سيمون جرجي
/
Jun 08, 2011
دأبتُ منذ بدء المظاهرات السوريّة، التي تهدف إلى إسقاط النّظام البعثيّ المتمثّل في حكم الأسد من خلال سيطرة الحزب الواحد على جميع مفاصل الدولة السوريّة؛ على اتّهام القسم الأكبر من المعارضين وخاصّة المنتمين إلى الأحزاب القوميّة والدينيّة بالنّفاق! وعرضتُ يومًا بعدَ يوم براهينَ كثيرة تثبت نفاقهم وتلوّناتهم السياسيّة الخدّاعة بحسب الظروف، ما من شأنه خداع المواطن السوريّ لجرّه إلى تأييد المظاهرات برفعِ شعارات نبيلة كالمطالبة بالحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة... إلخ! وفي الواقع لم يثبت القسمُ الأكبر من المعارضات المختلفة تجسيد هذه المثل لا في أحزابِهم ولا في دساتيرها ولا حتّى في تاريخهم الممتدّ منذ القرن الماضي حتّى اليوم.
اتّهام المعارضة السوريّة بالزّيف لا يعني إطلاقًا تمجيد النّظام الحاكم في سورية، لا بل يعني العكسَ تمامًا، أي أنّ هذه المعارضة (ليست جميعها لكن غالبيّتها العظمى) تمثّل وجهًا آخر من أوجه النّظام الديكتاتوريّة. فالنّظام كانَ وما زالَ حتّى اليوم نظامًا أمنيًّا عسكريًّا لا يُمكن الحياة السياسيّة الفعليّة أن تنمو في مثل محيطه هذا: المادّة الثّامنة من الدستور السّوري التي تقضي بسيطرة حزب البعث على كامل الإدارة السياسيّة، وقرار قيادته القطريّة هو قرارٌ سياسيّ يعلو أيّ قرار آخر في الدولة بأكملها! بالإضافة إلى سيطرة المخابرات في فروعها المتعدّدة الأشكال على المواطن السوريّ وإخضاعه لسلطتها قسرًا وقهرًا دون لينٍ أو رحمة. مجلسٌ برلمانيّ شكليّ أشبه ببيوت الضيافة حيث العزف على الرّبابة وتوزيع قهوة الدلالي ليسَ له أن يحلَّ أو يربطَ شيئًا، نوّابُه مزوّرون يتنعّمون بكرسيّهم عدّة سنوات ثُمَّ مع السّلامة. كلّ هذه الأشكال إنّما هي أشكال أوتوقراطيّة تتّجه إلى تأليهِ شخصٍ أو عشيرة أو مذهب أو عقيدة على حساب مجتمع كامل!
على كلِّ حال نعودُ إلى المعارضات السوريّة التي أصدرت قبلَ عدّة أيّام بيانًا عن مؤتمرها في أنطاليا التركيّة يدعو الرّئيس الأسد إلى الاستقالة ويؤكّد عزمه على مواصلة الاحتجاجات نحو إسقاط النّظام. جاءَ فيه أنّ الانتفاضة الشعبيّة سلميّة وهذا أوّل الغيث! إن كانت الانتفاضةُ سلميّةً فعلامَ ترويع الأهالي والسّكان، وحرق المباني الحكوميّة وتخريبها، وتشكيل العصابات وقطع الطّرق والتمييز بين هذا وذاك وفق انتمائه الدينيّ والمذهبيّ؟! علامَ إذًا تلك الشّعارات البغيضة التي حملتموها في جبلة وبانياس، تلك المليئة بالحقد الطائفيّ والكره الدينيّ؟! علام إشهار السّلاح الثّقيل ومواجهة القوى الأمنيّة والجيش؟! إذا كانت بكل هذا العنف والقتل والدّمار سلميّةً فكيف لو كانت عسكريّة؟! إنّ التضليل الإعلاميّ الذي يُتّهم به النّظام تُتّهم به المعارضة أيضًا فتلك التسجيلات الكاذبة والافتراءات أين ذهبت؟! ولو كانت صحيحة فلماذا إذًا تقدّمَ عددٌ من وسائل الإعلام العالميّ باعتذارٍ رسميّ إلى الحكومة السوريّة؟ ثُمَّ وإن كانت انتفاضةً شعبيّة لماذا لا نرى بين عناصر المتظاهرين سوى طيفٍ دينيٍّ مذهبيٍّ واحد؟! ألا يعني هذا لكلّ من يعاين الأحداث أنّ الصّراعَ صراعٌ طائفيّ يهدف إلى الاستئثار بالسّلطة كما استأثر بها طيفٌ مذهبيٌّ واحد منذ حوالي نصف قرن؟! تخرجُ المظاهرات من دور العبادة وتهتفُ بشعاراتٍ دينيّة إلى جانب شعاراتها الإنسانيّة، ونسأل: كيفَ لمواطنٍ من انتماءٍ دينيٍّ آخر أيًّا كان تعلّم من تاريخه دروسًا لا تُنسى أن يُصدّق حريّةً وديمقراطيّةً تخرج من دور العبادة؟! إنّ هذه الدور دينيّة بحت لا سياسيّة وهذا الخلط المتعمّد بين الدّين والسّياسة خلطٌ مقرف ما زالت سورية تعاني من استبدادِه، أيُّ عاقلٍ يُناصرُ استبدادًا على حسابِ استبدادٍ آخر؟!
طرح مؤتمر أنطاليا بيانًا ضبابيًّا لا يُمكن فهمه إلا من خلال فهم شرائح المعارضة نفسها وخصوصًا الدينيّة! والجدلُ الذي حدث في جلسة المؤتمر الصباحيّة حول تضمين البيان أو عدم تضمينه دعوة صريحة وواضحة إلى "فصل الدّين عن الدّولة"، والانتهاء بصيغة توفيقيّة تدعو إلى دولةٍ مدنيّةٍ تقوم على ركائز نظام برلمانيّ متعدّد هو الدّليل الأوّل والأكبر على الضبابيّة التي نشير إليها! لماذا يُصار إلى اختيار صيغة توافقيّة غير واضحة المعالم، ووحدَه فصل الدّين عن الدّولة لقادرٌ على إرساء المواطنة العادلة والسّليمة والمساواة بين جميع المواطنين السوريّين بغضّ النّظر عن أيّ انتماءٍ دينيّ أو عرقيّ؟! لماذا يُستبعد هذا الفصل بين الدّين والدّولة وهو وحدَه القادر على إحياء مجتمع مدنيّ ديمقراطيّ حرّ يكفل العدالة لجميع أفراده دون النّظر إلى مذهبٍ أو مشرب؟!
ثُمَّ لننظر قليلاً في الصّيغة التوافقيّة التي وردت في البيان: "دولة مدنيّة بنظام برلمانيّ متعدّد"! ما هي الدولة المدنيّة؟! وما هي أسس بنائها؟! وما هو النظام البرلمانيّ المتعدّد؟! ولماذا يصرّ المعارضون مرارًا وتكرارًا على الاحتكام إلى صناديق الاقتراع؟ أتُؤكل الحلاوة في عقول السذّج بهذه الصّيغة؟ إنّ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والدولة القائمة على البرلمانيّة أو الديمقراطيّة التعدّديّة دون "فصل الدّين عن الدّولة" مجرّد فقاعات في مهبّ الرّيح، فصندوق الاقتراع والديمقراطيّة التعدّديّة في مجتمعٍ متديّن كالمجتمع السوريّ دون الفصل المذكور إنّما يدمّران أسس الحريّة والديمقراطيّة الحقيقيّة، لأنّهما يمثّلان واقعًا رأي الأكثريّة التي تطغى من جديد على آراء الأقليّات فنعود من حيث أتينا. والتعدّد هو مفهومٌ غامض لأنّه يجزّء المواطنة إلى أجزاء منها ما هو أكثر ومنها ما هو أقلّ، وهذا التجزيء يتمّ نظرًا إلى صفةٍ دينيّة بحت! إذ ما الذي يدعونا إلى إطلاق صفة الأكثريّة على الجماعة الفلانيّة والأقليّة على الجماعة العلتانيّة؟! أليسَ الدّين أو العرق؟ فهو إذًا مفهومٌ تجزيئيّ لا يُمكنه أن يكفل حقّ الجميع بمساواة مطلقة عادلة. ونعود لنكرّر أنّ كلّ هذا يُمكنه أن يبني مواطنةً واحدةً سليمة في حالةٍ واحدة يُفصَل فيها الدّين عن الدّولة، وبما أنّ المعارضة أصرّت في بيانها على تجنّب هذا الفصل واعتماد صيغة ضبابيّة شرحناها قبل قليل، فهي معارضة منافقة تهدف إلى إسقاط نظامٍ قمعيٍّ شرس لتحلّ محلّه بثوبٍ قمعيٍّ جديد. (تحيّة قلبيّة إلى "ائتلاف القوى العلمانيّة السوريّة" الذي يصرّ على تضمين الدستور مبدأ فصل الدّين عن الدولة).
إنّ الأطياف التي اجتمعت في أنطاليا غلبت عليها الأحزاب العرقيّة والدينيّة، وكلُّ حزبٍ قوميّ ضمن نطاق الدولة الواحدة حزبٌ فاشل من شأنه أن يرسّخ في صفوفِ أعضائه والمنتمين إليه، تنظيمًا أو تعاطفًا، أفكارًا انفصاليّة لا يُمكنها أن تسير نحو وحدة تقدّميّة. كما أنّ الأحزاب العقائديّة الشموليّة كالأحزاب الدينيّة أحزابٌ فاشلة أيضًا بسبب هذا التباين الجليّ بين العقيدة والواقع كما ثبتَ على مرّ التاريخ والعصور. فمن السّذاجة إذًا الحديث عن تجارب حزبيّة جديدة دون النظر إلى التجارب السّابقة (جيل مارتينيه)!
وبعد كل هذا العرض نسأل: أليسَت كلُّ تلك الأدلّة برهانًا كافيًا على نفاق معارضةٍ كهذه؟! سؤالٌ يحتاجُ إلى إجابة ضميريّة إنسانيّة.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط