قال لي صديقي بكلمات مرتعشة، وهو يتناول كوب الشاي الساخن في ليلة شتاء باردة: هل قرأت ما كتبه أحد (الخبراء) السعوديين الفلكيين بشأن التحولات المناخية الأرضية والتي يرجح أنها ستعيد لجزيرة العرب أنهارها وعصافيرها وأزمنتها الربيعية الخضراء؟
قلت: مر زمن طويل لم أقرا صحفنا اليومية.
قال ووجهه يتهلل بالفرح: ستعود الجزيرة كما كانت جنة غناء. وهذا مصداقاً لما روي عن نبي الأمة من أن القيامة لن تقوم قبل أن ترتدي جزيرة العرب حلتها الخضراء الأولى.
شربت آخر دمعة بقيت بكوب الشاي، ثم قلت ـ وبلا اكتراث ـ: من يكره ذلك؟ أتمنى أن تتحقق تلك الرؤية النبوية!
وقبل مدة ليست بالقصيرة، قال لي أحد الأشخاص بحماس، وهو يستعرض ـ تاريخياً ـ أسباب الخسائر الكارثية لمستثمري الأوراق المالية في سوق المال الأمريكية في أكتوبر من عام 1987، أو ما يعرف بالاثنين الأسود، أن تلك الخسائر الطائلة، والتي دفعت بالبعض إلى الانتحار، تأتي مصداقاً لحديث يروى عن النبي محمد. وخلاصة هذا الحديث أن ابن آدم لو حصل على وادي من ذهب فسوف يطلب بواد آخر، وأن لا شيء يملأ عين ابن آدم سوى التراب. ثم أردف قائلاً: انظر إلى قدم تلك النظرية الاقتصادية العظيمة والتي لم يسبقه إليها أحد من المفكرين الاقتصاديين!
أنا مؤمن بأن النبي محمد حمل رسالة سماوية لتبليغها لقومه مثل كافة الأنبياء الآخرين. وأنا مؤمن جداً ببراعته كقائد سياسي من الطراز الأول، استطاع بقدرته على قراءة الخريطة السياسية وخلق التحالفات السياسية والاقتصادية الذكية أن يقيم دولة مهابة الجانب. وأنا مؤمن كذلك بكفاءته العسكرية والتي مكنته من كسب معظم الغزوات والسرايا التي كان يوجهها. لكنني أرفض تماماً أن نجعل منه عالماً بالفلك ومنظراً بالاقتصاد وأستاذاً بالطب وباحثاً بالتاريخ. ومن يدري، فربما هناك المزيد من الألقاب والمعجزات، تغيب عني في الوقت الحاضر، يحملها الدكتور زغلول النجار في جعبته المملؤة بالعجائب، والذي ما انفك يستهزئ بالغرب ومنجزاته العلمية. فكلما أعلنت مراكز البحوث الغربية عن أي اكتشاف علمي على سطح المريخ أو في باطن الأرض، اخرج لهم لسانه قائلاً لهؤلاء المساكين: قديمة!!!.. القرآن الكريم سبقكم إليها أو النبي (الأمي) ذكرها قبلكم بأكثر من ألف وأربعمائة عام.
المسلمون عموماً لا يناقشون مصداقية القرآن أو السنة النبوية، باعتبارهما من (المسلمات) و(الثوابت) الدينية. فلا يجرؤ أي مسلم على مناقشة مصادرها وطرق تجميعها بمنهجية علمية بعيداً عن التقديس والتسليم المطلق حتى لا يطاله سيف التكفير وتلاحقه دعاوى التفريق في مخدع الزوجية، كما وقع لنصر حامد أبي زيد. لندع القرآن الكريم جانبا، ولنترك ما يثار في كتب التفاسير والتاريخ القديمة حول إشكاليات التدوين في زمن عثمان بن عفان من الترتيب العشوائي للسور، ومن تداخل الآيات المكية بالمدنية، ومن سقوط بعض الآيات[1]، ومن أخطاء النساخ التي لم يجرؤ أحد على تصحيحها[2]. ولنغض الطرف عما لحق بالقرآن فيما بعد من تعديلات ـ معلم القرآن أولاً وسيف بني أميه البتار ثانياً ـ الحجاج بن أبي يوسف الثقفي[3] وتعميمها على كل الأمصار بعد حرق النسخ المختلفة. ولنتجاهل ما سجله السجستاني (ت 613 هـ) من وجود العديد من المصاحف المختلفة حتى بلغت عشرين قرآنا، مثل مصحف عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم.
ماذا إذن عن السنة النبوية؟
هناك حقيقة تاريخية وهامة ربما لا يعيها أكثرية المسلمين، وهي نهي النبي محمد لأصحابه عن تدوين أحاديثه والاكتفاء فقط بكتاب الله، أي القرآن. إن نهي النبي القاطع عن كتابة أحاديثه ثابت في كتب الأحاديث نفسها! روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: "ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر. فمن كان عنده شيء منها فليأت بها، يكمل أبو هريرة، فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه في النار" (الخطيب البغدادي: تقييد العلم، ص 33،32).
وفي صحيح مسلم (ج 18، ص 229)، أن النبي قال: "لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه".
وروى زيد بن ثابت: "إن النبي نهانا أن نكتب حديثه" (الخطيب البغدادي: تقييد العلم).
وصعد الخليفة عمر بن الخطاب المنبر، وقال: "أيها الناس بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلي أحسنها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى رأيي فيه. فظن الناس الذين كتبوا عن رسول الله أنه يريد أن ينظر بها، فأتوه بكتبهم، فجمعها وأحرقها. ثم قال: أمنية عندي كأمنية أهل الكتاب. ثم كتب إلى عماله في الأمصار قائلاً: من كان عنده من السنة شيء فليتلفه (ابن حزم: الإحكام، ج2، ص 139).
وقبل أن استرسل في الحديث عما لحق بالتراث النبوي من أحاديث موضوعة نسبت إليه لتوفير غطاء ديني لحركات سياسية ومذهبية، أريد أن أتوقف عند اسمين ارتبطا ذكرهما برواية الحديث وهما: أبو هريرة وعبد الله بن العباس. فالأول اتهمه كبار الصحابة بالكذب على النبي، وهدده عمر بن الخطاب بالعقوبة لو عاد للحديث عن النبي. ولما مات الخليفة عمر تحرر أبو هريرة من قيوده، وعاد يحدث من جديد، ولكن هذه المرة.. أين؟ في قصر أمير الشام والخليفة فيما بعد معاوية بن أبي سفيان، وما أدراك ما معاوية! (الذهبي: تذكرة الحفاظ، ص 7). إن اتهام أبي هريرة بالكذب جاء حتى من الأوساط السنية المعروفة بولعها برواية الحديث وتعظيمها له، كما يتبين من وصف أحد كبار الحنابلة: "لم يكن من فقهاء الصحابة، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب أشياء" (الجوزي: مرآة الزمان، ج1، ص23). وقد اتهمه عمر بن الخطاب ليس بالكذب فحسب بل وبسرقة مال المسلمين عندما ولاه البحرين. كما اتهمته عائشة بنت أبي بكر بالكذب فيما روى من أحاديث موجهة ضد النساء (رشيد الخيون: الأديان والمذاهب بالعراق، الطبعة الأولى، ص 317). ويذكر بهذا الخصوص، أن أبا هريرة قد روى عن النبي ما يقارب خمسة آلاف حديث، مع العلم أنه صاحب النبي عامين فقط، أي ما يقترب من سبعة أحاديث يومية. وهذا معدل مرتفع للغاية، خاصة إذا قارناه بما رواه عظام الصحابة كأبي بكر وعلي بن أبى طالب اللذين صاحبا النبي قبل بواكير النبوة!
أما الثاني وهو عبد الله بن عباس ـ حبر الأمة- ـ فقد روى عن النبي محمد 1660 حديثاً، مع العلم أنه كان في العاشرة عندما انتقل الرسول إلى "الرفيق الأعلى"! (سيد القمني: الفاشيون والوطن، ص 236:235). وسأذكر هنا قصة حول ابن عم النبي وحبر الأمة، عبد الله بن عباس. كتب أبو الأسود الدؤلي صاحب بيت المال في البصرة إلى خليفة المسلمين علي بن أبي طالب رسالة مختصرة قال فيها: "عاملك وابن عمك (عبد الله بن عباس وكان والياً على البصرة) قد أكل ما تحت يده بغير علمك". وبعد سلسلة من المراسلات بين الخليفة وعامله على البصرة، أرسل الأخير خطاب استقالة قال فيها: "والله لأن ألقي الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها وبطلاع ما على ظهرها أحب إلي من ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والأمارة، فابعث إلى عملك من أحببت". أي أن ابن عباس يرى أن (اختلاس) أموال المسلمين أقل شراً من سفك دماءهم في سبيل الملك والسلطان. وتكتمل فصول القصة بحمل ابن عباس الأموال المنهوبة والاستقرار في مكة المكرمة. وعندما طالبه علي برد الأموال إلى بيت المال، بعث بكتاب قال فيه: ".. إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه"، ثم يوجه إنذاره للخليفة بقوله ".. لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به" (الطبري: الجزء الرابع، ص 557-551).
يذكر (سيد القمني: الفاشيون والوطن، ص 232) أن البخاري جمع ما يقرب من 600,000 حديث، إلا أنه لم يدون غير 4,000 حديث فقط، أو ما يقل عن واحد من الألف(!). أما عن طريقة البخاري في التمييز بين الطيب والخبيث من الحديث فهي الاستخارة. نعم! كان البخاري يصلي ركعتين، ثم يستخير الله. فإن شرح الله صدره للحديث قام بتدوينه، وإن لم يرتح له رمى به(؟!). وبالمناسبة، فإن الدكتور عبد العظيم المطعني ـ أحد حراس التراث النبوي الأشداء الغلاظ ـ برهن على (مصداقية) الحديث وعلى (جهل) المشككين وتهافت دعواهم لأنهم لم يسمعوا بالمنهج العلمي (الصارم) للإمام البخاري رحمه الله، وهي صلاة الاستخارة!
أما الإمام أبو حنيفة فقد كان أكثر تشككاً مما تراكم لديه من أحاديث، إذ لم يقبل سوى سبعة عشر حديثاً من جملة مئات الألوف. ولهذا نرى أبا حنيفة الأكثر تحرراً من قيود النصوص الغليظة، والأكثر احتراماً لطاقات العقل الإنساني على اجتراح الأحكام واستنباط الحلول، والأقرب إلى الحس الإنساني المهدور في الدين الإسلامي من معاصريه ومن حتى أكثر مفكري الإسلام ليبرالية هذه الأيام.
يتبع.....
[1] مثل الآية التي تضمنت حكم الرجم "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم".
[2] على سبيل المثال: "إن هذان لساحران" (طه: 63) عوضاً عن "إن هذين لساحران"، "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (المائدة: 69) عوضاً عن "يديهما".
[3] أشار المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه (الخلافة الإسلامية، الطبعة الثالثة، ص196:195) إلى جملة من التعديلات التي أدخلها الحجاج على مصحف عثمان مثل: (1) "شريعة ومنهاجاً" (المائدة:48) جعلها "شرعة ومنهاجاً". (2) "لم يتسن وانظر" (البقرة:259) جعلها "لم يتسنه". (3) "أنا آتيكم بتأويله" ( يوسف:45) جعلها "أنا أنبئكم بتأويله".
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط