تقول الآية (123) من سورة التوبة للمسلمين: <قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً>، وبهذا تفرض الآية واجبيْن: أولاً، وجوب مقاتلة غير المسلمين دائماً؛ ثانياً، ضرورة البدء بقتال الأقرب للمسلمين داراً. ويقول الطبري إن الآية قصدت وقت وحيها مقاتلة الروم لأنهم كانوا يَلُون المسلمين، فالروم كانوا في بلاد الشام، وهي أقرب إلى المدينة ـ مركز الإسلام ـ من العراق. وبعد انتشار المسلمين، صار «الفرض على أهلِ كلّ ناحيةٍ قتالُ مَن وَليَهم من الأعداءِ دونَ الأبعدِ منهم، ما لم يُضْطَرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطُروا إليهم، لَزِمَهم عونُهم ونصرّهم، لأن المسلمين يَدٌ على مَن سِواهم»[1].
يستعرض ابن كثير في تفسيره للآية الحملات العسكرية لمحمد وبعدها حملات خلفائه الثلاث: أبو بكر، عمر، عثمان، الذين جرت في عهودهم اجتياحات واسعة، وينهي استعراضه بالقول: «فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعَلْتْ كلمة الله وظهر دينُه، وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلمّا علوا أمّةً انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم» التزاماً بنص الآية[2].
قال بعض العلماء إن الآية <وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً> (التوبة: 9/ 36) ناسخة للآية (123)، بحيث يمكن البدء بقتال غير المسلمين في أي مكان، لكن الاتجاه السائد بين علماء القرآن يفيد أنه بعد أن جاء أمر مقاتلة <الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً>، فإن الآية (123) جاءت لتدل على المنهج القتالي بطلبها البدء بدول الجوار، ولأسباب عملية، وهي حسب الرازي:
(1) تعذر مجابهة الجميع، وبالتالي فالمنطقي البدء بالأقرب؛
(2) الأقرب هو الأقل كلفةً، فتوفير وسائل التموين يغدو أكثر كلفة (دواب، أدوات، آلات) في حال كان الهدف بعيداً؛
(3) إن توجه المسلمون صوب الأبعد، فإنهم يتركون خلفهم جبهة مكشوفة؛
(4) سهولة الحصول على المعلومات الاستخباراتية من دول الجوار[3].
يرى مفسر حديث أن هذه الآية أمرٌ بوجوب غزو البلاد «المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلّما استقر بلد للإسلام وكانت تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة. لذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس»[4].
ويقول سيد قطب إن الآية «تحديد لطريق الحركة الجهادية»، بعدما غدت الجزيرة العربية قاعدة انطلاق هذه الحركة لنشر الإسلام بالسيف، ولقتال أهل الكتاب إما لقبول الإسلام أو لإعطاء الجزية عن يدٍ[5]. ويضيف القول عن الآية إنها «تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك. وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما [محمد] وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة»[6].
ويؤكد قطب على أن وجوب مهاجمة الجوار لا يقتصر على حالة الحرب الدفاعة، ولا حتى في حالة الحرب الوقائية. ويرد على علماء مسلمين لبسوا قناع التقية في موضوع الجهاد:
«ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن.. أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة، فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآني بذاته مطلق، وهو النص الأخير! [...]
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام! وأن يكون الله ـ سبحانه ـ قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار!.. يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة، ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة!»[7].
وبما أن المفسرين القدماء قالوا إن الآية كانت تقصد الروم في وقتها، فإن قطب يجد فيها خطاب تحريض ضد المسيحيين، كون الروم مسيحيين، ويضيف: «وهذه لفتة لا بدّ من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب، المنحرفين عن كتابهم، المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم!»[8].
ولا تختلف قراءة الشعرواي (ت 1998) ـ الفقيه السلطاني في دولة اُعتبرت غربية الهوى ـ عن قراءة قطب الجهادية، فيقول في سياق تناوله للآيتين (التوبة: 9/ 36 و123) إن لا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تعارض بين الآية: <قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم...> والآية: <وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً>، لأن <كَافَّةً> أي جميعاً، ويضيف ناصحاً المسلمين: «فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، ومتى ضممته إليك نقصت أرضاً من عدوك»[9].
وتختم الآية (123) القول: <وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً>. وهذه الخاتمة تحصيل حاصل، لأن العنف شرط لازم للحرب. ويعرّف الزمخشري الغِلْظَةَ بأنها جمع: «الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة، والعنف في القتال والأسر»[10].
هذا مبدأ من مبادئ العلاقات الدولية في الإسلام، فالحرب مفتوحة وعلى كل الجبهات، وهي ليست حرب دفاعية، ولا حتى وقائية خوفاً من هجوم الدولة الجارة، بل الحرب واجب على المسلم، ولأسباب عملية يجب البدء بالجوار. وأما سبب هدوء الحدود المعاصرة فيعود إلى صعوبة تطبيق هذه القاعدة في الوضع الراهن، وبما أن النص القرآني مطلق وصريح، فيجب على المسلمين، في حال سنحت الفرصة، قضم دول الجوار التزاماً بهذه الآية وتقليداً لسنة التاريخ التي سار عليها المسلمون الأوائل.
ــــــــــــــــــــــ
[1] الطبري: 12/ 86.
[2] ابن كثير: 7/ 320 ـ 321.
[3] الرازي: 14/ 234 ـ 235. قارن: البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (ت 745 هـ): 5/ 117. [يعيد عرضها بعد حوالي مئة عام أبو حيان الأندلسي، صاحب تفسير البحر المحيط: 5/ 117. وفي العصر الحديث: محمد عبده في تفسيره المنار: 11/ 81، والمراغي في تفسيره: 11/ 49، والشعراوي في تفسيره، ص 5581].
[4] ابن عاشور: 11/ 63 [ت 1972 م].
[5] قطب، 1715.
[6] قطب، 1736.
[7] قطب، 1737.
[8] قطب، 1739.
[9] الشعرواي، 5581.
[10] الزمخشري: 3/ 109