المسافة بين مسلم اليوم ووثني الأمس بمقاييس الزمن تبعد عشرات القرون، أما المسافة بينهما بمقاييس العقل والفكر فلا تبعد غير سنتميترات معدودة! وثني الأمس بتجاربه الغضة وبسذاجة معارفه، وقف عاجزاً عن فك شفرات الطبيعة، وعن لجم ثوراتها، وعن ترويض عنادها، لهذا ابتكرت مخيلته الطفولية كوكبة من الآلهة، ثم وزع عليهم مفاتيح الأرض والسماء. هذا إله الأمطار، وهذا إله القمر، وهذا إله الشمس، وهذا إله الموت، وهذا إله العالم السفلي، وهذا إله العاصفة، وهذه إلهة الحب والجمال والجنس. وثني الأمس وقف مرتعباً، وهو يرقب القمر الفضي قد بدأ يتآكل في النصف الأخير من الشهر يوم وراء يوم، فظن أن قوى الظلام الشيطانية قد اختطفته. وثني الأمس كان يفسر جفاف الأرض وانقطاع القطر بأنّ الإله الراعي الوسيم تموز قد اعتقلته قوى الشر في عوالمها السفلية. وثني الأمس كان يفسر اتشاح الأرض بحلة خضراء زاهية بأنّ تموز قد عاد من منفاه الأرضي ليمنح الغيوم ماءها، ويمنح الأشجار خضرتها، ويمنح الماشية حليبها وزبدتها، ويمنح الأجساد خمرتها وشهوتها. وثني الأمس كان يفتش عن الآلهة كلما مسه العذاب، وحلت به الهزائم، وجرفته الفيضانات، وفتكت به الطواعين.
مسلم اليوم عصر دماء كل الآلهة القديمة في عروق إله واحد، ومن ثم منحه مفاتيح السماء والأرض. صار "الله" هو إله الشمس والقمر، وهو إله الحياة والموت، وهو إله الأمطار والجفاف، وهو إله الجن والأنس، وهو إله الجنة والنار، وهو إله البدايات والنهايات. يجلس الله على عرشه الوثير، حاملاً جهاز تحكم من بعد، ليدير به شؤون العباد والبلاد. الله حاضر في كبائر الأمور، والله حاضر في صغائر الأمور. لا غرابة في ذلك مادام أن الله قادر حتى على سماع دبيب النمل وهو في عليائه. لو سألتهم: من بعث بإعصار كاترينا الذي دمر مدينة نيو أورليانز الأمريكية؟ لقالوا: إنه الله الغاضب على أمريكا وعلى رئيسها المأفون جورج بوش. ولو سألتهم: من أرسل تسوماني المدمر ليغرق أجزاء من أندونيسيا وتايلاند؟ لقالوا: إنه الله الغاضب على انحلال الكفار وتعري السياح. ولو سألتهم: من أرسل الفيضانات إلى بنجلاديش والزلازل إلى باكستان: لقالوا: إنه الله ليمتحن عباده وصبرهم على بلاءه. يد الله الخفية التي تحرك الأمواج العاتية، وتفجر البراكين الحارقة، وتطلق الأوبئة القاتلة، وتسلط أبدان على أبدان، هي أيضاً من تتدخل في كتابة صفحات حياتنا اليومية، وتوجيهنا حسب مشيئته التي لا يطلع عليها أحد سواه. يخرج اللاعب من أرض الملعب يجر أذيال الهزيمة، فلا يملك من تفسير سوى إنها إرادة الله. يسقط التلميذ في امتحانه، فلا يجد من أفضل من شماعة الغيب والميتافيزيقيا. يفقد مغامر أمواله في عالم المضاربات، فلا يجد من مفر سوى الاعتصام بإرادة الله.
عندما كنت صغيراً، سألتُ مرة: لماذا نحن من نملك أكبر مخزون نفطي دون باقي دول العالم، فقيل لي: إنها مكافأة الله لأهل هذه الأرض الطيبة الذين أقاموا شرعه وحفظوا سنة نبيه. وسألتُ مرة: لماذا لا تحدث لدينا زلازل ولا براكين كبعض دول العالم، فقيل لي: إنها نعمة الله علينا ورفقه بعباده المسلمين. وسألتُ مرة: لماذا شمسنا أشد لهيباً، ولماذا أرضنا أكثر تصحراً، فقيل لي: إنها نارنا في هذه الدنيا، وبلادهم (يقصدون الكفار) جنتهم في هذه الدنيا. إجابات خاملة وتفسيرات بليدة تنطوي على تناقضات حادة وعلى جهل مطبق بأبسط المعلومات الجغرافية. فإذا كان الله سيدخر لنا ما هو أجمل في جنته الموعودة، فهل سيحرم إذناً أهل منطقة عسير المسكونة دوماً بالغيم والمطر والخضرة من كل هذا الجمال في العالم الأخروي؟ ماذا عن ماليزيا وأندونيسيا وتركيا؟ في أي فسطاط يجب أن نضعهم؟
ما من مانع على المرء أن يستحضر المرء الله في أقواله وافعاله، وفي حركاته وسكناته، فالخواطر القلقة لا تهدأ مخاوفها، والقلوب الوجلة لا يضيئها أحياناً سوى زيت الله. مع الله تحل الطمأنينة والسكينة بشأن ما وراء خط الحياة، ومع الله يكتمل حلم الخلود، ذاك الحنين المنشود منذ أن وطئت قدم الإنسان على الأرض. لكن ما يزعج من يراقب عن بعد، وربما يزعج الله نفسه، أن نستنزفه بهذا القدر المفرط من الجنون، وأن نحشر هامته السامقة في توافهنا اليومية، وأن نرهقه في أصغر تفاصيلنا الحياتية على نحو مسف. في ظل غياب الفلسفة وشح المعرفة وتواضعها، لجأ وثني الأمس إلى صنع الآلهة لكي يسد فجوات الروح، ويجيب على اسئلة العقل الحائرة. اليوم، مع كل تلك التراكمات المعرفية والفتوحات العلمية التي أسهم بها (الآخر)، فإن مسلم اليوم مازال مصراً على البحث عن الله. إنه يشبه من يشعل عود ثقاب في شارع مضاء بالأنوار بحثاً عن قرش سقط منه سهواً. الفارق بين وثني الأمس ومسلم اليوم أن الأول استعان بالآلهة في بحثه عن إجابات عن اسئلته القلقة، أما مسلم اليوم فهو يستعين بتلك الإجابات في بحثه عن الله.
affkar_hurra@yahoo.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط