هشام محمد / Mar 01, 2006

ـ 1 ـ

انساب الحديث بيني وبين أحد الأصدقاء كالعادة في قناة سوق المال وما حملته غلال طواحين سوق الأسهم من مكاسب وخسائر. فجأة كسر صديقي إيقاع الكلام، طارحاً علي سؤالاً بدا منتشياً بروح التشفي: هل سمعت عن السيارة المفخخة التي حصدت عشرات القتلى والجرحى في كربلاء اليوم؟ قلت وبشيء من التأفف: شاهدت ذلك في شريط الأخبار وعلى قناة "العربية" لكني لم أتوقف عنده، فقد سئمت سماع المزيد عن حمامات الدم والموت المجاني والتهديدات بجز الأعناق. قال لي ولم تنحسر موجة الفرحة في كلماته بعد: إنهم شيعة أوغاد يستحقون الموت. لم يكن لدي طاقة من الصبر لأدخل في نقاشات لا طائل من ورائها، فقلت: كل ما أرجوه يا صديقي أن يجتاز العراق عتمة الليل الطويل، وأن ينعم بالأمن والسلام الذي يليق ببلاد عظيمة كالعراق. وكأنما تفاجأ بأني لا أريد أن أشاركه شرب نخب دم الأبرياء وارقص معه على أشلاء "الروافض" ممن دفعوا حياتهم ثمناً بخساً لكونهم من الطائفة الشيعية، لذا قال وبشيء من التعجب والإحباط : لقد بدأت أشك فيك.. أمرك غريب أنت!


ـ 2 ـ

أحفاد بني أمية وبني هاشم اليوم ليسوا بأقل غباء من أسلافهم. مازالوا مصرين على السير في تلك الطريق الوعرة التي مشى فيها من سبقهم. إنهم يرفضون الخروج من سراديب الماضي لمعانقة فضاء المستقبل. ما دخل أبناء اليوم في خلاف سياسي بين معاوية وعلي؟ لماذا يدفعون ثمن الأطماع السياسية من دمائهم ومقدراتهم؟ صديقي كان على حق فأنا أتصرف بغرابة لأن الفرد في القبيلة العربية ـ يسمونها تجاوزاً دولة ـ ما هو إلا ترس صغير يمحى وجهه وتذوب خصوصيته الذاتية في بوتقة القبيلة. داخل حدود القبيلة يلبس الفرد ما يلبسه الآخرون، ويتكلم كما يتكلمون، ويفكر كما يفكرون، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون. من منا اختار والديه، وأسمه، ودينه، ومذهبه، ولون عينيه؟ قوانين القبيلة تحرم عليك أن تصادق شخصاً من القبيلة العدو، أو أن تقرأ كتاباً أنتجته القبيلة العدو، أو أن تعشق فتاة من القبيلة العدو. من يضبط متلبساً بمد غصن الزيتون لخصومه فمصيره النفي والإبعاد من رحمة القبيلة.


ـ 3 ـ

منذ الصغر وقبل أن تتفتح أزهار المعرفة في داخلي وتتسلل أشعة الوعي عبر نافذة عقلي كنت أرفض الكثير من الممارسات الاجتماعية ومثلها من الطقوس والأفكار الدينية لمنافاتها لصوت العقل وضمير الإنسانية. منذ الطفولة لم استسغ شرب حليب الكراهية الأسود، فلم أقوَ على كراهية الشيعي واليهودي والمسيحي والبوذي. منذ الصغر كان في داخلي تمرد على طقوس القبيلة وعاداتها وأزيائها وأصنامها. منذ الصغر لم استوعب لماذا يجب أن أبقي اسم أمي وأختي وأقاربي طي الكتمان فلا أفصح عنه أمام الغرباء. أذكر ذاك اليوم كيف أسود وجه ابن عمتي الصغير وشعرت به يتهاوى كالبناء على الأرض عندما تفوهت باسم عمتي أمام صاحب الدكان الصغير. كثيراً ما كنت أتساءل لماذا يحجب أسم المرأة كما يحجب وجهها. عندما يتفاخر أحدهم قائلاً: الحمد لله على نعمة الإسلام. كنت أقول في نفسي: بل الحمد لله أن خلقت ذكراً. كم هو بشع عندما يسرق من المرأة وجهها واسمها وصوتها وإرادتها. وبعدما كبرت قليلاً وجدت من الشباب من يستثار جنسياً لمشهد امرأة ملتفة بالعباءة السوداء لكني كنت أشعر بأننا كرجال ملطخون بعار هذا اللون الأسود الذي سجنا فيه المرأة. أحد أقاربي بعدما وجدني لا أتشدد في مسألة تحجيب أختي، غمزني ضاحكاً بقوله: أنت تتصرف كخنزير. رددت عليه باستخفاف: أفضل أن أكون خنزيراً على أن أكون جلاداً مثلكم، فأنا أشفق على وجهها من عتمة الحجاب لذا أطلب منها أن تكشفه لنسائم الهواء وأشعة الشمس.


ـ 4 ـ

حدثتني أختي عن ابن الرابعة، الحاكم بأمر الله، وهو الأخ الأصغر لصديقتيها. هذا الطفل المعجزة سلمه أهله قيادة أختيه اللتين يكبرانه بعشرين عاما. عندما توقفت العربة عند بوابة السوق وهمت الأختان بالنزول، صرخ الطفل الرجل في وجه أحدهما: غطي وجهك يا بنت الكلب.. تقول أحدهما لأختي إنه يعاملنا كما لو كنا أغناماً ولا أحد منا يجرؤ على التصدي له فهو الرجل في غياب الأب والأخوة الكبار. من المؤكد أن هذا الطفل ليس استثناءً، بل هو إعادة لإنتاج نفس الأنماط التسلطية واستنساخ للنموذج الأبوي القهري. وغداً سيكبر هذا الطفل وسيكبر أقرانه وسيحلون مكان آبائهم ليعبدوا ما كانوا يعبدون ويحبوا ما كانوا يحبون ويكرهوا ما كانوا يكرهون.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط