بسام درويش
/
Sep 14, 2005
بينما يسعى النظام السوري للتقرب من الإدارة الأمريكية بمختلف الوسائل، كأن يبعث ـ على سبيل المثال ـ بممثلين عنه إلى الولايات المتحدة بذريعة الفحوصات الطبية أو زيارة الأقرباء أو ما شابه ذلك، نجده يمارس حماقات دبلوماسية على مختلف الأصعدة من شأنها تبخيرُ أي تفكيرٍ ـ إن وُجِد ـ لدى الإدارة الأمريكية بالقبول بالتواصل مع هذا النظام. ومن أكثر هذه الممارسات الحمقاء حمقاً هي سياسته الإعلامية.
وسائل الإعلام في سوريا ليست مؤسسة خاصة وحرة، لذلك فليس هناك من أخبار أو تعليقات أو كلمة مهما كانت تافهة تصدر عنها دون أن تكون بتوجيه أو بإشراف النظام الحاكم. وهكذا، فإن كل كلمة تُطلقها وسائل الإعلام هذه، لا يُمكنُ أن تُفسَّر إلا بأنها معبِّرة عن رأي النظام.
الطريقة الذي تعاملت بها وسائل الإعلام السوري مؤخراً مع احتفاء الشعب الأمريكي بذكرى الحادي عشر من أيلول، لم تكن مسيئة فقط للشعب الأمريكي، إنما أيضاً لكل سوري مقيم في اميركا، ولكل أميركي من أصل سوري.
يبدو واضحاً أن النظام السوري جاهل كل الجهل بما أصبح لهذا اليوم من معنىً لدى الشعب الأمريكي. صحيح أن لهذا الشعب آراءَ مختلفة فيما يتعلق بحرب العراق أو في الطريقة التي تتبعها الإدارة في حربها ضد الإرهاب، لكنّ ليس هناك بين صفوفه ـ إلا بالطبع، بعض المهابيل الذين لا تخلو منهم أمة ـ مَن لا يعتصر قلبه حزناً أو من لا يشعر بالغضب حين يُذكَرَ أمامه ذلك اليوم الرهيب.
كتبتُ سابقاً عن كيفية تعامل الإعلام السوري فيما يتعلق بالعراق، حيث يناقض تماماً كل تصريح يدلي به المسؤولون السوريون من أكبرهم إلى أصغرهم. ففي الوقت الذي يصرح هؤلاء عن رغبتهم بالتعاون مع المسؤولين العراقيين والسلطات الأمريكية لوقف تسلل الإرهابيين، أو عن تمنياتهم للشعب العراقي بالخلاص من المحنة التي يعيش فيها، نجد وسائل الإعلام تسكب الزيت على النار، فتشجّع الإرهابيين بتسميتهم بـ "المقاومة ضدّ الاحتلال الأمريكي"، وتحرّض الشعب على حكومته الجديدة وعلى الأمريكيين معاً.
واليوم، تتعامل وسائل الإعلام السوري مع إحياء الشعب الأمريكي لذكرى الحادي عشر من أيلول بنفس الأسلوب الغبي الذي تتعامل فيه مع العراق:
ـ إحياء ذكرى ضحايا ذلك اليوم البشع أصبح بنظر الإعلام السوري مجرد "حملة دعائية للإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافها في العالم والشرق الأوسط."
ـ مسيرة "فريدوم ووك" في واشنطن لتكريم الجنود الأميركيين في العراق هي في قاموس الإعلام السوري "محاولة إعلامية سافرة لكسب التأييد لإدارة الرئيس بوش"
ـ الإدارة الأمريكية "تستغل" هذه المناسبة لتصعيد حملتها ضد "ما يسمى بالإرهاب"!..
أي، وبعبارة اخرى، النظام السوري لا يعترف بوجود إرهاب أو إرهابيين.. فالإرهاب هو اصطلاح موجود فقط في قاموس الإدارة الأمريكية. أما في قاموس النظام فهو "مقاومة شرعية".
أما الحادي عشر من أيلول الذي يحيي فيه الشعب الأمريكي ذكرى ضحايا الإرهاب، فهو في قاموس النظام السوري مجرد "مناسبة تستغلها الإدارة الأمريكية لنشر ما تسميه بالديمقراطية". لا بل تذهب العجوز المتصابية وزيرة الثرثرة لشؤون المغتربين حداً أبعد من ذلك، إذ ترى أنّ الحادي عشر من أيلول عملية مفبركة من قبل أميركا مثلها مثل قصة وجود شخص اسمه أبو مصعب الزرقاوي!
لقد أصبح شاغل الإعلام السوري الأول عرض القتلى من المدنيين في العراق وعرض الجثث التي تطفو على المياه نتيجة إعصار كاترينا، ولم يعد هناك في نظر المسؤولين عن النظام أي شيء إيجابي في أميركا يحدثون شعبهم عنه. الصحف السورية ويرامج التلفزيون السوري تشحن الناس بكل عوامل الكراهية لأميركا وشعبها، ولكنه في الوقت نفسه يتذلل النظام عن طريق قنوات خاصة للقاء مسؤول أميركي.
*********
النظام السوري يعتقد أنه بضحكه على شعبه بخطابه الإعلامي الأبله، يوهمه بأنه صامد أمام الضغوطات الأمريكية، وأنه لا يفاوض على مبادئه وقيمه التي يؤمن بها. لكن هل يشتري الشعب السوري ما تبثه وسائل إعلامه "بقشرة بصلة" كما يقول المثل السوري؟
هذا النظام، على الرغم من استخدامه لأفضل وسائل التكنولوجيا الحديثة في أجهزة إعلامه لبث الأكاذيب، يبدو وكأنه لا زال يعيش بعقلية الخمسينات حين كان بإمكان الأنظمة الحاكمة آنذاك أن تحجب ـ إلى حد ما ـ الأخبار عن المواطنين، عن طريق التشويش على الإذاعات الخارجية، أو منع الصحف الأجنبية من دخول البلد، أو مراقبة الاتصالات الهاتفية.
إنه يتصرف وكأنه يجهل بأن هذه التكنولوجيا نفسها التي يستعملها قد حطمت كل الجدران. يتجاهل حقيقة أنه لم يعد هناك شيء يمكن أن يخفى على الشعب.
الأقمار الصناعية والإنترنت حطمت كل الحواجز. أبواق النظام لم تعد المصدر الوحيد ـ أو الأول ـ للأخبار. فالشعب أصبح مثلاً يسمع عن وصول فلان الفلاني إلى أميركا لاستجداء مقابلة مع مسؤول في الإدارة حتى قبل هبوط طائرته في مطار أميركي.. والبركة في الإنترنت!.. والشعب لا يصدّق ـ على سبيل المثال ايضاً ـ بالأسباب التي دفعت الأسد لإلغاء رحلته إلى الأمم المتحدة.. والبركة في الإنترنت التي نقلت له أن الأسد يخشى على نفسه من احتمال توقيفه في أميركا إذا ما ثبت خلال تواجده في نيويورك أنه كان ضالعاً باغتيال الحريري. حتى ولو لم يكن إلغاء الرحلة خوفاً من التوقيف، فإن المواطن السوري أيضاً أصبح يعرف، والبركة في الإنترنت، بأن مساعي بشار للاجتماع بالرئيس بوش أو بأي مسؤول اميركي ستبوء بالفشل، لأن هناك من بلغه مسبقاً أن لا يأمل بترتيب أي لقاء بينه وأي مسؤول حتى ولو كان موظف استقبال في وزارة الخارجية.
************
قبل فوز الرئيس بوش بولاية ثانية، حذّرت في مقالة لي في سبتمبر 2004 النظام السوري من اعتماد مواقف تنطلق من مراهنة خاطئة على نتائج الانتخابات الأمريكية. قلت آنذاك: "يخطئ الحكم في سوريا إذا كان يراهن في مواقفه على نتائج الانتخابات الأمريكية. فالحرب التي تخوضها أمريكا ضد الإرهاب، أصبحت بالنسبة لها، سياسة مصيرية ثابتة لن يكون بقدرة رئيس جديد يتولى الحكم التخلي عنها. ربما يكون من الأفضل للنظام، أن يتعامل مع الإدارة الأمريكية الحالية، عوضاً عن المراهنة على إدارة أخرى لا يعرف ماذا ستحمل له معها في جعبتها؛ لا بل ربما يرتكب هذا النظام خطأ فادحاً إذ اعتقد أن حكومة أمريكية بإدارة جان كيري، ستكون أكثر اعتدالاً في سياستها المتعلقة بالشرق الأوسط. جان كيري ـ إن توفرت له سبل النجاح في الانتخابات ـ لن يفرّط بأية مصالح مع إسرائيل، ولن يسحب القوات الأمريكية من العراق، كما ولن يكون أقلّ تهاوناً مع الإرهابيين أو الدول التي تأويهم. إن كيري سيكون عظيم الحذر في سياسته، لأن أي اعتداء إرهابي على أمريكا خلال حكمه سيرجّح كفة كل الذين قالوا ـ خلال الحملة الانتخابية ـ بأنه لا يصلح لأن يكون قائداً للأمة بناء على ما أثير عن تاريخه الانهزامي. إضافة إلى كل ذلك، فإنه لغريب أن يعجز النظام السوري ـ وكل نظام آخر يراهن في مواقفه على نتائج الانتخابات ـ عن إدراك واقع مهم، وهو أنّ التعامل مع رئيس يحافظ على كلمته مثل بوش، أفضل من التعامل مع رئيس اشتهر بتذبذب مواقفه مثل جان كيري."
الآن، وبعد مرور أقل من سنة على فوز بوش بالرئاسة لفترة ثانية، لا زال النظام السوري يراهن على قدرات هذا الرئيس على تخطي المصاعب التي تواجهه، وأكثر من ذلك: لا زال يراهن على تصميم هذا الرئيس على المضي في محاربة الإرهاب عن طريق ترسيخ الديموقراطية وعلى الأخص في هذه المنطقة من العالم.
في أسوأ الأحوال، وحتى لو انتهت فترة الرئيس بوش الثانية دون إنهاء المهمّة على أكمل وجه، فإن مراهنة النظام السوري على مجيء رئيس أقل تصميما من بوش فيما يتعلق بالخلاص من الإرهاب والأنظمة التي تدعمه سيكون أيضاً رهانا خطأً. ربما قد يمدّد ذلك عمر النظام لسنة أو سنتين ولكنه تمديد لن يدفع ثمنه إلا الشعب السوري.
خلاصة الكلام: صبرُ الإدارةِ الأمريكية ينفذُ بسرعة، وإذا أراد النظام حقاً إثبات نواياه ـ هذا، إن كانت لديه نوايا حسنة ـ فما عليه إلا أن يقرنها بسياسة إعلامية تعكس هذه النوايا ـ وبسرعةٍ قبل فوات الأوان. فأميركا التي توجهت إلى أفغانستان والعراق لتخوض حربها مع الإرهابيين بعيداً عن أراضيها، قد تستعد قريباً للتوجّهِ غرباً كي تخوض هذه الحرب خارج منطقة تواجدها في العراق.
يقالُ أنّ الرئيس بوش مولعٌ في هذه الأيام بأغنية معروفة لأم كلثوم تقول فيها: إنما للصبر حدود.. يا حبيبي!
ومن له أذنان للسمع فليسمع!
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط