: ”بذلُ الوُسْعِ في القتال في سبيل اللّه، مباشرةً، أو معاونةً بمالٍ، أو رَأيْ،.. أو غير ذلك“. ويبدو أن هذا المعنى الخاص للجهاد إنما كان في المدينة إمّا في مكة فلم يكن تشريع الجهاد قد أُنزل بعدَ». ويلاحظ المؤلف الإسلامي أن الآيات المكية التي وردت فيها مفردة الجهاد كانت تدل على معناها اللغوي العام،[25] في حين أن المفردة في الآيات المدنية «تدل على القتال خاصةً ـ مع ما يستلزمه القتال بطبيعة الحال من بذل للمال الذي لا بد منه للحصول على أدوات القتال أو السير إليه... ».[26]
إنّ مصطلح «الحرب المقدسة» يشير إلى الحروب الدينية، تلك الحروب التي ترتكز على أسس أو مبادئ دينية، ويكون الدين السبب المعلن لخوضها. والتي تحركها المؤسسة الدينية، ورجال الدين على اختلافهم، والتي تستمد نيران لهيبها من العناصر الدينية. ولهذا فتحت مقولة «الحرب المقدسة» يمكن أن ندرج الجهاد، وجميع الحروب الدينية في العالم التي كان الدين رايةً لها. فكيف للرسالة أن تدعي أن «الجهاد» الإسلامي ليس حرباً مقدسة, ما دام الجهاد هو «بذلُ الوُسْعِ في القتال في سبيل اللّه». ولهذا السبب تُترجم مفردة «الجهاد» تارةً ﺒ“Jihad” وأحياناً ﺒ “Holy War”، ولهذا لا مبرر لدعوى وجود تمييز مفهومي بين «الجهاد» و«الحرب المقدسة».
ورسالة اﻟ 38 تحاول التلاعب على اللغة فتقول إن: «الجهاد يمكن أن يكون مقدساً (“sacred”) بمعنى أن يكون في سبيل غاية مقدسة، وليس بالضرورة بمعنى ”حرب“». وإذا أردنا أن نسأل كُتاب الرسالة ما هو الفرق بين “holy war” و“sacred war”. لماذا يرفض السادة العلماء أن تكون حربهم “holy” بينا يقبلون أن تكون “sacred”؟ رغم أن المعنى بين هاتين الصفتيْن في هذه العبارة واحد.[27]
وإذا كان هؤلاء العلماء يرفضون ترجمة «جهاد»هم إلى «حرب مقدسة»، فلماذا استعملت الرسالة مفردة “God” ترجمة للّه وليس مفردة “Allah” وهي الشائعة في ترجمات الأدبيات الإسلامية إلى اللغات الأوروبية؟
الجواب طبعاً في حالة «الحرب المقدسة» أراد الكتاب تنحية التداعيات السلبية للمصطلح في عقل القارئ الغربي، في حين أن التسوية بشأن ترجمة مفردة «اللّه» تخدم نفس الغرض، التقرب من العقل الغربي، لأن مفردة “Allah” ستكون أقل تأثيراً من مفردة “God”.
لنتابع مع الرسالة
تقول الرسالة: «إن الجهاد، ويجب أن يشدد عليه، يعنى النضال، وبالتحديد النضال في سبيل اللّه. إن الجهاد يمكن أن يأخذ أشكالاً كثيرة، بما في ذلك استخدام القوة». ثم تشير الرسالة مجدداً إلى حكاية عدم الإكراه، وأن الدين لا يفرض العنف. ثم تضيف الرسالة بأنه يمكن تلخيص قواعد الحرب الإسلامية التقليدية المعتمدة في المبادئ التالية:
«1. إنّ غير المقاتلين ليسوا أهدافاً جائزة أو شرعية. ولقد تم التأكيد على هذا... من قبل النبي وأصحابه...
2. لا يجعل المعتقد الديني أي إنسان عرضةً للهجوم. إن الطائفة الإسلامية الأولى كانت تحارب وثنيين قد قاموا أيضاً بترحيلهم من مواطنهم واضطهدوهم وعذبوهم وقتلوهم. وبعد ذلك كانت الفتوحات الإسلامية ذات طبيعة سياسية.
3. بوسع المسلمين ويجب عليهم العيش بسلام مع جيرانهم. <وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ...[28]>. على أي حال ذلك لا يستثنى شرعية الدفاع عن النفس والحفاظ على السيادة».
هذه هي قواعد الإسلامية في الحرب، وسنتناولها في الأسطر التالية:
أ. النقطة الأولى: هل فعلاً لا يعتبر غير المقاتلين أهدافاً مشروعةً أسوة بمؤسس الإسلام؟
واقعياً يقبل الفقه الإسلامي قضية استهداف المدنيين وحتى المدنيين المسلمين أنفسهم من أجل تحقيق الهدف العسكري. وقد عُرفت هذه الحجة الفقهية التي تقبل التضحية بمدنيي العدو كما بمدنيي المسلمين بالتترس. ولا تعارض النظرية ـ بل حتى تقبل ـ تعريض المدنيين للموت وفق قراءة صحيحة للسيرة المحمدية، فمن أجل تحقيق النصر العسكري، يمكن قتل أطفال ونساء العدو. وهذه النظرية تستند تماماً إلى الممارسة العسكرية للمسلمين بما في ذلك في المرحلة اليثربية بقيادة محمد وفيما بعد في جميع المراحل التوسع الإسلامي. وقد سجلت لنا المصادر الإسلامية روايات مروعة في جميع هذه المراحل. وهنا لن نورد إلاَّ نصاً واحداً لدى البخاري يقول:
«سُئِلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الذّرَارِيّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ يُبَيّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ. فَقَالَ: ”هُمْ مِنْهُمْ“».
هذه القاعدة المحمدية أسست لنظرية تقبل استهداف المدنيين. وهي النظرية الوحيدة في تاريخ الأديان التي تضفي القداسة على قتل المدنيين؛ بما في ذلك قتل مدنيّي أصحاب هذه النظرية.[29]
وحتى أننا نجد في النص القرآني آيات تقبل هذا التأويل، فقد رأى فرق من الخوارج أن أية <رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً[30]> فيها إجازة قتل نساء وأطفال أعدائهم، وهم المسلمون من المذاهب الأخرى.
ب. حول النقطة الثانية:
إن النقطة الثانية مؤلفة من بنود، يقول البند الأول: «لا يجعل المعتقد الديني أي إنسان عرضةً للهجوم». والسؤال المطروح تعليقاً على هذا التفصيل: ماذا نعتبر قرار إجبار الوثنيين على اعتناق الإسلام؟ هل في علم الأديان تعريف يقول بأن الأديان غير التوحيدية لا تندرج تحت مقولة المعتقد الديني. بل وحتى لو تساهلنا قليلاً وقلنا بأن المقصود بعبارة «المعتقد الديني» هو الأديان التوحيدية فحسب، فلماذا كان القرار المحمدي يقضي بعدم ترك دينيْن في جزيرة العرب. فالقرار كان إلغاء كل دين في هذه المنطقة توحيدياً أم غير توحيدي.
البند الثاني: «إن الطائفة الإسلامية الأولى كانت تحارب وثنيين قد قاموا أيضاً بترحيلهم من مواطنهم واضطهدوهم وعذبوهم وقتلوهم».
تعترف الوثيقة هنا بأن الجماعة الإسلامية كانت هي التي تقاتل، وأنها بدأت القتال لأن قريشاً كانت وثنية، فماذا كان يتوجب على قريش الوثنية أن تفعل إزاء قرار إلغاء الدين الخاص لها؟ ومن كان يعتدي على من؟ وجاء بعد ذلك السبب الثاني ـ وفق الرسالة ـ الذي ينص: «قاموا أيضاً بترحيلهم من مواطنهم واضطهدوهم وعذبوهم وقتلوهم». ربما كان يجب على كتاب الرسالة العلماء اﻟ 38 مطالعة المصادر الإسلامية التي تفيد بأن قريشاً لم تبادل محمداً العداء إلاّ بعد أن صارت دعوته تهدف إلى تقويض الأساس العقائدي والسياسي لقريشٍ، وبالتالي كانت قريش تدافع عن تكوينها القائم.
ربما يجدر ملاحظة مفردة «أيضاً» وهي المحذوفة في الترجمة العربية؛ لأنها تعطي سبباً إضافياً للقتال.
البند الثالث، يقول: «وبعد ذلك كانت الفتوحات الإسلامية ذات طبيعة سياسية».
اعترفت الرسالة هنا بأن التوسع كان ذا طبيعة سياسية، وهذا يتضمن طبيعة استعمارية. فلم يكن كتاب الرسالة قادرين على الادعاء بحجة الدفاع عن النفس، وبحجة محاربة وثنيين هذه المرة لا سيما ما وراء تخوم الجزيرة العربية، فأثروا عبارة أردوها غامضة، لكنها نطقت بما لم يشاءوا إظهاره.
المجمل العام في النقطة الثانية أنها تحتوي ثلاث فقرات، متداخلة، فيها عبارات مرتبكة، تفتقد لكلّ بلاغة، وتنم عن تشوش ذهن كاتبها/ كتابها.
ﺠ. النقطة الثالثة: بوسع المسلمين العيش بسلام مع جيرانهم
هذه النقطة بدورها تتسم بغموض، فما المقصود «العيش بسلام»؟ هل الرضوخ لإرادة الإكراه على اعتناق الإسلام، أو النفي، أو دفع الجزية، لأنه خلاف ذلك فإن المجتمعات الإسلامية ممسوسة بهاجس الحرب.
لقد أراد العلماء أن يلقوا ستار الغموض على هذه النقطة فأوردا الآية (61) من سورة الأنفال التي تقول: <وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا> تأكيداً على الميل السلمي للمسلمين، وأضافوا بأن ذلك لا يشمل الدفاع عن النفس والحفاظ على السيادة.
يجدر بنا تذكير أصحاب الرسالة أن المصادر الإسلامية تتفق على أن هذه الآية منسوخة، وتقول بأن النص منسوخ بآية <فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ[31]>. وإن كان ابن العربي يوضح، فيقول: «ليس بين هاتيْن الآيتيْن من تعارض لأن تقدير الكلام فيها يجيء على صورة صحيحة لا تعارض معها، وهو بأن يقال: ”قاتلوهم ولا تهنوا بدعائهم إلى الصلح فإنْ طلبوا هم ذلك فأجبهم“».[32]
بينا يقول الطبري في تعليقه على الآية وبعد أن يرفض نسخ الآية: «وقد أذن اللّه ـ جلّ ثناؤه ـ للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: <فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حيْثُ وَجَدْتْموهُمْ[33]> فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس في إحدى الاَيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه».
ونقرأ في مصدر آخر: «فلما قال عزّ وجلّ <فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ> حظر الصفح والهدنة مع قوة اليد والاستعلاء على المشركين».[34]
ولدينا تحديد يقول:
1. إنْ كان الأمر يتعلق بالمشركين فإن الآية منسوخة ﺒ: <فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ>. وآخرون قالوا إنّ النسخ كان بآية <قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه>.
2. إنْ كان الأمر يتعلق بأهل الكتاب. فالاتفاق هو أن القاعدة ثابتة في حال تقديم الجزية. وفي حال عدم تقديم الجزية فهي منسوخة ويجري التعامل معهم وفق قاعدة <قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه>.[35]
ويعتبر الطبري بشكل صريح أنَّ كل موادعة قد انتهت مع مجيء سورة التوبة، وهي السورة الفارقة.
وجاء لدى القرطبي:
«إذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح... وإنْ كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أنْ يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه... قال القشيري: ”إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألاّ تبلغ الهدنة سنة؛ وإذا كانت القوة للكفار جاء مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة“... وقال الشافعي...: ”لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي عام الحديبية، فإنْ هُودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية“».
لم يكن يخفى البعد السياسي على الزمخشري، فلم يأخذ بالقول بالنسخ، بل رأى بأن الأمر يتصل بالتقدير السياسي للإمام وفق المعطيات، فقال: «والصحيح إن الأمر موقوفٌ على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس يحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً».
ولدينا تفسير لافت للنظر، يقول بأن معنى <وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ> يعنى أن جنحوا للإسلام،[36] وهو ينسجم مع الموقف النهائي للإسلام الذي تعيَّن بنصوص القرآن الأخيرة، والأحاديث المحمدية، وهذا الموقف النهائي والواضح يفند الدعوى التي أعلنتها الرسالة القائلة: «إن فكرة إن المسلمين مأمورين بنشر دينهم ”بالسيف“ أو إن الإٍسلام انتشر بشكل رئيس ”بالسيف“ لا يصمد للفحص...وإن التعاليم الإٍسلامية لا تأمر بأن الشعوب المغلوبة تُكره على اعتناق الإسلام».
كيف يمكن قبول دعوة إن الإسلام لا يتوسل السيف أداةً للأسلمة، والنص الشرعي يقول بوجوب القتال حتى يسلم غير الكتابي أو يقتل، ويسلم الكتابي أو يدفع الجزية؟ ونحن نسأل اﻟ 38 إذا ما كانت فكرة أن الإسلام انتشر بالسيف لا تصمد للفحص كما جاء في الرسالة، فما هو تفسيره العلماء لنصوص مثل:
<وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[37]>.
<فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[38]>.
<قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ[39]>.
<قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[40]>.
«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: ”لا إله إلاّ“، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على اللّه»(الصحيحان).
وكيف نقبل أنَّ الإسلام دعوةً سلميةً والقرآن يعتبر الجهاد تجارةً رابحةً في سبيل اللّه.[41] والحديث يقول: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللّه».[42]
إن الرسالة نص لا يتصل بالإسلام الفعلي، وهذه العناوين الفرعية كانت مجرد رسالة للغرب أراد بها أصحابها تحسين صورة دينهم، وهم في حياتهم الخاصة، وفي مواقع تدريسهم لا يستطيعون الدفاع عن مبدأ <لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ>، ولا نقد الجهاد، وحسب، بل أنهم يعلمون عكس ذلك تماماً، انسجاماً مع فكرهم وتكوينهم اللاهوتي وسيكولوجيتهم. والرسالة من الناحية العملية لا تخرج عن تكتيك القرطبي القائل: «وإنْ كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أنْ يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه».
____________________
[1] النص الإنجليزي للرسالة، هنا؛ والنص العربي، هنا.
[2] سورة البقرة: 2/256.
[3] سورة الكهف:18/29.
[4] سورة الكافرون:109/1 ـ 6.
[5] البغوي؛ تفسير الطبري؛ الناسخ والمنسوخ للمعافري، بيروت، 1424 ﻫ/ 2003، ص 83؛ نواسخ القرآن لابن الجوزي، بيروت، 1423 ﻫ/2002م، ص 84.
[6] البغوي؛ وفي صيغة قريبة في تفسير الطبري.
[7] أسباب النزول للواحدي، 74 القاهرة، 1419 ﻫ/1998م؛ أسباب النزول للسيوطي، بيروت، 1423 ﻫ/2002، تحقيق خالد عبد الفتاح، هامش رقم 5، ص 49.
[8] أسباب النزول للسيوطي، 49 ـ 50؛ ابن كثير؛ الطبري.
[9] تفسير الطبري.
[10] الواحدي، ص 74. ونجد هذا المعنى لدى الطبري وابن كثير.
[11] سورة التوبة: 9/73.
[12] الناسخ والمنسوخ للنحاس، بيروت، 1423 ﻫ/2003م، ص 81؛ ابن الجوزي، 85.
[13] ابن الجوزي، 85.
[14] الطبري؛ البغوي.
[15] الطبري، قارن البغوي.
[16] الناسخ والمنسوخ، أبي المنصور البغدادي، تحقيق حلمي كامل عبد الهادي، دار العدوي، عمان، الأردن، د.ت. ص 242 ـ 243.
[17] النحاس، 81؛ ابن الجوزي، 83 ـ 85. قارن الطبري.
[18] وقد سار الشوكاني في تفسيره الفتح القدير على أثره.
[19] سورة البقرة: 2/216.
[20] سورة البقرة: 2/190.
[21] سورة البقرة: 2/191.
[22] البيضاوي؛ الزمخشري.
[23] النحاس، 82؛ ابن كثير.
[24] البغدادي، ص 161.
[25] الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، د. محمد خير هيكل، دار البيارق، ص 40. والكتاب رسالة دكتورة مؤلفة من 1990 صفحة.
[26] كتاب هيكل، ص 42.
[27] لمعلومات اﻟ 38 ومن لفّ لفهم. جرت في التاريخ اليوناني ثلاث حروب عُرفت ﺒ“Sacred War” ما بين القرن الرابع والقرن السادس قبل الميلاد. وأيضاً زيادةً في معلوماتهم، ثمة أغنية سوفيتية وطنية بعنوان “Sacred War” [Sviashchennaia vojna] نُشدت في الحرب العالمية الثانية. فكيف يرضى هؤلاء العلماء أن يطلقوا على جهادهم ما أطلقه «الوثنيون» اليونان من قبل و«الملاحدة» السوفييت من بعد؟
[28] سورة الأنفال: 8/61.
[29] كي لا نورد أقوال الفقهاء الذين هم محل تقدير من قبل المسلمين، وعلى الأقل بين المسلمين السنة، نقترح على القارئ مراجعة مادتنا على صفحات الناقد المعنونة: «التَّتَرُّسُ ـ قدسنة الكراهية» التي أوردنا فيها هذه النصوص.
[30] سورة نوح: 71/26.
[31] سورة محمد: 47/35.
[32] المعافري، ص 185.
[33] سورة التوبة: 9/5.
[34] النحاس، 155.
[35] ابن الجوزي، 149 ـ 150.
[36] أورده محقق كتاب البغدادي، هامش رقم 18، ص 132.
[37] سورة الأنفال: 8/39.
[38] سورة التوبة: 9/5.
[39] سورة التوبة: 9/14.
[40] سورة التوبة: 9/29.
[41] سورة النساء: 4/74؛ سورة التوبة: 9/111، 112؛ سورة الصف: 61/10 ـ 13.
[42] أبو داود، كتاب الجهاد.
============================
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط