من المعروف أن الموروث الديني المتداول في العقل الجمعي وفي البيئة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي بصورة عامة لم يزل يملك سلطة التوجيه والوصاية، وسلطة الأمر والنهي، ويكتسب مشروعيته في الوصاية والهيمنة والتوجيه والحاكمية من كونه لم يزل في الصورة الذهنية الشعورية والعقلية الثقافية الإسلامية يتميز بالطابع اللازمني الأبدي واليقيني والغيبي والمطلق، وعليهِ فهو الموروث ذاته الذي لم يزل يحدد للفرد المسلم ماهية وجوده الكياني والاعتباري، ويتدخل في تشكيل ثقافته وقناعاته وسلوكه وأخلاقه وشعوره وحتى هيئته الخارجية، ويحدد له طبيعة علاقته مع الآخر ومع عالم الأشياء من حوله، وكما هو معلوم أيضاً فأن الموروث الديني في أبجدية الفكر الديني الإسلامي هو موروث تراكمي ثقافي وعقائدي وعرفي يتراسل تاريخياً ويتناسل وراثياً، ولذلك فأن التراكمات المعرفية الدينية التي تستجد على الموروث ذاته أو تتداخل معه أو تتقاطع معه في مفصليات مرحلية أو تتماهى معه ثقافياً ونصياً وعرفياً وحتى شكلياً، تعتبر أيضاً في العرف الديني موروثاً دينياً يتخذ بالتالي صفة القداسة والحاكمية والوصاية، لأنه يتأسس على الموروث الديني السابق ويتشكل منه وينطلق من أصولياته اليقينية والغيبية والمطلقة، وفي هذه الحالة يصبح الموروث الديني التراكمي معنياً دائماً بالبحث عن شرعيته ومشروعيته في الحاكمية المعاصرة من خلال علاقته الترابطية النصية الكاملة بالمدلولات التاريخية والمقدسة للموروث الديني الذي تتشكل منه النصوص الدينية التاريخية والتراثية، وعليهِ فقد تجذرت في الذهنية والعقلية الإسلامية ثمة قناعة تامة لا تقبل الشك أو النقد أو التغيير، وهي أن النص الديني، أياً كان النص الديني ليس وليد لحظته الظرفية الزمنية والمكانية والتاريخية ويتأثر بالتالي بمجموعة من العوامل التاريخية المولدة له، ولذلك دائماً ما يعتقد المسلم أن النص الديني والذي هو في النهاية يعكس موروثه الديني يجب أن يبقى خارج سياق التاريخ، وليس له علاقة بتبدلات الظروف وتغيرات الأزمنة ومناخات التطور الاجتماعي والعلمي، وانطلاقاً من ذلك فأن تراكمات المعرفيات والأعراف الدينية المتعاقبة والتي هي كما ذكرت تأخذ صفة ومفهوم وقدسية الموروث الديني ذاته، يجب أن تبقى مرتبطة بنيوياً وعضوياً ومفهومياً وتاريخياً بموروثاتها النصية والنقلية السابقة وتكون امتداداً لها، ويجب بالتالي أن تأخذ صفة اليقينية واللازمنية والحاكمية المطلقة..
وبسبب ذلك الاعتقاد الكامل والجازم والمطلق بحاكمية ويقينية ولا زمنية الموروث الديني في العقلية والذهنية الإسلامية بشكل عام، فإنه من الطبيعي أن يتحول الموروث الديني القديم والحالي المتراكم إلى جهاز عقائدي ضخم يملك سلطات مطلقة في الوصاية والتوجيه والهيمنة والحاكمية، بينما في الأساس واقعياً ومنطقياً وعقلياً من المفترض جداً أن يتناول المسلمون الموروث الديني على أنه مجرد نظريات بشرية اجتهادية قابلة للخطأ أو الصواب، وقابلة للتغيير أو التبدل، وقابلة للنقد والتحليل، وخاضعة للفلترة والتقليم، والأهم أن تخضع للدراسة المعرفية كمادة معرفية دينية فقط، من دون أن تتحول إلى وسيلة لأي نوع من الثقافات المعرفية المشبعة بعقلية التوجيه والأمر، وفي هذه الحالة لن يتحول الموروث الديني إلى جهاز عقائدي يحمل صفة القداسة واليقينية واللازمنية، ولكن كل الدلائل والوقائع والأحداث الحالية والسابقة تؤكد أن الموروث الديني بكل منقولاته النصية وحمولاته التراثية وأدبياته التاريخية وتفسيراته الاستنباطية ومفاهيمه العقائدية المقصدية ومعارفه الشرعية وبكل تراكماته المعرفية المتعاقبة الحالية واللاحقة، أصبح جهازاً ثقافياً عقائدياً ضخماً مسيطراً ومهيمناً، مسكوناً بهواجس النرجسية والأفضلية، ومشبعاً بيقينية التنزيه والتعالي والتقديس، ومتخماً بالتخيلات الأسطورية والفنتازية، وحاكماً بالأدلجات الدوغمائية والضيقة والاستحواذية والاحتكارية، ولذلك كانت الخطورة دائماً في أن يتحول الموروث الديني إلى جهاز عقائدي شديد التأثير ومتمتعاً بمطلق الصلاحيات ومتصفاً بالحاكمية والوصاية والتوجيه، لأنه في هذه الحالة يسعى بكل امكانياته اللغوية ومخزوناته الفقهية وأحكامه الشرعية ونصوصه الموروثية إلى الانشغال كلياً بخلق مساحات شعبوية معبأة تماماً بفكر التطرف والتشدد والكراهية ليصبح هدفه الأساسي تعبئة النفوس والضمائر والعقول ضد الآخر المختلف، أياً كان الآخر المختلف، ومنهج التعبئة الدينية الشعبوية المستند على فكر التطرف والتشدد والذي تنتهجه وتعمل عليه المجاميع الدينية عبر أجهزتها المنبرية والدعوية والإعلامية والكتابية والشعاراتية المختلفة، يتمثل في هوية دينية تتأسس على الخطاب الديني الوراثي والتوارثي، ولذلك فأن الهوية الدينية هي هوية توارثية وترابطية وغير مهتمة تحديداً بعوامل التغيرات والتطورات الاجتماعية والثقافية والبيئية، وبالتالي فهي ليست منفصلة عن موروثاتها الدينية الأصلية، وتتحدد مباشرةً في منهجيات مسلكية وفي خطابات ماضوية وفي قوالب ثقافية نابذة للآخر ولاغية للمختلف ورافضة وقامعة للمغاير..
وهناك عامل شديد الصلة بالموروث الديني، داعمٌ له ومستنداً عليه، ومنطلق منه ومستمر به، وهو أن الموروث الديني في الذهنية والعقلية الاعتقادية للمسلمين بشكل عام يتميز بالصفاء المطلق، لا تشوبه أية شائبة ويخلو من الهنات والمثالب والثغرات، ومنزه عن خلل المقصد ومعصوم من عثرات الخطأ، وقد استفحل هذا الاعتقاد مع تعاقب الأزمنة وتراكمات الموروث الديني، مندفعاً بهوس الاستعراض الديني المسرحي، حتى أصبح الموروث الديني وتفسيراته المختلفة وتأويلاته الكثيرة وتطبيقاته المتعددة يتغذى على وهم الصفاء كما يقول المفكر علي حرب، ونتجت عن ذلك بشكل مطرد ومتناغم مع هذا الاعتقاد، مفاهيم الأفضلية على باقي الموروثات الدينية الأخرى، وبرزت معها نزعة التقديس المطلق للذات المسلمة والتقليل من شأن الآخرين، بل واحتقار معتقدات الآخرين وانجازاتهم الثقافية، والاعتقاد بصفاء الموروث الديني وخلوه من القصور المعرفي أفرز التعصب الشديد للهوية الدينية الإسلامية، ولم يكن مستغرباً والحالة هذه أن يبقى يدافع (المثقف) الديني عن هويته الدينية بطريقة تنمُّ عن نشأة تربوية دينية تلقينية وشفهية ومعلبة، مردداً بكثيرٍ من السطحية والبلاهة مقولات وتوجيهات وعاظه الدينيين وخطبائه المنبريين، ومكرراً أدبيات موروثه الديني على إنها يقينيات مطلقة، ومتمسكاً في الوقت ذاته بآرائه حولها من حيث إنها الحلول النهائية والأكيدة لمشكلات البشر، ويظهر نوع آخر من المثقف الديني ذلك الذي لا ينفك يستعين بأقوال وآراء الفلاسفة والمفكرين والمخترعين الغربيين ويحاول بقدر ما يستطيع أن يُسقط أفكارهم على موروثه الديني أو يجعلها بطريقة وبأخرى تتماهي ثقافياً مع موروثه الديني أو محاولة تجييرها قسراً لتتلائم وتوجهاته الدينية لكي يثبت بطريقة هزيلة وساذجة أن موروثه الديني قد سبق آراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والمكتشفين حول الطبيعة والحياة والإنسان بمئات السنين، وهناك أيضاً نوع ثالث من المثقف الديني، ذلك الذي يصف الحضارة الغربية بمناسبة ومن غير مناسبة بالفساد والانحلال والتفسخ الأخلاقي وفوق ذلك يتنبأ بانهيارها واندثارها، بل ويتمنى ذلك، ولا نعرف كيف يتمنى أن تهلك هذه الحضارة وتنتهي، وهي التي توفر له كل سبل الراحة والاتصال والعلاج والتعليم الراقي..
وانطلاقاً من كل ما سبق يصبح التساؤل منطقياً: ما الذي يجبر الفرد المسلم عموماً على التسليم مطلقاً من دون تفكير أو بحث أو تحليل أو نقد أو تفكيك، للموروث الديني، سواء ما اعتاد على تلقيه شفهياً، أو ما توارثه ثقافياً وتقليدياً من أسلافه، أو ما تعلمه تلقينياً في المناهج التعليمية والمؤسسات الدينية، أو ما يتأثر به مجتمعياً وبيئياً، أو ما يُؤتمر به من مشايخه ومرجعياته، أو حتى ما يترسخ منه كثيراً في عقله الباطن..
أعتقد أن الإجابة تتلخص في نقطة رئيسية تتركز بكثافة في ثقافة الخوف التي تجذرت عميقاً وزمناً طويلاً في البنية الذهنية للشخصية الإسلامية، خوف الذات المسلمة من الانعتاق من هيمنة ووصاية موروثها الديني، وأستطيع أن أحدد ثلاثة مخاوف شكلت ولم تزل تشكل عائقاً كبيراً أمام الأغلبية من المسلمين لتخطي هيمنة السلطة التوجيهية والاستحواذية للموروث الديني والانعتاق من مسلماته ويقينياته المطلقة، فالنوع الأول من الخوف أجده يتمثل في خوف الفرد الدائم من النبذ، نبذ البيئة العقائدية المجتمعية المسلمة وثقافتها الجماعية الدينية له، ويتخذ النبذ الديني للفرد الذي يرفض التسليم والخضوع لأدبيات الموروث الديني طرقاً عدة ووسائل مختلفة، من التجريح الشخصي له، إلى الطعن في أخلاقه وشرفه، وإلى عزله اجتماعياً، علاوةً على حفلات التشنيع الإعلامية عليه تلك التي يتفنن في افتعالها والترويج لها التيار الديني بحق كل مَن لا يجد شيئاً يجبره على الرضوخ لسلطة موروثهم الديني، ويصل النبذ الديني في بعض الأحيان إلى مستوى التصفية الجسدية والتهديد بحياته، ولذلك يتردد الكثيرون من الدخول في غمرة الصراع مع الموروث الديني خوفاً على أنفسهم وشخصهم ومكانتهم الاجتماعية من النبذ الاجتماعي الديني المتوحش لهم، ويحصل والحالة هذه أن يتخلى البعض عن ممارسة حقه الإنساني في النقد وحقه أيضاً في تجاوز ما لا يراه مناسباً له، في مقابل القبول بثقافة الموروث السائدة ومسايرتها مسلكياً وثقافياً وشكلياً وشعورياً وعرفياً، لأنه يجد سلامته الشخصية في كل ذلك وحفاظاً بالتالي على مكانته الاجتماعية بينهم، فالإنسان بصورة عامة يخشى النبذ الاجتماعي له ويتخوف من مخالفة السائد والمسلّم به حتى لا يجد نفسه يوماً خارج دائرة الاعتراف به مجتمعياً ودينياً، وأما ثاني تلك المخاوف، فهو خوف الفرد المسلم على هويته الدينية من الضياع والطمس إذا ما فكر في الخروج من هيمنة موروثه الديني، لأنه يعتقد مؤمناً بأن موروثه الديني يعكس كينونته الذاتية والوجودية وهويته الشخصية، ومن غير هذه الهوية يشعر بالفقد والضياع، لأنه لا يملك سوى إرث واحد يدافع عنه ويتمترس خلفه ويتخندق فيه وهو يمثل كل رصيده في ماضيه وحاضره ومستقبله، فهويته الدينية هي خط الدفاع الأول والأخير في تراسل تاريخه المديد، وإذا ما تم التعرض لهذه الهوية بالنقد والتحليل والتفكيك فمن الطبيعي أنه يشعر بالخطر عليها، فبماذا يفتخر ويتفاخر ويُفاخر المسلم سوى بهويته الدينية التي يراها الأقدس والأفضل والأنقى على كل ما سواها من هويات دينية أخرى وهي في النهاية مرجعيته في كل مناحي حياته وهي الإطار الذي يحدد من خلاله علاقته بالآخرين وبالعالم، وبذلك فأن الفرد الذي لا يملكُ سوى موروثه الديني هويةً كاملة له، وراهناً في الوقت نفسه كل حاضره ومستقبله لهذا الموروث فمن الطبيعي ألا يقبل أي مساس به، متخوفاً بالتالي من فقدان هويته الدينية وضياعها، لأن ذلك يعني تلقائياً ضياعه وتشتته وتلاشيه، وثالث تلك المخاوف، خوف الفرد المسلم من عقاب الآخرة إذا ما حاول تجاوز موروثه الديني، فثمة اعتقاد ديني جازم لديه لا يتسرب الشك إليه في أن معارضته ونقده لموروثه الديني تعني مخالفته لأوامر خالقه وسيعرضه ذلك للعقاب والعذاب الأخروي، في حين أن خالقه يحضه على استخدام العقل في التفكير والتفكر والتبصر والتأمل..
ختاماً، ربما طريق الانعتاق من استبداد ووصاية الموروث الديني، قدرة الفرد المسلم على تبديد تلك المخاوف والتحرر منها وتجاوزها، وإلا فإن نتيجة تقديسه وتبعيته الكاملة وخضوعه المطلق لموروثه الديني وخيمة عليه، لأنه سيمنح كامل الصلاحية والهيمنة لموروثاته الدينية في أن تستبد بعقله وبتفكيره وبقراره وباختياره وبحياته..
================
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط