الإنسان عموماً بحاجة دائماً إلى الإيمان بقناعات ذهنية أو ثقافية أو أيديولوجية أو تاريخية أو مجتمعية أو دينية أو مذهبية، ولا يتصور نفسه خارج هذه القناعات أو منسلخاً منها، لأن قناعاته أياً كانت توفر له الحماية من المجهول والغامض، وتوفر له أعلى مستويات الحماية من الجديد والمغاير والجريء والمبهر، وتوفر له الحماية أيضاً من نفسه التي ربما قد تسلك في وقت ما دروباً وعرة أو تعرجات حادة أو شكوكاً محتملة أو مناطقَ مجهولة، ولكن سرعان ما تلجمها قناعاته المتجذرة فيه وتردم فيها أي محاولة للتمرد أو الرفض أو التغيير أو التحديق أو الاكتشاف، وربما ليس مهماً عند الإنسان عموماً أن يعرف عقلياً ومنطقياً وعملياً وذاتياً وتجريبياً أن قناعاته رديئة أم جيدة، صحيحة أم خطأ، وهمية أم حقيقية، إنما المهم عنده التيقن من مستوى التعلق بها إيمانياً وعاطفياً وانفعالياً ووراثياً وحماسياً، وكلما كان إيمانه بها وثيقاً ومقدساً وثابتاً، كان مطمئناً لقناعاته واقتناعاته، متماهياً ومتوافقاً معها وراضياً عنها وقابلاً بها وخاضعاً ومستسلماً لها، تسير به ويسير بها، ولذلك ليسَ مستبعداً أن تتغول القناعات على الإنسان، وتسلبه إرادة التفكير والاختيار، وربما تسلبه أيضاً معرفته بحقه الإنساني في الاقتناع الحر، وقد تفترسه القناعات وتصبح أكبر وأقوى منه، ويضطر معها إلى قبولها والانصهار فيها والتخلق بها، ومن ثمَّ يحيلها إلى حقائقَ وبرمجيات وثقافات وأوهام ومذهبيات وأدلجات ومسلكيات يتغذى عليها ويقتات منها، ويجد فيها تالياً وجوده وخلاصه وراحته وأمنه الاجتماعي والثقافي..
وعادةً ما يلتزم الإنسان بقناعاته، متشبثاً بها ومدافعاً عنها، وقابضاً عليها، ومحشوراً في قوالبها الاسمنتية، ولا يفعل ذلك لأنه ملتزم باقتناعاته تجاه قناعاته، ولا يفعل ذلك لأنه فقط وجدَ نفسه بحكم الظروف أو المحيط أو الوراثة أو المناخ الاجتماعي والثقافي السائد واقعاً فيها وسائراً في مداراتها، إنما يفعل ذلك لأنه يحب أن يجد نفسه مقيداً بقناعاته، إنه يتقيد بقناعاته حباً فيها وتلذذاً بها، وعادةً ما يسعى الإنسان إلى تلمسِ أسباب عدة يصنع منها قيوداً تكبله بقناعات كثيرة، فالإنسان يجد في القيود التي يفرضها على نفسه متعةً مضاعفة، لأنه يبرر من خلالها قبوله بها وحبه واستسلامه لها..
وعندما لا يحاول الإنسان معرفة حقيقة الأشياء من حوله، أو لا يرغب في معرفتها أو لا يريد أن يمتلك معرفة عنها، يصنع لنفسه قيوداً وأصفاداً كثيرة يندرج تحتها ويستسيغ معايشتها ويرعاها بالتواطؤ معها في أعماقه، أو أنه ربما يفترض وجودها، ويحاول أن يُقنع نفسه بها ويقتنع تالياً بواقعيتها وفائدتها وجدواها، ويمضي بها بقية عمره، يهربُ من جحيم الأسئلة التي تلاحقه وتحاصره وتضغط عليه، خوفاً من أن تلتهمه في نهاية الطريق، ولذلك فإن ثمة ألماً حقيقياً ونافذاً في أن يبقى الإنسان في مواجهة الأسئلة التي تحاصره وتلاحقه، أو أن يبقى في مواجهة تلك الأسئلة التي يثيرها ويستفزها، أو تلك التي يخرج بها من سكونها وتلعثماتها، بحثاً عن قناعةٍ ما قد يقبل أو يقتنع بها حيناً من الزمن، وربما قد يُلقي بها بعد ذلك بعيداً عنه، باحثاً عن قناعةٍ أخرى قد تُشبع جانباً من شكوكه أو دهشاته أو تساؤلاته أو انفعالاته أو توجعاته أو تأملاته (التأمل الفلسفي نوع من الدهشة الأليمة) كما يقول الفيلسوف شوبنهور..
ومن طبيعة الإنسان أن يجد نفسه في قناعات مكرورة، متشابهة وجاهزة ومعتادة ومسبقة، وقد يستعذِب هذا الأمر ويركن إليه دائماً، ومن طبيعته الذاتية أن يجد نفسه أيضاً قد اعتاد بارتياح باطن أو بارتياح ظاهر وصارخ على الإيمان بقناعاته المكرورة، ويجد من الضروري التمظهر بها، ويعتبر ذلك بالنسبة إليه استعراضاً حقيقياً لمجهوداته التمثيلية في الإيمان والتسليم بها، فالقناعات المكرورة أياً كانت قد تكون منعشة للأوهام ومريحة للنفس، لأنها لا تدفع بالإنسان إلى محاولة الخروج عليها، ولا تطلب منه أيضاً تجديداً أو انتقالاً إلى حالةٍ أو جهةٍ أخرى مناقضة لها، قد تكلفه تعباً وتفكراً وجهداً وألماً ونبذاً، بينما نجد أن أولئك الذين سعوا إلى أن يجدوا أنفسهم في مواجهة القناعات المكرورة تحقيقاً لفردانيتهم المستقلة وانتصاراً لإرادتهم الحرة وانشغالاً بتفكيرهم الحر وتحفيزاً لرغبتهم الجامحة في انتاج الأفكار والفلسفات والسياقات الخلاقة والمبدعة والمثمرة، قد تمردوا على منظومة القناعات المكرورة ودفعوا ثمناً كبيراً جراء خروجهم عليها، ولذلك دائماً ما تتلخص مجهودات ودعوات وانشغالات الفكر الإنساني الحر والتنويري بكثافة على النحو الذي يدفع بالإنسان للخروج من تخشبات وانغلاقات القناعات المكرورة، وعليهِ قد تكون مفهومة رغبة الإنسان عموماً بالبقاء سعيداً وراضياً في ترسبات قناعاته المكرورة، وعدم الخروج عليها والانتقال منها، خوفاً من أن يدفع تكلفة باهظة ثمناً مستحقاً لخروجه عليها وانتقاله منها، وربما نفهم من ذلك أيضاً أن الإنسان إنما يبقى في قناعاته المكرورة، ليسَ اقتناعاً فكرياً وعقلياً من سلامتها أو عافيتها، إنما هروب وخوف من أن يدفع ثمن الخروج والانتقال والتغيير..
ومن عادة الإنسان أنه يعتقد أو ربما يوهم نفسه دائماً بأن قناعاته الدينية والمذهبية والتاريخية القائمة على ثقافة المسلمات واليقينيات والغيبيات لا يطالها الشك أبداً، ويبقى هائماً وسادراً في اعتقاده هذا ومطمئناً له حد التسليم المطلق، ويبقى متقولباً في حدود هذه الحالة أبداً عندما تنعدم فيه الرغبة في المعرفة والتفكير والبحث والتساؤل، فالمهم عنده أن تستطيع يقينياته ومسلّماته توفير أعلى درجات الأمن والسلام والإطمئنان لها في أعماقهِ، تجعله مقتنعاً بقناعاته التي لا يمكن أن يتسرب إليها الشك والتساؤل، ولذلك ربما تموت في هذا الإنسان رغبة العلم والمعرفة، خوفاً من أن يتصادما أو يتناقضا مع قناعاته التي ربما أوهمته دائماً بأنها فوق الشك والنقد والتساؤل، وعادةً ما تغمره قناعاته عن مسلماته ويقينياته بالسعادة والراحة والانتشاء، وليست تلك السعادة سوى الانتشاء بخدر الذهن والعقل من الانشغال بهما بمهمات المعرفة والشك والبحث والتفكير، وفي هذا الاتجاه ربما يصح ما قاله الأديب الشهير برناردشو بسخريته المعهودة (الواقع بأن المتدين أسعد من الشكوك، لا يتعدى كونه من أن السكران أسعد من الصاحي)، وليسَ هناك أكثر خطراً على الإنسان من أن يبقى متعصباً لقناعاته القائمة على الغيبيات والأوهام ويؤمن بها كمسلمات ويقينيات مطلقة، لا يرى غيرها مطلقاً ويجدها في الوقت نفسه كل شيء، لتصبح في هذه الحالة قناعات دوغمائية متصلبة ومتزمتة تستهوي العناد والعدوانية والتحصن والشطط والتكلس، تقتل فيه الانفتاح والتسامح والتعدد، ليخرج بها على الناس، صارخاً فوق رؤوسهم بأبجدياتها الضاجة بالصخب والعنف، يحاربُ بها هذا وذاك، ويستبشعُ في الآخرين المختلفينَ عنه ما يؤمنون به من قناعات أخرى، وهذه القناعات هي في الأساس أقنعته التي يتحصن خلفها، ويخفي من خلالها ضعفه وهشاشته وتصدعاته وتفاهاته، أنه يصبح بحاجة ماسة إلى هذه الأقنعة، لأنها تمنحه نرجسية الوثوق المطلق بقناعاته في مواجهة الآخرين، ولأنه من غيرها يجد نفسه أمامهم ضعيفاً وهشاً، وليسَ مهماً عنده إن كانت أقنعته تلك وهمية وزائفة، إنما المهم أن تكون بالتقصد والتكاذب والمثابرة والتنرجس هي حالته المثالية التي يريد أن يخرج بها في العلن، ولأن قناعاته تعاني من الاعتلال والهشاشة والضعف والهزال، ولا تستطيع الصمود في مواجهة النقد والتساؤل والتفكيك ولا تستطيع التعايش مع الحياة الحديثة والحرة والمتغيرة والواثبة، يسعى الإنسان دائماً إلى حماية قناعاته بسياج من القداسة والأسطرة والنزاهة والتأليه، أنه يحتاج إلى كل هذه الحمايات، حتى لا تتعرض قناعاته في داخله للخدش أو الاهتزاز أو التراجع، وحتى تبقى أمام الجميع فوق النقد والمساءلة..
وربما أستطيع القول هنا أن الإنسان عموماً، عادةً ما يعتنق القناعات كما يعتنق الأديان، عن طريق التوارث، ووفقاً لمنطق البدايات السائدة والمسبقة والمهيمنة، ولذلك عادةً ما يبقى الإنسان مؤمناً بقناعات معينة يكتسبها بحكم التراكم أو التأثر أو عن طريق التوارث، ولكنه في وقت ما وربما في لحظةٍ ذاتية بارقة من حياته قد يتمرد على قناعاته هذه، باحثاً عن قناعات أخرى قد يجترحها لنفسه بعد مخاضات من التجربة والتفرد والتأمل والوعي والتفكير، إنه في هذه الحالة ربما يجترح قناعات عذرية تعكس وعيه الذاتي وتفكيره المستقل وتستوعب حتى ربما جنونه المستحيل ودهشاته الجامحة، وقد يمضي بها وقتاً من الزمن، متصالحاً معها، ومنسجماً مع تجلياتها في أعماقه، من دون أن يصرخ بها شاتماً أو لاعناً أو موبخاً أو نابذاً، ومن دون أن تتلبس بالغموض أو النفاق أو التكاذب أو التناقض، ومن دون أن تتحصن باليقينيات المطلقة أو بالأحكام القطعية أو بالتحيزات المسبقة، ومن دون أن تتمسرح بالقداسة أو الأسطرة، إنها قناعات ينتجها الوعي الذاتي الحر، وليسَ الوعي الجمعي المهيمن، ولذلك فهي تتغير وتتبدل، لأنها تخضع لتموجات الوعي وتوهجات الفردنة والتجربة والحرية والإرادة الكاملة، إنها قناعات تتحرك في فضاء التفكير الحر والمفتوح والرحب، وتحتمل الخطأ أو الصح، القوة أو الضغف، النجاح أو الفشل، العمق أو الضحالة، وتبقى محاطة في الوقت نفسه بالتساؤلات والمتابعة والترصد، لأن القناعات عموماً قد تكون خطأ أو خادعة أو واهمة، وفي حين آخر ربما تكون غياباً عن الواقع، وفي تارةً أخرى قد تكون ساحقة للذات بقيودها التراكمية، وقد تكون شراً (القناعات أكثر شراً من الأكاذيب) كما يقول إميل سيوران، ولذا ربما كان محقاً الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل حينما سُئل: هل عندك استعداد أن تموت من أجل أفكارك؟ فكانت إجابته: لا، لأني قد أكون مخطئاً..
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط