هشام محمد / Mar 17, 2005

يطلق السعوديون على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اسم "الهيئة" للاختصار. وقد كانوا في السابق يستخدمون كلمة "مطاوعة" جمع مطوع أو متطوع. غير أن تلك التسمية بدأت في التلاشي تدريجياً من التداول بين الناس وبمرور الوقت، ربما نتيجة لنضوج الكيان المادي والتنظيمي لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحوله من مجرد ممارسة تطوعية إلى أداة إلزامية تستعين بها السلطات الدينية ـ بموافقة وبتمويل حكومي ـ لحماية المظاهر الوهابية الصارمة من التعدي والانتهاك. وهناك البعض ممن يمتلكون تحفظات على مبررات أو ممارسات الهيئة يفضلون استخدام كلمة "البوليس الديني" أو حراس الفضيلة إن شئت.
بغض الطرف عن تباين التسميات، فإن وجود الهيئة وانتشار مراكزها كالدمامل عبر رقعة البلاد الواسعة وفي كافة المدن والأحياء، لا يعد
تقليداً سعودياً بحتاً أو نتاجاً وهابياً اصيلاً بل أن ذاكرة التاريخ الإسلامي مثقلة ببروز مثل تلك الجماعات المتشددة، والتي طالما طرحت نفسها كوكيل إلهي، مفوض بالذود عن حمى الدين وحماية الأخلاق العامة من التفسخ والتهتك. فعلى سبيل المثال، عانت بغداد في النصف الأول من القرن الرابع الهجري من عنت وشطط الجماعة الحنبلية، التي استمدت للأسف حضورها من انكسار العقل الإسلامي وانغلاق أبواب الاجتهاد في وجهه. أثارت العناصر الحنبلية الشغب بسب تدخلاتها السافرة في أدق الشؤون الشخصية بحجة الحفاظ على الأخلاق العامة، فكانوا ـ على سبيل المثال ـ يهاجمون المواخير (بيوت الدعارة)، ويحطمون بحقد الآلات الموسيقية، ويتحرشون بالجواري، ويوقفون كل رجل وامرأة يسيران معاً للتحقق من شرعية العلاقة بينهما، فضلاً عن مهاجمة مجالس الفكر والفلسفة، وإيذاء أصحابها معنوياً ومادياً، والتضييق على تحركات وأفكار المثقفين وأصحاب الرأي، كما فعلوا تماماً بالمؤرخ ابن جرير الطبري.

لقد كان العنف دائماً وأبداً هو اللون الفاقع الذي صبغ أداء جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر التاريخ. والعنف في حدوده الدنيا يشتمل على توجيه الألفاظ الجارحة والاهانات اللفظية للمخالفين (مثل مناداة من يمسكون به يا كافر.. فاجر.. حمار.. كلب.. يهودي.. نصراني..)، أما في حدوده العليا فهو يصل إلى الضرب والجلد والحبس ومصادرة الممتلكات (جلد المعاكسين للبنات.. جر النساء بالقوة واقتيادهن إلى مركز الهيئة المخيف.. قص شعر الشاب الطويل.. مصادرة الكتب، والمجلات، والملابس، واللاقطات الهوائية..). أما لماذا كان العنف أداة التبليغ؟.. ولماذا أصبح رجل الهيئة مخولاً باقتحام خصوصيات الآخرين؟.. ولماذا صار ذكر اسم الهيئة كفيلاً بإثارة الهلع؟ لا مجال هنا للحفر وبعمق في ذهنية رجل الهيئة، ولكني سأكتفي بذكر ثلاث نقاط رئيسية ساهمت في تغذية العنف:


1 ـ الوهابية لديها شغف خاص بالنص ولكنها لا تملك القدرة على تجاوز عتبته والدخول في دهاليزه. إنها تحمل في داخلها ولاء وإيمان أعمى لكنه ـ ويا للخسارة ـ لا يرى ما وراء الكلمات. لهذا فهي تعاني وبشده من خوائها الروحي الذي يجعل من الدين تجربة فردية ذات بعد روحاني عميق. وربما لاستدراك هذا النقص تنشغل الوهابية بالطقوس الشكلية، وتجند قواها من خلال ابتكار هذا الجهاز الرقابي المتسلط من أجل الإبقاء عليها من الاندثار. إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أهم أجهزة المؤسسة الدينية الوهابية، ويدها الطولى التي تستطيع أن تتطفل على رواد المطاعم.. وتسترق السمع وراء الأبواب.. وتتسلق أسوار البيوت والاستراحات.. وتفتش في ضمائر الناس وعقولهم، فإما أن تمنحهم صكوك الغفران أو أن تقتادهم إلى الجحيم. هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي كلب حراسة ممتاز، ترصد بلا كلل ولا ملل أي محاولة من أعداء الإسلام لتسريب أفكار "خبيثة" من شأنها أن تفسد المجتمع، وتقمع أي محاولة مهما كانت صغيرة للخروج عن وحدة الصف أو التمرد على المسلمات والثوابت (مثل مصادرة الورود الحمراء في عيد الحب.. منع غير المسلمين من التعبير عن هويتهم الدينية.. مصادرة العباءات النسائية التي تظهر مفاتن المرأة كما يدعون.. منع محلات بيع التسجيلات الغنائية من رفع صوت الأغاني لإنها فسق، وتميت القلب، وتنبت النفاق..). هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أكثر وجوه الوهابية بشاعة ودمامة، وهي نموذج صارخ على العقل الوهابي المحشو بالقشور والحواشي وشرح المتون، وعلى القلب المملوء ليس بالسلام والإيمان بل بالبغض والظلام.
2 ـ يرى الكثيرون أنك إذا يممت وجهك باتجاه المشرق أو المغرب، إلى الخليج العربي أو البحر الأحمر، فإن رجل الهيئة الذي ينتظرك هناك يبدو أقل تجهماً وعدائية (لم أقل أكثر لطفاً) من زميله الساكن في نجد أو في شمال أو جنوب السعودية. كلاهما بالطبع يشربان من نفس النبع، وكلاهما يجتران فضلات الأفكار القرووسطية، وكلاهما يعيشان كالدود على حواف النص، وكلاهما يحبان مداهمة قسم العائلات في المطاعم والمقاهي لعلهما يفوزان بالقبض على ذكر وأنثى يجمعهما الحب لا وثيقة "نكاح شرعية"، وكلاهما يقتحمان كالإعصار المكتبات فربما تختبئ بين الكتب روايات غازي القصيبي وتركي الحمد وأشعار نزار قباني. كلاهما يستعمران الأسواق التجارية ويقلبانها إلى ثكنات عسكرية تهاب الدخول إليها فلا تخرج إلا مخفوراً. لكن.. أليست الصحراء هي الطبيعة في تطرفها؟.. أليست الوهابية هي الدين في تطرفه؟.. ما الذي يسفر عندما تتحد الصحراء بعطشها وقسوتها وخوفها بالوهابية بعصبيتها وانغلاقها وسذاجتها وقلقها في قلب بشر؟ ألا يحيلانه إلى كتلة من الحجر؟ أهي مرة أخرى الجغرافيا؟ أهي مرة أخرى ريشة المكان الذي يلون نفوسهم ويرسم تقاسيمهم؟ صحيح، أنا مؤمن بأن الفارق بينهما ـ أي بين مطوع الساحل ومطوع الصحراء ـ لا يعدو كونه إلا تبايناً في درجة اللون وليس اللون نفسه، لكن من الصعب التسليم بأن الوهابيين متساوون دائماً لإننا بذلك نهدر دور الموروث الثقافي والبيئي في صياغة ونظم سلوكياتهم.
3 ـ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مأوى يحتفي بقطعان الساقطين والفاشلين والمحبطين والتائهين، فتمنحهم مالا يكفيهم شر السؤال، وضمادات لإيقاف نزيف جروحهم، وسلطة تدغدغ المكبوت في صدورهم. كل ما يتوجب عليك عمله هو أن تهمل لحيتك، وتقصر ثوبك، وتحمل عصا أو مكبر صوت لتأمر المتكاسلين عن الذهاب للمسجد. يتوارى رجل الهيئة وراء شعارات ويافطات قرآنية وأحاديث محمدية مثل (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) في تبرير التحاقه بجيش الرب الأرضي، غير أن نوازعه البشرية "غير البريئة" لا تخفى على أحد. كثيرون ممن التحقوا بالهيئة طواعية أو تم استدراجهم إليها جاءوا ليغسلوا فيها عار ماضيهم.. كثيرون منهم وجدوا فيها الحضن الدافئ الذي فقده داخل البيت.. كثيرون منهم جاء لينتقم من ماضيه وليصفي حساباته مع المجتمع. نقرأ من حين لآخر أن السلطات العليا في الهيئة أصبحت تدقق في هوية المنضمين إليها بوضع اشتراطات معينة مثل الحصول على شهادة جامعية، بالإضافة إلى إخضاع موظفيها إلى جرعات تدريبية لإكسابهم مهارات الاتصال بالآخرين، لا عن قناعة من قبل القائمين عليها بوجود كثير من التجاوزات ارتكبها موظفوها ضد أفراد المجتمع، ولكن بقصد إسكات وتطييب خاطر بعض الأصوات التي تطالب بإصلاح هذا الجهاز القمعي. للأسف الشديد، هذه الإصلاحات الوهمية لم ولن تنتزع أنياب وأظافر الهيئة. فالاكتفاء ـ مثلاً ـ بتعيين خريجي الجامعات الدينية، بالرغم مما ينطوي عليه من اعتراف ضمني بوجود مخالفات من المتطوعين الذين لا يحملون شهادات جامعية، هو أقرب ما يكون إلى نكتة سخيفة. فالذي يراهن على ابن جامعة الإمام محمد بن سعود ينسى أو يتناسى فضل هذه الجامعة وغيرها في تأجيج نار التطرف بتخريج كائنات أهم صفاتها أنها تناصب العداء للمرأة والفكر والحضارة والغرب والمذاهب الأخرى. فأي نوع من التغيير عنه يخوضون؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط