هشام محمد / Oct 26, 2006

ـ 1 ـ

الفتوى نوع من القانون البديل، وهي مزيج من عنصرين: سماوي وأرضي.  في مجتمعاتنا المتخلفة حضارياً لا تحظى القوانين البشرية بالاحترام والتقدير، ربما للطبيعة الجينية والمتمردة على التنظيم والقوانين، وربما للتعبير عن تحدي مبطن لاستبداد السلطة السياسية، أو ربما لشعور راسخ بانتقائية القوانين وافتقادها لروح العدل والمساواة.  أضف إلى ذلك، أن الفتوى صارت تستمد مزيد من الألق والتسلط نتيجة صعود الأصوليات الدينية والفشل المتزايد للحكومات السياسية من الوفاء بالتزاماتها تجاه رعاياها.  لقد صار من الشائع أن ترى الكثير منا عندما يضطر للمفاضلة بين بديلين، فإن عقله يرتج بسؤال تقليدي: أحلال أم حرام؟ 

 

يصر المفتي لضمان الاحتفاظ بالملايين من مريديه أن قيم الحلال والحرام لا تضيء فقط طريق المرء إلى الآخرة بل تلهمه بكل التفاصيل المنمنمة للعيش في دنياه؛ فالإسلام ـ كما يدعي ـ هو منهاج متكامل لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا وسكب عليها الضوء.  يجد المفتي في سذاجة رجل الشارع البسيط المتخبط بين جواز وكراهية الهروب من سياط الشمس الحارقة للاستظلال تحت شجرة تابعة لبنك تجاري (يطلقون عليه ربوي)، أو بين جواز وكراهية ارتداء المرأة للبنطلون بين النساء صيداً ثميناً لحلب المال والجاه والشهرة.  رجل الشارع البسيط يحمل ذاكرة مثقوبة تنساب منها سوابق تجار الدين وأكاذيبهم لذا سرعان ما يبتلع الطعم المغلف بحلاوة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.  رجل الشارع البسيط يرى أن تضارب الفتاوى "رحمة بالعباد" لكنه لا يرى أنها سوق رائجة تضم الحواة وباعة الوهم للمؤمنين السذج.  ورجل الشارع البسيط يجد في وظيفة المفتي حلاً مريحاً يعفيه من مشقة البحث والقراءة والتفكير مادام أنه سيجد ضالته فوق رفوف "ميجا ماركت" الإفتاء.

تلتف الفتوى حول عنق المجتمع كحبل المشنقة لتكتم أنفاسه، وتتسلل كالأوساخ والغبار إلى محركات الدفع لتحرم المجتمع من الطيران والتحليق.  ما خالطت الفتوى شيء إلا وأفسدته.  دسوا أنوفهم في التعليم فأضاعوه، ودسوا أنوفهم في الاقتصاد فأفسدوه، ودسوا أنوفهم في علاقة المرء بربه فأهدروها.  يطالب أصحاب الفتاوى ممن لا ينتمي لهم ألا يحشر أنفه في الدين، لكنهم – أي المفتين – يصرون على ألا يعبر طير سماء البلاد دون أذن ومباركة منهم، وألا تدب دابة على ظهر الأرض دون موافقة منهم.  أليسوا هم حرّاس الدين ووكلاء الله على أرضه وعباده؟  هل من فرق بين استبداد الكنيسة في العصور الوسطى واستبداد المسجد في عصر الفضائيات والانترنت والعولمة؟ 

 

ـ 2 ـ

لنقتطف بعض المشاهد المعاصرة لنرى أي دور يمكن أن تلعبه الفتوى في تفويت فرص استثمارية تخدم المجتمع الكلي وترفع من درجة الرفاه الاقتصادي، وفي حرمان الأفراد من بدائل استثمارية جذابة.  وأنت لك الحكم والتقدير.

ـ رفض الاستفادة من المواقع الأثرية مثل مدائن صالح كمناطق جذب سياحية امتثالاً لتحذير النبي محمد من زيارة المواقع التي سلط الله عليها عذابه.  لاحظ كيف أن خرافة قوم هود تصبح حقيقة اسمنتيه لا تقبل النقاش!

ـ رفض إقامة المهرجانات الغنائية والتي يمكن لها أن تسهم في إنعاش اقتصاديات بعض المدن أثناء الصيف وفي تشجيع معدلات السياحة الداخلية.

ـ رفض تأسيس دور سينما والتي يمكن لها أن تسهم في تقليل هجرة الشباب الأسبوعية إلى الجارة الصغيرة البحرين من جهة، وفي خلق فرص استثمارية جذابة لرؤوس الأموال المحلية المتراكمة.

ـ رفض قيادة المرأة للسيارة وما يترتب عليه من استنزاف مالي لجيوب المواطنين وجيوب الاقتصاد جراء تحويلات العمال الأجانب النقدية خارج البلاد، ناهيك عن الأضرار الاجتماعية الأخرى.

ـ التدخل في سوق الأسهم من خلال تصنيف الشركات إلى نوعين (فسطاطين): شركات نقية (لا تقبض أو تدفع فوائد بنكية) وشركات غير نقية (تقبض أو تدفع فوائد بنكية).  هذا التصنيف التعسفي يخلق الكثير من البلبلة ويؤثر سلباً على الأوراق المالية المطروحة للاكتتاب وعلى حركة التداول وقيم الأسهم.

ـ إجبار المطاعم والمقاهي على الفصل القسري بين العائلات والأفراد، ثم تخصيص زنزانة (= كبينة) مغلقة لمنع الزوج الشهواني من أن يختلس نظرة لامرأة أخرى لا تحل له.  هذه الاحترازات المرضية تكلف أصحاب الأعمال أعباء مالية إضافية.

ـ مصادرة الورود الحمراء من محلات الزهور قبيل عيد الحب في فبراير من دون تعويض لأصحاب المحلات عن خسائرهم المالية.

ـ متطوع ينصب خيمة أمام مقهى شعبي يؤمه الشباب ليقدم لزواره دروس مجانية وعملية في غسيل وتكفين الموتى وذلك بغرض صرف الشباب عن تضييع الوقت في أماكن اللهو وتذكيرهم بأن الموت منهم قريب.

ـ أحد السذج اتصل بمفتي عبر الإذاعة متسائلاً عن شرعية الدخل الذي يجنيه من مقهى الإنترنت الذي يملكه.  رد عليه المفتي أنه ولعجزه عن منع العملاء من الدخول للمواقع المشبوهة فإن الأولى به تصفية المشروع! بالمناسبة، مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية تحجب كافة المواقع الإباحية والمناوئة لسياسة الحكومة وللوهابية.

ـ ساذج آخر تنازل طواعية عن كل أشرطة التسجيلات الغنائية (حوالي ثمانين ألف ريال) لمصلحة برنامج مبتكر اسمه (استبدلني) حيث يقدم الفرد ما تحت يده من أشرطة وأسطوانات أغاني وأفلام وألعاب كمبيوتر مقابل هدايا عينية، والأهم دعوات مخلصة من القلب بالمغفرة والثواب عند الله!

===========

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط