حتى الآن، تبدو المراكز البحثيّة العالميّة الهامة منخدعة بأسطورة التمثيل العددي التي روّج الأخوان المسلمون، والتي ساعدهم النظام السوري، بطريقة غير مباشرة، كما سنبيّن لاحقاً، على ترسيخها في العقول. والمختصر المفيد لتلك الأسطورة يقول، إن الأخوان المسلمين يمثّلون رأي الغالبيّة الساحقة الشعب السوري، باعتبارهم الممثّلين الحصريين للسنّة، الذين هم الغالبيّة الساحقة من الشعب السوري. فكيف يمكن الردّ على مثل هذه الادعاءات؟
قبل أن نبدأ بتفنيد إدعاءات الأخوان، لا بدّ من مقاربة أسلوب الدولة في المساعدة غير المباشرة في هذا الخلق لتلك الأسطورة. في المقام الأوّل، الدولة السوريّة، كأي كيان قائم أساساً على اللاعلميّة أو على العدائيّة-للعلم، تفتقد على نحو شبه كامل أي منهجيّة توثيقّيّة أو أي برنامج إحصائي علمي، كتلك التي تمتلكها الدول المتحضّرة؛ من هنا، فإن أي حديث عن النسب التمثيليّة للديموغرافيا السوريّة، بحسب توزعها الإثني أوالمذهبي أو الأيديولوجي-التحزّبي، يبقى أقرب إلى التخمين منه إلى أي شيء آخر. من ناحية أخرى، فالدولة السوريّة، التي تدرك تماماً خطر الطائفيّة على التماسك المستقبلي للكيان السوري، وتعرف تماماً أيضاً أن الطائفيّة تتفشّى في سوريّا، كالنار في الهشيم، وعلى أعلى المستويّات، تتعامل مع المسألة وفق مبدأ "دفن الرأس في رمال الأوهام خوفاً من وهج الحقائق"، بل تعتبر، بنوع من النفاقيّة المثقفة، أن الحديث في الطائفيّة من المحرّمات، مع أنه الأكثر تداولاً في سوق الإنتلجنسيا السوريّة اليوم، وذلك بدل التعاطي بعلميّة مع هذه المشكلة المزمنة، ودراسة أفضل السبل للتغلّب عليها. وتجاهل المرض ليس الطريق الأمثل للشفاء منه.
بعود على بدء، نتساءل: هل فعلاً أنّ الأخوان المسلمين هم الممثّل الشرعي والوحيد للسوريين؛ هل هم البديل المتاح الأوحد للنظام السوري، إذا ما شاءت الإرادات العليا التبديل؟ وهل حقّاً أنّ السنّة السوريين هم خمس وثمانون بالمئة من مجمل الشعب السوري؟ وهل أن كلّ السنّة السوريين أخوان مسلمون؟
نبدأ بتفنيد أسطورة أن السنّة السوريين يشكّلون خمساً وثمانين بالمئة من مجمل الشعب السوري. إنّ الإحصائيّات شبه الدقيقة التي لدي تقول إنّ العلويين يشكّلون الغالبيّة العظمى في محافظتين سوريتين هامتين: اللاذقيّة وطرطوس. بل أمتلك خارطة دقيقة جدّاً للمحافظتين تؤهلّني للقول، إن نحواً من خمس وسبعين بالمئة من سكانهما هم من الطائفة العلويّة. بالمقابل، فحمص المدينة وبعض ريفها الشرقي أو الغربي، تضمّ عدداً كبيراً من العلويين، ليس أقل من نصف سكّان هذه المحافظة التي تعتبر الثالثة في سوريّا. أمّا حماة، فمأهولة كريف بنسبة كبيرة من العلويين. والحقيقة أن الريف الحموي عموماً، هو ملجأ للأقليّات، بعكس حماة السنيّة المحافظة، التي لا تخلو من أقليّة أرثوذكسيّة في حي المدينة. دمشق أصلاً مدينة سنيّة مسيحيّة مع بعض الوجودالشيعي الإثني عشري. العلويون نزحوا إليها بعد قيام حكم البعث، لكنهم تكاثروا هناك إلى درجة أن أحياء بأكملها، وهي فقيرة عموماً، مكوّنة من البعثيين. وبحسب إحصاء تقديري، لا يقلّ عدد العلويين في دمشق عن سبعمئة ألف نسمة. يجب أن لا ننسى أيضاً الوجود العلوي في بعض مناطق إدلب المحافظة، وتوزّع موظفين علوي قوي في كلّ المحافظات السوريّة. من هنا، يمكن القول، إن النسبة المئوية للعلويين لا تقل عن 18 بالمئة من مجمل الشعب السوري.
إذا انتقلنا الآن لأقليّة أخرى بالغة الأهميّة، خاصّة على الصعيد العلمي، وأقصد بذلك المسيحيين، فإن أبسط ما يمكن قوله إن المسيحيين موجودون في كلّ مناطق سوريّا تقريباً. ففي دمشق، هنالك أحياء هامّة للغاية، مثل القصاع بكل تفرعاته والدويلعة والطبّالة وباب شرقي، يشكّل المسيحيّون فيها الغالبيّة العظمى. بل يمكن القول، دون مبالغة، إن عدد المسيحيين في دمشق، يناهز المليون نسمة. في ريف دمشق، يسكن المسيحيّون في معظم بلداته، إمّا كغالبيّة مطلقة، مثل صيدنايا أو معلولا، أو كأقليّة كبيرة، مثل جرمانا وصحنايا، أوكأقليّة، مثل يبرود والنبك ودير عطيّة. الوجود المسيحي في حلب هام. مع أنهم منغلقون على ذواتهم، لكنهم غير موجودين في الريف الحلبي عموماً. في حمص، الوجود المسيحي هو الأبرز للعيان بين كلّ المحافظات السوريّة. فالمدينة تعجّ بالمسيحيين الذين يشكّلون الغالبيّة المطلقة في بعض أحيائها، كما أن قرى حمص الغربيّة مسيحية بالمطلق تقريباً. كذلك هنالك وجود مسيحي سرياني في قرى حمص الشرقيّة.
في اللاذقيّة أقليّة مسيحيّة هامّة، خاصة في حي الأمريكان. ولا تكاد تخلو بلدة هامّة في محافظة اللاذقيّة من أقليّة مسيحيّة، حتى القرداحة. بالمقابل، فحماة المدينة المحافظة السوريّة الأشهر، لم تعرف من الأقليّات غير المسيحيّة؛ مع ذلك، فالوجود المسيحي قوي تماماً في بعض قرى حماة، خاصّة محردة والسقيلبيّة وكفربو وعين حلاقيم. أمّا طرطوس المدينة، فلا تخلو من أقليّة مسيحيّة أرثوذكسيّة هامّة، مع وجود ماروني أرثوذكسي قوي في القرى. محافظة الحسكة السوريّة هي إحدى أبرز المحافظات بأقليتها المسيحيّة، خاصّة من غير الطوائف الخلقيدونيّة. وكانت القامشلي بلدة شبه مسيحيّة قبل أن يهجرها أهلها إلى دول الاغتراب. باستثناء السويداء وبعض درعا وقراها، فالمحافظات السوريّة الأخرى، لا تحتوي غير أعداد ضئيلة من المسيحيين: لكنهم موجودون حتى في دير الزور، التي يمكن اعتبارها الامتداد الطبيعي للعراق السنّي. بقي أن نشير، إلى أن النسبة المئوية للمسيحيين، برأينا هي حوالي 12 بالمئة، هذا دون أن نأخذ بحسباننا مسيحيي المهجر، الذين ما يزال كثير منهم يحمل الجنسيّة السوريّة.
الأقليّة الهامّة الثالثة في سوريّا هي الدروز. والدروز هم الغالبيّة الساحقة في محافظة السويداء؛ إضافة إلى وجودهم القوي في بلدة جرمانا الكبيرة، وفي صحنايا وبعض دمشق وريف إدلب. وإذا ما أضفنا إلى الدروز الإسماعيليين الموجودين أساساً في محافظة حماة [السلميّة وريفها، وبعض مصياف والقدموس] ومحافظة طرطوس [نهر الخوابي] وبعض حمص ودمشق، تكون النسبة لا أقل من سبعة بالمئة.
ثمّة أقليّة هامة يبدو أني أوّل من أشار إليها في المراكز البحثيّة الأمريكيّة هي المرشديّون. والمرشديّون موجودون بقوّة في بعض حمص وريفها، في ريف حماة المسمّى الغاب، في بعض ريف اللاذقيّة، وفي دمشق وقرية أو أكثر من ريفها. وربما أن هؤلاء يشكّلون حوالي 2 بالمئة من تعداد الشعب السوري.
الأقليّة الطائفيّة العربيّة الأخيرة التي يمكن ذكرها هنا هي الإثناعشريون. وهؤلاء موجودون في أحياء ثلاثة من دمشق، وفي بلدة السيّدة زينب القريبة من العاصمة السوريّة؛ في بعض حمص وقراها، وفي قرية من ريف حلب. وهؤلاء لا يتخطّون ربما 1 بالمئة من مجمل السوريين.
إثنيّاً: يشكّل الأكراد جزءاً كبيراً من الشعب السوري. ولا يقلّ تعدادهم بأية حال عن المليون ونصف المليون إنسان، أي أقل من عشرة بالمئة بقليل. غالبيّة الأكراد العظمى السوريين من الطائفة السنيّة، وإن كان فيهم قلّة لا تذكر من العلويين واليزيديين. مع ذلك، فالأكراد السنّة السوريّون أبعد ما يكون عن الفكر الأصولي بشكله الأخواني، وأقرب في أحزابهم إلى التيارت القوميّة الديمقراطيّة غربيّة الطابع. لكن لا يمكن إنكار الوجود القوي للتيار الصوفي بأنواعه بين هؤلاء.
إذا عدنا الآن إلى السنّة السوريين العرب، يكفي أن نذكر إن أهم الباحثين النقديين للفكر الأصولي بكافّة أشكاله اليوم، على الصعيدين السوري والعربي، هم من جذور سوريّة عربيّة سنيّة: يمكن أن نذكر أسماء لامعة في هذا المجال، مثل: صادق العظم، الطيّب تيزيني، محمّد شحرور، علي الشعيبي، حسين العودات، يوسف الجهماني، زكريّا أوزون، وإلى حد ما، محمّد حبش.
بالمقابل، فإن قادة التيارات القوميّة العربيّة-الإشتراكيّة، بشقيّها الناصري أو البعثي، الشيوعيّة باتجاهاتها، القوميّة السوريّة، الليبراليّة، وغيرها من أصحاب الأيديولوجيّات العلمانيّة، هم من أصول سنيّة: وطبعاً ليسوا من دعاة الفكر الأخواني. هل يمكن أن نذكّر بأسماء مثل رياض الترك، ساطع الحصري، يوسف الفيصل، عصام المحايري.. إلخ؟
من ناحية أخرى، فإن المتدينين السنّة السوريين العرب، هم غالباً من تيارات صوفيّة لا علاقة لها بالأخوان. وهؤلاء هم الغالبيّة.
إنّ ما نراه في سوريّا من مظاهر دينيّة قد تبدو مخيفة للمراقب الغربي، لا يعدو كونه عموماً أحد أشكال الاحتجاج السياسي ذي الطابع الديني على ممارسات خاطئة للدولة. الدولة، بالمقابل، التي منعت كافّة أشكال الاحتجاج السياسي منذ وصول البعثيين للسلطة، أتاحت المجال أمام ذاك النوع من الرفضيّة الطائفيّة لأنها الشكل التنفيسي المتاح الأوحد. وحالما تفسح الدولة المجال لأشكال الاحتجاج الديمقراطي، سياسيّة الطابع، سينكفيء التيار الطائفي ذاتيّاً؛ لأنه لن يعود المخرج الوحيد لعواطف رفض الواقع.
من كلّ ما سبق؛ يمكن القول، إن الأخوان المسلمين، في أفضل الأحوال، لا يشكّلون أكثر من عشرة بالمئة من مجمل التركيبة السكّانيّة للسوريين. ولا يحقّ لهم بالتالي تقديم أنفسهم، بأي شكل، كممثلين حصريين لهذا الشعب.
نبيل فيّاض. خبير في شؤون الأقليّات. 32 كتاباً في المسائل الدينيّة في الشرق الأوسط. عشرات المقالات حول ديموغرافيّة الأقليات، جغرافيتها، عقائدها، وتاريخها.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط