ـ 1 ـ
إيمان المسلم العميق ـ غير الخاضع للنقاش والمساءلة ـ بأن دينه هو الحق من ربه، وأن الإسلام هو ناسخ لكل الديانات، وأن الإسلام هو الشهادة الدينية المعترف بها والموثقة يوم القيامة، وأن نبيه محمد هم خاتم النبيين والمرسلين، هو المسؤول عن حالة الاستعلاء الديني والطاووسية الإيمانية. عندما يتناول المسلم ـ عالماً أم جاهلاً ـ معتقدات وأديان الآخرين، فإن التحقير والتسفيه لا الفهم والوعي هو المقصد، والازدراء والتشنيع لا التقارب والتواصل هو النغمة السائدة. البعض يدخل في نوبة ضحك، وربما استلقى على قفاه كما كان حال هارون الرشيد عندما يفجر أبو دلامة نكتة. يتساءل المسلم: كيف يخر الهندوسي ساجداً لبقرة بلهاء، وكيف يتمتم المجوسي بدعاء وصلوات للنار المقدسة؟ يعتقدون عن جهل فاضح أن غيرهم يعبدون البقر والنار والحجر والصليب. لا يفهمون أنهم اتخذوها رموزاً ووسائطاً تقربهم زلفا من رب الأرباب المجرد من التشبيه. ما ستكون ردة المسلم المتورم بإسلام يسمو على الكون كله لو التقط هندوسي أو بوذي بخبث طرف سؤال مدبب: ما بال هؤلاء المسلمين يطوفون شبه عراة حول بيت مكعب سبع مرات، ويتنافسون على تقبيل حجر نيزكي، وربما داسوا رقاب بعضهم البعض؟ أيسكن إله المسلمين في جوف هذا الحجر؟ السخرية من ذوي الأديان الوثنية ستكتسي مشاعر من الكراهية عندما يستحضر المسلم صورة الدين اليهودي والمسيحي، بالرغم من أنهما ينحدران من نفس الجذر الإبراهيمي. ولو قيل في محاولة يائسة لردم فجوة الخلاف أن كلا الدينين يشتركان مع الإسلام في عبادة الله لا شريك له، لأسمعوك محاضرة طويلة تنفي الوحدانية عنهما، وتحكم عليهما بالسقوط في غياهب الشرك. السؤال هنا: هل المسلمون ـ وليس الإسلام ـ بدورهم يوحدون الله بالعبادة والعمل لا شريك له؟ لنناقش هذا في الأسطر التالية.
ـ 2 ـ
إن من يقرأ في تاريخ الأديان وتطوراتها سيجد تماساً دينياً، إن لم يكن تقاطعاً بين دين وآخر. إن إنانا (إلهة الحب والجمال والحرب) السومرية ستصبح عشتار عند الأكاديين والبابليين والأشوريين، وستصبح عناة عند الكنعانيين، وأيزيس عن المصريين، وفينوس عند الرومان، وأفروديت عند الإغريق. لم يكن من الغريب تبادل الآلهة بين الشعوب، ولم يكن غريباً تناسخ الأساطير الدينية مع إدخال بعض النكهات المحلية. لقد كانت منطقة الشرق الأوسط أشبه بورشة هائلة تنتج وتستهلك فيما بينها الأديان بكل ما تحويه من آلهة، وأفكار، وطقوس، وشرائع.
الإسلام ليس بنبتة شيطانية، فلم يهبط من السماء السابعة، ولم يقذف به باطن الأرض. الإسلام ما هو إلا سلسلة في حلقات التشكل الديني، وتطور طبيعي لمراحل الفكر الديني. لو قمت بإزاحة طبقة الغبار التي خلفها فقهاء الإسلام ومؤرخيه، للمست شواهد يهودية ومسيحية، ولو تغلغلت أكثر فستجد رواسب وثنية. ومن العجيب أنه عندما أراد المسلمون تمييز أنفسهم بشعار يفرقهم عن نجمة داود الخاصة باليهود والصليب الخاص بالنصارى، اختاروا الهلال الذي هو في أصله رمز لإله القمر، كبير الآلهة والشائع عبادته في الجزيرة العربية. إن كثيراً من الممارسات الدينية تحت راية الإسلام كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والحجاب، وتصورات ما بعد الموت، والقصص الديني، وما إلى ذلك تستمد عناصرها من ينابيع وثنية، ويهودية، ومسيحية، وزرادشتية، ومندائية. ولنلتقط ما جاء على لسان أحد الضباط العراقيين ممن شاركوا في حرب فلسطين عام 1948، وهو يصف ذهابه إلى نابلس مع بيطار يهودي، حيث التقيا بجماعة من قدماء اليهود، يقال لهم السامريون "حضرت مع صاحبي اليهودي البيطار صلاتهم، فرأيتهم يصلون مثلنا صلاة ذات قيام وركوع وسجود، ولهم إمام يؤمهم في صلاتهم، ولمسجدهم محراب، فعجبت من ذلك، وقلت لصاحبي البيطار: لم لا تصل معهم؟ فقال: هذه صلاة قديمة جداً ولا يجوز أن نشاركهم فيها" ( الشخصية المحمدية، معروف الرصافي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، ألمانيا 2002، ص 451-52). رواية صغيرة، إلا أنها مفخخة بدلالات لا تخفى على من له شيء من العقل والفهم.
وبما أن الدين هو انعكاس لتطور العقل البشري فقد ظهرت النزعة التوحيدية، وهي أقرب ما تكون إلى إحالة كل عناصر البانثيون الإلهي للتقاعد، ودمج لكل الوظائف والمهام المناطة بحشد من الآلهة إلى إله واحد، سيكون من الآن وصاعداً هو الخالق والمدبر والمصرف لكل شيء. ربما كانت الديانة الأخناتونية التوحيدية التي جاهد الملك الفرعوني الشاب امنحوتب الرابع لإحلالها مكان التعددية الوثنية في مصر هي أولى المحاولات في هذا السياق. ويعتقد أن الديانة الموسوية (= اليهودية) ما هي إلا امتداد للديانة الأخناتونية والتي حمل موسى (يعتقد أنه كان أحد رجال بلاط امنحوتب الرابع وأكثر المخلصين للديانة التوحيدية) عبء تبشيرها بين اليهود الفارين من مصر. وبعد قرون جاءت المسيحية، وتلاها بعد حوالي ست قرون الإسلام.
المثير أن أتباع الديانات التوحيدية (= الإبراهيمية) سرعان ما يجرفهم الحنين للتعددية الإلهية بمجرد رحيل مؤسس الديانة. فلم تكد بذور الديانة الأخناتونية لتنفلق في أرض مصر حتى غيب الموت المفاجئ الملك الشاب امنحوتب. هنا سارع كهنة آمون لإزالة معالم الدين الجديد، وإخراج الآلهة المندثرة للوجود مرة أخرى. أما موسى فإن اجتراحه للمعجزة تلو المعجزة، لم يكن كافياً لاستمالة قلوب بني اسرائيل لعبادة يهوه الذي كان على استعداد لإحراق العالم من أجل أن يعترف به بنو اسرائيل إلهاً لا يشرك به أحد. ويذكر أن موسى بعدما عاد إلى قومه حاملاً ألواح التوراة، وجدهم منكبين على عبادة العجل الذي صنعه أخوه هارون، فما كان من موسى المعروف بعصبيته وحدته أن ألقى ألواح أرضاً، وأمسك بلحية أخيه. وتبرر إحدى روايات العهد القديم أن انشطار مملكة اليهود إلى شطرين: يهوذا وبني اسرائيل كان بسبب أن فؤاد الملك والنبي سليمان مال لعبادة آلهة الخصب الكنعانية، فعاقبه يهوه بتقسيم مملكته إلى جزأين بعد وفاة سليمان.
أما عقيدة الثالوث في المسيحية فلا يوجد لها أثر لا في تعاليم العهد القديم أو الجديد، غير أن الكنيسة وبعد حوالي ثلاثمائة سنة على مولد المسيح تبنت فكرة الأقانيم الثلاثة. ويرجح أن مجمع نيقية المنعقد في عام 325 م هو من وضع حجر الزاوية في الثالوث المسيحي بوضع المسيح إلى جانب الأب. أما مجمع القسطنطينية المنعقد في عام 318 م فقد أضاف روح القدس لتكتمل أضلاع الثالوث المسيحي. من أين جاءت فكرة الثالوث؟ كل الديانات الوثنية في بابل، الهند، مصر، سوريا، وغيرها من مناطق العالم شهدت تجليات للثالوث الإلهي. ففي مصر مثلاً، كان المصريون يتوجهون بالعبادة للثالوث المكون من الأب أوزوريس والأم إيزيس والابن حورس. وفي الهند، كان هناك الثالوث المكون من براهما، فيشنو، وشيفا. ويعلق المؤرخ ول ديورانت: المسيحية لم تدمر الوثنية لقد تبنتها ومن مصر أتت أفكار الثالوث الإلهي.
أما الإسلام فقد تمكن وبنجاح في غضون عقود قليلة من إسقاط كل الآلهة التي طالما ملأت آفاق العقل الجاهلي، وسدت طرقات السماء المؤدية لعبادة الله وحده لا شريك له. لكن.. هل حافظ الإسلام رغم تشدده على نقاء وحدانيته حتى هذا اليوم؟ نظرياً، لا أحد يجرؤ على القول بذلك، ولكن هناك شكوك تساور من يتأمل حال المسلمين بالأمس واليوم.
ـ 3 ـ
كتب الدكتور كامل النجار مقالة بعنوان "مازال الإنسان في مرحلة التعددية الإلهية" في جريدة إيلاف الإلكترونية بتاريخ (28 أكتوبر، 2005) أوضح فيه أن التعددية مازالت تعشعش في عقل المسلم الباطن، وسواء أكان بقصد أو بدون قصد فقد جعل المسلمون من النبي محمد إلهاً على الأرض. بالفعل، لقد أصبغ المسلمون على نبيهم قدسية تتجاوز مساحة دوره كرسول يبشر بدين جديد، ومنحوه إمكانات أسطورية تتناقض مع عجزه عن إظهار أي معجزة باستثناء القرآن، وأمدوه بقدرات خارقة تتيح له استشراف المستقبل والتبوء بمصير البشرية رغم إعلانه المتكرر في القرآن أنه كباقي الخلق لا يعرف الغيب ولا حتى مصيره يوم القيامة!
إن قيام البعض بتلفيق المعجزات والخوارق المحمدية، وبثها بين المسلمين كما لو كانت وقائع تاريخية لا يرقى إليها الشك، يكشف إلى حد ما أن عقل المسلم لم يقتنع فعلياً بإدعائه أن القرآن هو أعظم معجزة سماوية. لو كان المسلم مؤمناً عن صدق بإعجاز القرآن لما اضطر إلى افتعال معجزات يغلب عليها التكلف وعلى غرار العقلية اليهودية في ضخ الأساطير. فمن صور الكرامات المحمدية التي لم تتفتق حينما كان أهل مكة يطالبونه ولو بواحدة: وقوف شجرة في الوادي بين يدي النبي وشهادتها ثلاثاً أنه نبي الله، دعوة النبي لشجرة أخرى أن تأتيه ليتغوط وراءها، مصارعته أحد العفاريت في صحن المسجد، خروج نور من فرج آمنة أضاء قصور بصرى في بلاد الشام عند ولادتها محمد، محاورة النبي مع الحمار العجيب يعفور المنحدر من سلالة خاصة لا يركبها غير الأنبياء، حديثه مع ظبية توسلت إليه أن يطلقها كي ترضع صغارها ثم تعود إلى وثاقها، وما إلى ذلك من خرافات ألصقت بالنبي منذ ولادته إلى مماته.
وهناك مؤشر أكثر خطورة لفت إليه الدكتور النجار في مقالته، وهي انحناء النص القرآني أمام الحديث النبوي (معظم الأحاديث إلى جانب كونها آحاد مما لا يجعلها أساساً للتشريع فهي مطعون في مصداقيتها). فعلى سبيل المثال، أسقط فقهاء المسلمين آيات كثيرة تقرر حرية العقيدة جاعلين من حديث رواه البخاري (من بدل دينه فاقتلوه) سيفاً مسلطاً على رقبة من يفكر بالتخلي عن الإسلام أو حتى تقديم رؤية دينية مغايرة لما هو سائد. وكمثال آخر، تغاضى الفقهاء عن عقوبة الجلد المقررة في القرآن كعقوبة للزنا مقابل واقعة منسوبة للنبي لجأ فيها إلى الرجم.
وهناك ملاحظة تسترعي الانتباه، وهي أن حجم ردود الفعل التي تفجرت جراء أزمة الرسوم المسيئة لصورة النبي محمد كانت أضعاف ردود الفعل التي صاحبت أزمة تدنيس القرآن في معتقل غوانتينامو، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي. لماذا جن جنون العالم الإسلامي بفعل رسوم كاريكاتورية تنال من نبيهم أكثر مما أصابهم عند تدنيس قرآنهم؟ وبالمناسبة، فإن الله، وهو جذر مشترك في كل الأديان الإبراهيمية، تعرض في أكثر من مناسبة للسخرية ومع هذا لم تنطلق دعوات المقاطعة الاقتصادية، والحملات الإعلامية المضادة، والمظاهرات الصاخبة كما وقع عندما نالت جريدة محدودة الانتشار في بلاد الصقيع صورة النبي العربي!!!
ـ 4 ـ
حتى تتم ترقية النبي محمد إلى مصاف الإلوهية، كان من الضروري تنزيه صفحة رجل، كالبخاري مثلاً، باعتباره الوعاء الأكبر الحامل لمعظم أقوال وأفعال النبي محمد. يكفي أن يقول رجل الدين أن كتاب البخاري هو الأصح على وجه الأرض بعد القرآن ليكون كذلك. ولا تسأل عن منهجية البخاري في التدوين، ولا عن كيفية تحول هذا الكتاب إلى موقد نار تأكل الأحاديث بعضها البعض لما فيها من تناقضات، ولا عن تصادم بعض الحديث مع العقل والعلم، وآيات القرآن، والحس الإنساني والمعايير الأخلاقية.
صحابة النبي، قريبهم وبعيدهم، مسهم قبس من النور الإلهي فصاروا ملائكة بالكامل أو نصف آلهة. هم الأكثر خلقاً، وهم الأكثر إيماناً، وهم الأكثر علماً، وهم الأكثر ورعاً، وهم خير القرون ونحن شرها وأرداها. مرة أخرى ينساق العقل وراء خلق الآلهة، وهذه العملية تتطلب الإطاحة بالأسئلة، وتدجين العقل، ومسح من زامن النبي بزيت القدسية. زياد بن أبيه بعدما تم غطسه في نهر الآلهة ستتساقط ذنوبه كأوراق الخريف كما تساقطت رؤوس الآلاف من الأبرياء الذين أعدمهم بالظنة والشبهة. أحاديث أبي هريرة التي صارت حفراً أمسكت بعجلات العالم الإسلامي نحو التقدم والترقي سيدخل صاحبها مجمع الآلهة، وسترمى في قمامة التاريخ اتهامات أصحابه له بترويج الأكاذيب، وتنحيته من ولاية البحرين بسبب الاختلاسات المالية، وتهديده من قبل عمر لو عاد لرواية الحديث، واستدراجه من قبل معاوية مقابل إطلاق أحاديث تدعمه في حربه ضد علي.
تبقى كلمة أخيرة.. ما بال فقهاء المسلمين يتشددون بشأن الصور والتماثيل؟ أهو مجرد تطبيق لتعليمات النبي محمد أم خوف من هشاشة إيمان الناس واحتمال انزلاقهم إلى عبادة الأوثان؟ ترى هل يجد عقل المسلم في تأليه شخصية النبي محمد والصحابة تعويضاً عن حرمانه من التوسل بالتماثيل والأصنام؟
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط