محمود كرم / Dec 24, 2006

قد لا أحتاج إلى الأدلة والبراهين لكي أثبت موضوعياً أننا أمة مغرمة بالماضي عن جدارة وافتتان، وبشكل عام نستحضره دينياً وخطابياً وثقافياً وحتى سلوكياً، ونستحضره بكل مكوناته ومحتوياته المشهدية والروائية والنقلية والشفهية، لنقيم فيه وننغلق عليه ونبني منه حاضرنا، ونتكيء عليه في مستقبلنا القريب والبعيد، وليسَ ثمة مشكلة في أن تستحضر أية أمة ماضيها لتنهل منه قيمها المعرفية وأدواتها الثقافية وجذورها الفلسفية وتجاربها الإنسانية، بيد أن المشكلة المريعة في أن يبقى الماضي مهيمناً على الحاضر، يسلبه إرادة الحركة والتغيير، ويسلبه منطقية العصر، ويدفع به في دائرة الانغلاق والتعصب، ويلقي عليه قيوده وأغلاله وأسوأ ما فيه من دمامات ثقافية وسلوكية..

 

لا توجد أمة تستطيع أن تنسلخ من ماضيها تماماً أو تتنكر له، ولكنها تستطيع في مقابل ذلك أن تتعلم منه دروساً في تجاوز الأخطاء والهنات والمساويء وعدم تكرارها، وكذلك لا توجد أيضاً أمة لم تتخلص من عقدها الماضوية، ولا توجد أمة توقفت عند نقطةٍ معينة في تراسلها التاريخي واعتبرتها القمة التي توصلت إليها، وليست بالتالي بحاجة إلى المزيد من تحقيق سباق الانجازات الحضارية، فهل توقف البريطانيون على سبيل المثال عند (تشرشل) وهل توقف الأمريكيون عند (ابراهام لنكولن) وهل توقف الفرنسيون عند (ديغول)؟! بالطبع لا، بل واصلت تلك الأمم وغيرها مساراتها التقدمية في تواصلها الخلاق مع الحاضر والمستقبل، ولستُ أبالغ إذا قلت إن الأمة الوحيدة التي لم تستوعب دروس التاريخ وكررت ذات الأخطاء، ولم تغتسل من عقدها الماضوية، وتوقفت عن نقطة معينة في تاريخها هي أمة العرب والمسلمين..

 

وحينما لا تجد أية أمة شيئاً في حاضرها ترتقي به مدارج التقدم والحداثة، وتدخل به حلبة التنافس الحضاري بصلابة وتصميم، ولا تجد بالمقابل في حاضرها ما تقنع به العالم إنها أمة باستطاعتها أن تتبنى استحقاقات العصر ومتطلبات الحداثة، فإنها تلقائياً تهرب إلى الماضي البعيد، وتستدعيه من مغاوره السحيقة، وتتغنى به طويلاً وتطرب لأمجاده العتيقة، غير مبالية وغير مكترثة بما حققته وتحققه من حولها الأمم السائرة في ركب التقدم والانجاز، مادامت تعتقد شعورياً ونفسياً بإنها الأمة التي انحدرت من سلالات الحضارات العريقة والعظيمة، لتبثَ عميقاً وبتقنيات لغوية وخطابية وشعاراتية، الطمأنينة في نفوس أفرادها بإنهم ما يزالون أبناءً أوفياء لحضاراتهم العظيمة والمبهرة، وتتفاخر بهم بأنهم يحملون في ذواتهم تراث الحضارات الكنعانية والبابلية والفينيقية والفرعونية، بينما واقعهم وحاضرهم لا يعكس ما جادت به تلك الحضارات من معرفيات قيمية راقية في العلوم الإنسانية، وقد أصبح واضحاً أن المجتمعات العربية الحالية التي تدعوا مراراً وافتخاراً انتسابها الكامل لتلك الحضارات العظيمة التي أنتجت قيماً ومعارفَ وفنوناً رائعة لا علاقة لها بالمضامين المعرفية لتلك الحضارات وهي مفصولة عنها تماماً، على حد قول أحد الكتاب المثقفين، لا أتذكر اسمه، وهذا القول فيه الكثير والكثير من الواقعية والصدق، فهل من المنطق والإنصاف أن ندعي أن واقع المجتمعات العربية والإسلامية اليوم امتداد لتلك الحضارات، هذا الواقع الممتليء بالقتل والتفجير والكراهية والبلادة الغوغائية والتعصب المذهبي الطائفي والتعفن الأيديولوجي والمشحون بالمظاهر الدينية المتخلفة وبالاستبداد الفكري وبالتخلف الثقافي، والمتفجر بالنزعات العدائية للثقافات الإنسانية الأخرى وللفنون والابداعات الحضارية المختلفة..

 

والمتابع لتاريخ العالم العربي إلى ما قبل قرنين وأكثر، حينما بدأت كما هو معروف، العلوم والمعارف الغربية والاكتشافات العلمية تدخل منطقتنا مع بدايات الحملة الفرنسية على مصر، وما تلتها لاحقاً من أفكار عدة، يرى إنها قد أعتبرت في ذلك الوقت ثقافات دخيلة وغريبة على واقع العرب والمسلمين، فكان أن أحدثت تلك الأفكار والثقافات الجديدة الغريبة صدمةً مزلزلة في الواقع الثقافي العربي الراكد والخاضع تلقائياً لحراك الثقافات السائدة، وأمام هذه الصدمة الهائلة التي جعلت العرب والمسلمين يستيقظون فجأة على خرابهم وعلى واقعهم المتخلف المتأخر جداً عن تقدمية الأفكار الزاحفة عليهم، بدأت المجاميع الفقهية والثقافية في العالم العربي التحرك باتجاهين، للتعامل مع هذا الدخيل الثقافي الجديد، الاتجاه الأول راح يبحث في تراثه القديم عن ما يعينه على التصدي للثقافات الغريبة الجديدة الحداثية، لأنهم وجدوا في تلك الأفكار والثقافات القادمة من البعيد تهديداً حقيقياً لسلطتهم الفكرية على الناس، ووجدوا فيها بالتالي تهديداً للثقافة السائدة التي استحكمت بعقول الناس ردحاً من الزمن، فدعوا إلى العودة الكاملة للتراث والدين والبحث فيه عن أفكار مضادة ودفاعات صلبة لمواجهة القادم الجديد، بدلاً من البحث عن نقاط الالتقاء المشترك بين معارفهم التراثية من جهة وبين الثقافة الجديدة التي حملت بذور الحداثة الفكرية في أكثر من اتجاه من جهة ثانية، لخلق حالة من صيغ التعامل الحضاري والثقافي والمعرفي، فكان التصادم العنيف مع الثقافات الجديدة سمة أولئك الذين وجدوا فيها خراباً وتعدياً على ثقافة أمتهم الماضوية، أما أصحاب الاتجاه الآخر فهم أولئك الذين سعوا لايجاد صيغ من التعايش الثقافي الخلاق مع القادم الجديد الذي فرض نفسه بمنطق العقل وبمكوناته العقلانية، وكانوا يجدون أن التصادم مع الثقافات الجديدة تهور وغباء وخلل في العقلية العربية والإسلامية، وكان أن دعوا إلى عدم نبذ تلك الثقافات، بل محاولة ربطها بالفكر التراثي الإسلامي، والبحث عن نقاط للالتقاء والاشتراك بين ثقافاتهم القديمة والجديد من الثقافات القادمة من البعيد، وكانوا يجدون أن ما عرفوه عن التراث الإسلامي لا يتعارض مع التوجه العقلاني في الثقافات الجديدة الغربية، وكان من أشهر قادة هذا الاتجاه كما هو معروف، رافعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده..

 

وإلى ما قبل منتصف القرن العشرين استحوذت على واقع الأمة ثقافات انتجتها وعملت على تجذيرها وترسيخها حركات الإسلام السياسي الديني تزعمتها بقوة شعبوية هائلة تنظيمات الأخوان المسلمين، التي تأسست على فكرة مناهضة (الغزو الثقافي) ومحاربة الآخر المختلف ونعت الحضارة الغربية بالجاهلية، ووجدت سبيلاً قوياً لها في واقع الأمة من خلال الاحتكام الكامل لموروثات الفكر الديني، وراحت هذه التنظيمات الدينية تروج لاستحالة الالتقاء مع الحداثة الثقافية والسياسية، وكانت تجد في التراثيات الثقافية والدينية الماضوية رفضاً قاطعاً لكل ما هو جديد وحداثي، ولم تكتفِ بهذا القدر، بل سعت جاهدةً لمحاربة أي جديد وأي قادم، لمجرد أنه يتعارض مع التراث والماضويات الدينية والثقافية، وليس خافياً على أحد كتاب (سيد قطب) في هذا المجال تحديداً (معالم على الطريق)، والذي يعتبر دستوراً ومنهجاً دينياً لمناهضة الآخر المختلف ثقافياً وفكرياً، ويدعوا من خلاله للعودة بشكل كامل إلى التراث الديني فكراً وثقافة وسلوكاً ومنهجاً حياتياً ومرجعية سياسية..

 

ولذلك أجدني أتساءل: لماذا يأسرنا الماضي ويخطف منا حاضرنا، ويرهنه لديه بليداً غبياً خاضعاً، ومتبنياً شعاراته الحماسية وحمولاته الأيديولوجية والثقافية ومنقولاته التلقينية وقوالبه المعرفية وأحداثه التاريخية، إلى درجة أصبح التعامل مع الواقع المعاصر يتم من خلال استدعاء السياقات الثقافية والسياسية الماضوية السحيقة واقحامها قسراً على الأحداث الحالية واتخاذها مرجعية مطلقة، وإلى درجة إننا أمام التطور العلمي الهائل والاكتشافات العلمية المتلاحقة، أصبحنا نبحث في التراثيات الماضوية الدينية ما نمنح بها الفتوحات العلمية الفذة شرعية الموافقة والتحليل أو شرعية الرفض والتحريم..؟؟!!

 

علينا أن نعترف أن التخلف الذي يضرب بأطنابه في كل ناحية من نواحي مجتمعاتنا، يأتي من توريث الحاضر عقد الماضي ومشاكله وسياقاته الثقافية والسياسية ودماماته السلوكية التاريخية، إنها الماضويات المهيمنة بقوة موروثاتها الدينية والمجتمعية، إنها الماضويات التي تلغي العقل والإرداة الحرة وتلغي التفكير النقدي وتسلب من الفرد حقه في تجاوزها، وتلغي قيمه الذاتية لتجره إلى منطق الجماعية ومنطق المسلمات الماضوية وتذيبه في كياناتها المجتمعية ذات الطبيعة الإلغائية للفكر الحر المستقل، وكما هو معروف أن حاضر أية أمة يرتبط بماضيها، وما لم يتم تجاوز الماضي الذي يكبل حاضرها، فإنها من الطبيعي أن تجد نفسها تدور في فراغات ذلك الماضي وفي متاهاته وأمراضه ودماماته، تستحضره دائماً وتبحث فيه عن مضادات حيوية لحاضرها المريض الذي لم تعد تنفع معه تلك المضادات الفاقدة للصلاحية والاستخدام، ويكفي أن ننظر اليوم إلى واقع العراق وغيره كأمثلة على خطورة استدعاء الماضويات القبيحة وتفعيل أدواتها التراثية ضمن سياقاتها التاريخية في واقع اليوم، حيث التقاتل والتباغض المذهبي الطائفي مسيطراً هنا وهناك، مستحضراً الماضويات ذات النكهة الاحترابية والاشكالية لإثبات كل فريق أحقيته المطلقة في امتلاك الحقيقة، ويكفي أيضاً أن ننظر إلى النماذج الإرهابية التي تتمثل في قوى التطرف الديني وإلى الثقافات الدينية والقومية التي تتغذى على الكراهية والعدائية والغباء والسذاجة التلقينية والشعارات البلهاء والدمامات السلوكية وعلى تراكم الهزائم النفسية والأمجاد الزائفة والذاكرة النرجسية والتي أنتجتها بغزارة الماضويات المهيمنة..

محمود كرم، كاتب كويتي  tloo1@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط