هشام محمد / Jun 10, 2006

ـ 1 ـ

في زمن الأصوليات السوداء، لا يجب أن يقرأ الإنسان تاريخه كما هو، بل يجب أن يقرأه كما هو مقرر له، وكما يلتحم مع رغبات التيار الديني، ومن ورائه شارع مسلوب العقل والإرادة.  ثمة صفتين يجب أن يتحلى بهما المرء عندما يتعاطى مع التاريخ ليضمن رأسه فوق كتفيه، وهما: النفاق والغباء.  لا يجب الحديث عن أولئك الذين ماتوا قبل أربعة عشر قرناً دون أن ننثر فوق رؤوسهم الزهور، ونكيل لهم أطناناً من المديح.

 إذا كان رجال الدين قد جعلوا من لحومهم مسمومة حتى لا توجه لهم الانتقادات، فإن لحوم الصحابة التي نهشوها فيما بينهم بسيوفهم تعتبر أكثر سماً وفتكاً بمن يتناولهم ليس بالسب بل بالنقد الموضوعي والمنهجي.   سيقولون: ومن نكون نحن لننتقد سلوك صحابي شرب من الينابيع المحمدية الصافية؟  في كل مرة تخرج الدليل تلو الدليل من باطن المراجع التاريخية سالباً الصحابة أجنحتهم الملائكية سيحدثونك عن الإسرائيليات وعن ضعف الروايات وعن دس المغرضين.  تستغرب كيف يصمد بعناد ـ مثلاً ـ زهد عمر بن الخطاب المزعوم أمام حشد من الوقائع والمشاهدات التاريخية المكررة في أكثر من مرجع معتمد تثبت أن عمر نال نصيبه الوافر من نعم الفتوحات وخيراتها كباقي الصحابة، وما قيامه بدفع أربعين ألف دينار للزواج بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلا نتفة صغيرة تدحض خرافة ثوب عمر المليء بالرقع وإدمانه على شرب الزيت عام الرمادة حتى أسودت بشرته (كان أسمراً في الأصل).  إحدى السيدات التي اعتنقت الأفكار الوهابية قالت في حضوري لصديقتها: "كان عمر بن الخطاب على درجة عالية من الجمال..".  مسكينة تلك السيدة! كيف لجميل طلعة كعمر ألا يورث شيئاً من سحره لحفصة المتواضعة الجمال وزوجة النبي محمد؟

في ظل عبادة الأسلاف، يزداد الموتى جمالاً وحسناً وأدباً وقوةً وخلقاً.  وكلما أوغلنا بعيداً عن نقطة الإشعاع المحمدي، وإرهاصات تشكل المجتمع الإسلامي، يصبح مجرم حرب اسمه بسر بن أرطأة ـ ارتكب من المذابح والفضائع ما يندى له جبين الإنسانية ـ صحابياً جليلاً تتشرف إحدى شوارع المدينة بحمل اسمه الكريم.  إذا كان وضع رجل بدشداشة قصيرة ولحية طويلة، أو مفتي فضائي أو أرضي، أو إرهابي متطرف يعشق الدماء والموت وحور العين وسلال التين، أو صحابي نكرة في الميزان كفيل بأن تفتح عليك أبواب جهنم، فماذا يكون الحال لو قرأت تصرفات النبي محمد بعين الباحث الشغوف للمعرفة والحقيقة لا بعين المتيم المحب؟  يكفي أن نتذكر الهستريا التي ضربت المجتمعات الإسلامية جراء أزمة الرسوم الدينماركية، ونتذكر فوضى الشعارات والملصقات التي ملأت كل مكان لندرك الإجابة.                                

 

ـ 2 ـ

وقع نظري على مقالة بعنوان: "تعدد زوجات الرسول (ص) لماذا؟" منشورة في مجلة (أمتي) (العدد الحادي عشر: مايو 2006).  لم أتوقع قبل أن أبدا بتصفح المجلة أن أي أجد دراسة رصينة وجادة، بل خطاباً إنشائياً تبجيلياً وتبريرياً كالعادة.  المشكلة لا تقف عند حدود النبي محمد، بل تتجاوزه لتضم كل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فما مروا بشيء إلا وانبتت الأرض تحت أقدامهم سنابل، وما لمسوا بأيديهم المباركة من شيء إلا واستحال ذهباً، وما نطقوا بشيء حتى سال العسل من أفواههم.  يحتاج المرء إلى أن يقف على رأسه عندما يقرأ التاريخ الإسلامي، كي تتحول سرايا وغزوات النبي إلى دفاع مشروع عن النفس، وقتل الصحابة للصحابة اختلافاً في وجهات النظر، واجتياح العالم وسلب أراضي الغير ومصادرة ثمر عرق (العلوج) نشراً لدين الحق، وقتل المرتد تتويجاً لقاعدة (لا أكراه في الدين)، وتحجيب وازدراء الأنثى تكريما لشأنها، وقطع الرؤوس والأيادي والأرجل وسمل العيون تدشيناً لمبادئ حقوق الإنسان، وهكذا...

فمن جملة المغالطات التاريخية التي اكتوت بها تلك المقالة  التي كتبها الشيخ (صلاح الدين مقبول أحمد) حتى ملأتها بالثقوب الكثيرة ما ذكره الكاتب الفاضل من أن زواجات النبي المتعددة لم تكن لإرواء شبقه الجنسي كما يُدّعى عليه، بل كان استجابة لنوازع إنسانية نبيلة أملاها عليه ضميره الحي، بدلالة أن كل زوجات النبي ماعدا عائشة كنَّ إما مطلقات أو أرامل.  فعلى سبيل المثال، تزوج النبي بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة رغم كبر سنها، وضخامة حجمها، وقلة نصيبها من الجمال.  لكن الكاتب يضرب صفحاً عن ذكر توسلات سودة للنبي بأن يبقيها على ذمته، بعدما عزم على تطليقها مقابل أن تتنازل عن ليلتها لمصلحة عائشة.  كيف تنتكس الأخلاق، وتنقلب المبادئ، ولا يمتد حبل المعروف حتى آخر مدى؟  ألم تكن سودة أكثر مما مضى بعد النزوح إلى المدينة بحاجة لزوج تتعكز عليه بعد أن حفر الزمن أخاديده في جسدها، وغزا الشيب شعر رأسها؟  وفي موضع آخر، ولكي يجهض الأسئلة في مهدها، ويقتلع الشكوك من جذورها، كان لابد من البحث عن تبرير ميتافيزيقي لزواج النبي محمد الذي تجاوز الخمسين وقتها بطفلة صغيرة لم تتجاوز التاسعة بعد ألا وهو رؤيا صالحة جاءته في المنام.  هذه الرؤية المزعومة تشبه علامة قف، فلا يجب لعقولنا الصغيرة والتافهة أن تذهب إلى ما وراءها.  تذكرت هنا حادثة قرأتها في إحدى الصحف المحلية تتلخص في أن رجلاً مصرياً ذبح وبدم بارد طفله الصغير تلبية لرؤية (صالحة) أخبرته أن هذا الطفل سيغدو رجلاً فاسداً عندما يكبر.  وإذا كنا سنقف وكأن الطير على رؤوسنا أمام هذه الرؤية الهابطة من السماء السابعة، فإننا لا نملك سوى أن نضحك ونضحك على تفسير غريب ساقته المقالة لتبرير زواج النبي من زينب بنت جحش، وهو سعي النبي بتكليف إلهي لإبطال عادة التبني.  كيف؟  من المعلوم أن زيد بن حارثة، وهو أبن النبي محمد بالتبني، وكان متزوجاً من زينب ذات النسب الرفيع، ولأن الله أراد إلغاء التبني فقد دبر لزواج زيد من زينب، ثم دبر لتطليقها منه، وتزويجها من النبي (!)  أول ما يتبادر لمن مازال يملك بقية من العقل وشيئاً من الضمير أن يتساءل: وما ذنب زيد؟  ولماذا يستدرج كطعم هنا؟  ألم يكن جديراً بالله أن ينزل حكمه دون أن يكسر قلب هذا الفتى؟  بالطبع فإن صاحب المقالة سيضطر لكنس القصة الحقيقة تحت هذه السجادة الحمراء المفروشة للنبي، وسيتظاهر أنه لم يسمع كلمات النبي والتي التقطتها آذان زينب، وهو يدبر قائلاً: "سبحان مقلب القلوب" بعدما رأى جمالها الفتان عن قرب.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط