زهير الشرفي / Aug 07, 2006

هذا الشعار المميّز للحركات الإسلامية الأصولية هو الذي يعني أو يعوض ما ابتدأ به السّلفيون التّوظيفيون دعايتهم منذ عشرينات القرن السابق حين كانوا يردّدون "القرآن دستورنا"، وهو ما شاهدناه أخيرا في الانتخابات التشريعية المصرية كشعار مركزي لنفس الحركات رغم كل ما تظاهروا به من "الولاء" للشعارات الديمقراطية ومن "الاستعداد" للعمل المشترك في الحقل السياسي.

 

ينادون للعمل المشترك لكنهم لا يتورّعون عن سعيهم ل"السّطو" على كل التحركات المشتركة. هم يسعون لذلك حين يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" أو يرفعون المصاحف وسط التظاهرات المشتركة إلخ...

لا يهمّهم أن تسقط تلك المصاحف وسط الزحام والصّراع فتُداس بالأرجل كما لا يهمهم أن يَتساءل المظلومون والمقهورون، في ساعات العذاب والمعاناة، عن معاني وجود الذات الراحمة والجبارة مطلةً على ما يحدث لهم من قهر وآذنةً بما يُسلَّط عليهم من عدوان رغم كل ما يقدمونه من طقوس الطاعة لها والاستجداء بها.

ولن يهمّهم بالطبع أن يشعر رفاقهم في التحرك المشترك بالخيبة وبوجودهم خارج الملعب الذي لم يعد يَقبل غير كُرةِ "الله أكبر" التي يقذفها الفريق المعارض وكُرة "الله أكبر" التي يُرجعها الفريق الحاكم المتسلّط، بل لعلّهم لا يرفعون تلك الشعارات والمصاحف إلا لهذه الغاية.

    لا يهمّهم أيضا أن يتساءل المواطن، آنذاك.. في لحظات الجد والمعانات.. حين يصعب البحث للفهم ويغيب الوقت والهدوء اللازمين للإستيضاح: أي إسلام هو الحل؟ إسلام السُّنّة أم إسلام الشّيعة؟ أيّ مذهب من عشرات مذاهب الشيعة أو سُنة أسلافنا سيأتي حقا بالحل؟ أي إسلام هو الحل ونحن نرى ولا نصدّق أن حسن الترابي زعيم الأصوليين في السودان منذ عهد النميري يُتّهم اليوم بالكُفر ويُطالبون بمحاكمته؟ لا يكفّرونه لأنه ساهم في إعدام الشيخ محمود طه ولا لأسباب أخرى تتعلق بما حدث من صراعات طائفية أو بما حدث من تهجير وتعريب وأسلمة قسريَيْن لقبائل وأقلّيات السودان... ولكن بسبب ما صرّح به الرجل أخيرا ومتأخّرا من آراء حول براءة النص القرآني من عدد من أحكام شريعة السّلف التي تنال من حرّية المرأة وتُلغي العديد من حقوقها!...

من الأصلح، قبل بدء الشراكة مع الإسلاميين، أن نتّفق حول نوعيّة الإسلام الحل؟

كيف يردّدون "الإسلام هو الحل" حين يوجد في الواقع إسلامات متعدّدة لا زلنا نلاحظ  ما يحمله الخلاف بين حامليها من حِقد وكراهية وما يصنعه من صراعات وما يُسيله من دماء؟

 

أيّ إسلام هو الحل: إسلام الطقوس! الذي يقول صراحة بأن الزنا والسرقة لا يمنعان صفة الإسلام عن الذي يقوم بالطقوس الدينية الخمسة، أم "الإسلام" على طريقة سبينوزا الذي يقول أن التقوى هي فعل الخير مع الجار، أم إسلامُ الإعلان الذي يَعتبر كلَّ من أعلن إسلامَه مسلما كاملا بدون نواقص، أم إسلامُ الهويّه الذي يُطلق صفة مسلم على كل من ينحدر من عائلة أو قوم يُنعتون بالإسلام..؟

كل هذا الغموض يلزمه التوضيح قبل الدخول في شراكة مع السّلفيين. إماّ أن نترك الناس أحرارا فلا نكون أوصياء عليهم ولا على إيمانهم: فلا نطلب منهم إعلان أي تمذهب ديني ونتركهم أحرارا يُعلنون ما يشاءون متى يشاءون، ويبقى لنا الحق فقط في البحث عن دواعي وغايات إعلانهم والحق في كشف ومواجهة ما قد يتضح ضررُه من بينها، وإمّا أن نُنصّب أنفسنا أوصياء وقُضاة لكي نحكم بصفة الإسلام لِزيْد وبصفة الكفر لعمْر. إن المسألة جدُُّ خَطيرة، فهي تتعلّق بحريّة الإنسان من جهة وبجريمة التكفير من الجهة المقابلة. ولست أرى كثيرا من الإسلاميين يحترمون حرية الإعتقاد والإيمان ولا يلجأون إلى سلاح التكفير أو لا يُنصّبون أنفسهم قُضاة وحكّاما ومشرّعين لقواعد إسلام الناس و"ضوابط" إيمانهم، فحتى السيد محمد الطالبي الذي تحصّل على شهادة "ديموقراطي ومُنتِج لإسلام عصري" من لدن عدد من المفكرين والسياسيين المنادين بالحداثة والديمقراطية، لا يَعتبر الإعلانَ كافيا لكسب صفة الإسلام ويُنصّب نفسَه مشرّعا لقواعد وضوابط إسلام الناس، فهو الذي يرفض إسلام الهويّة في حديثه الساّخر ضمن كتابه "أمّة الإسلام" حيث جاء بالصفحة 70 : "يجب إذن أن نؤكّد على هذا الواقع بمزيد من الإلحاح بقدر ما يحاول بعضُهم إقناعنا همسا ودسّا أو علانية أن الإسلام إنما هو انتماء ثقافي بلا طقوس ولا واجبات".

يجب الاتفاق أولا وقبل الشراكة مع  محمد الطالبي وغيره من الإسلاميين حول معنى "الهمس والدسّ" الذين في واقع الأمر لا يصلحان سوى لوصف المُعتدِي الذي يُريد التّحكم في معتقدات الناس وأشكال إيمانهم. يجب الاتّفاق على اعتبار مثل هذه الأشكال للتدخل في معتقدات الناس أنماطا مختلفة من التكفير والعدوان، ويجب الاتّفاق أيضا على أن الإعلان كافٍ وحده لكي نعتبر المُعلِن مسلما وأنه لا دخل لأي كان في إسلامه أوفي آراءه أوفي ما يقوم به أو ما يتركه من طقوس. كما يجب الاتّفاق بأنّ كل مُساءلة لأي مواطن عن دينه إنما تُمثّل في واقع الأمر نمطا من السلوك غايتُه تكفير الغير وإرهابِه ضمن الإطار الفكري السائد في دُولنا الإسلامية الرافضة لقيم الحداثة والحياد الديني.

لقد آن الأوان لكي يلتحق المسلم مثل غيره من المواطنين بركب حضارة الأنوار فيقدّم للآخر المحبّة والحِكمة وأن يضع الآية "محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم" في سلّة الآيات الخاصّة مثل غيرها من الآيات التي اعتُبرت خاصّة منذ قرون عديدة، إذا كان يريد العدالة والمساواة في هذا العالم.

كيف سيَقبل العالََم تظلّم المسلمين من العدوان الصهيوني أو الأمريكي إذا كانوا يريدون قتلَ الآخر واستعبادَ نسائه وأطفاله وافتكاكَ أرزاقه عندما يرفض دفعَ الجزية أو القبولَ بسلطانهم عليه عملا بتأويلات القرون الوسطى للنص القرآني؟

    ليس بن لادن وحده الذي يقدّم هذا الفهم، بل حتى محمد الطالبي، الذي يقدم لنا في كتابه سابق الذكر شَطَحات ابن العربي في تأويله لصريح النص "لا إكراه في الدين"، تلك الشطحات التي تعتبر الآية خاصّةً ومنسوخة، والذي يُقدّم حُجَجَ ابن العربي في دعوته لإكراه الناس لإدخالهم إلى الإسلام ويؤيدها بتساؤله واضح المقاصد: "هل كانت تخرج الأندلس من دائرة الإسلام لو واجَه المسلمُون المِثلَ بالمِثل، وأخذوا بآراء ابن العربي؟" (ص60-61 ).

لقد غاب عن محمد الطالبي أن المزيد من الإكراه في الأندلس أو أي عوامل أخرى لم تكن تُبقيها في دائرة الإسلام بقدر ما كانت ستُبقيها في دائرة سلطان الخليفة الموحّدي أبو يوسف ودائرة لاهوتِه ومذهبه الديني الذي يمثّله ابن العربي؛ أمّا لو أخذوا بآراء بن رشد لكانت الأندلس إلى يومنا في طليعة حضارة إسلامية حقيقية أو لعلّها كانت سَبَقت باقي البلاد الأوروبية إلى الحداثة وإلى حضارة الأنوار.

  

كيف يردّدون "الإسلام هو الحل" في حين أن الإسلام مِن ضِمن تراثنا ومِن ضِمن واقِعنا المتخلف والمتأزم، هو ذاتُه بحاجة إلى "حل"؟

كيف يستبدلون السبب بالنتيجة؟

كيف يطلبون من الإسلام أن يوفّر الحلّ لما هم عليه من التخلّف الفكري والسّياسي والتّقني؟ كيف يُلزمونه بحل مشاكلهم كيف يُجبرونه أو يطلبون منه ذلك في حين أنه لن يوجد حلٌّ للإسلام ذاته ولن يوجد له احترامٌ ولن يوجد إسلام أو جوهر إسلامي متفق عليه إلاّ وسط قومٍ ينعمون بأنوار العقل والحداثة والحضارة والتقدّم، وبعد دخول شعوبنا إلى عالم الحداثة والعقلانية والعلم وإلى مجال الديموقراطية وحياد الدولة وحرية الفكر والمعتقد؟

لماذا لا نقارن بين ما تأتيه الشعوب المتقدّمة من احترام للتراث وما تُقيمه من مجهود للحفاظ على كل آثاره ومآثره ممّا جعل الدكتور حسين فنطر يقول في إحدى الفضائيات أنه من حُسن حظنا أن العديد من الوثائق من تراثنا حُفظت في دول أوروبية فلم يَنلها الإتلاف الذي كان ولا يزال يهدّد ما يوجد في بلداننا من مثيلاتها، لماذا لا نقارن بين ما يحصل في البلدان المتقدمة من محافظة على الوثائق التراثية ومن إحاطة علميّة بها وبين ما يحصل لها عندنا من توظيف فجّ وتشويه متواصل؟ حتى أيامنا هذه لم نرَ تماثيلا تُحطَّم أو كُتبا تُحرق أو مفكّرين يُقتلون ويُطارَدون أمام تصفيق وهتافات العامة الهائجة وبأمر من أي دولة من  دول الحداثة والعقلانية رغم كل ما يوجد فيها من اعتقادات دينية و فلسفية؛ أما في أفغانستان وإيران والسودان... فالأمر مختلف، وحتى الهولوكوست يُنكرون حدوثَه إبراءً للنازية من جرائمها!...وليتنا نرى حوارا تلفزيّا صريحا بين من يتّهمون النازية بتلك المذابح ومن يبرّئونها منها حتى يتّضح الأمر.

هل نستطيع إيجاد حلّ لواقعنا بدون إيجاد الحل في المجال الفكري والثقافي وبدون الفهم العصري والعقلاني لتراثنا وثقافتنا وبدون إيجاد حل لهذا الإسلام الذي صار أداة يُوظّفها السّياسيون الصغار عندنا لكسب السّبق قي السياسة والنفوذ ويوظّفها السّياسيون الأكبر لنشر الطّائفية بيننا وللقضاء على ما كسبْناه من عقلانية وطموح حداثي وحضاري إثر حركة النهضة العربية وحركات التحرر من الاستعمار المباشر؟

أيّ حل ينبغي أن يكون للإسلام؟ من هنا يكون البدء في الشراكة أو الحوار مع الإسلاميين.

 

ـ يوظَّف الإسلام ويُستعمل أو ينبغي أن يُحترم فيُفهم بعقلانية ويُترك له حقّه في الحياد بين الجميع؟

ـ أن يُحترم التّراث ويُترك له الحياد يعني أن يكون مِلكا لكل الناس بلا استثناء، فهو ملك للمسلمين كما هو ملك للمسيحيين وكل البشر. كل الناس لهم الحق في تناوله بالبحث والتّحليل والاستنتاج. ليس الإسلام ملكا خاصا لابن قيم الجوزية حتى يدفَعنا للقبول بغمْس الذباب الذي يسقط في الغذاء ولا هو مِلك لأسامة بن لادن حتى يستنهض به أناسا مسالمين وخيّرين في حربٍ على أناس لا يقلّون مُسالَمة ولا عطاء للخير يُوجدون في إسبانيا أو إنكلترة أو الأردن. إنه لمن المضْحك المبْكي أن نرى تفجيرات السّلفيين التوظيفيين تَلتهم أحدَ رموزهم التي لها دور في انتشار السّلفية السيد مصطفى العقاد منتج فيلم "الرسالة" ولا نراهم يتّعظون.

ـ رجال الدين الذين تعوّدوا على ترديد أقوال السّلف وعلى اتقان الخطابة في المساجد وعلى توظيف الدين واستعماله هم آخر من يقدر على فهم نصوصه. إنّ الفهم يتناقض مع التّوظيف كما يتناقض مع التقليد. وكذالك يتطلب الفهم حرّية البحث وصدق الباحث ووجود الحوار مع كل اتجاهات الفكر البشري بعيدا عن الإرهاب الفكري والعداء للمنطق. لأجل هذا فإن وجودَ حلّ للإسلام كما وجودُ الحل بالإسلام أو بالحرية أو الليبرالية أو غير ذالك يتطلّب انبعاثَ الفكر الحرّ ونهضَة العقل منذ الآن كما يتطّلب في المستقبل وجودَ الحرية والديموقراطية وحياد الدولة لكي يتخلّص عامّة الناس من كابوس السّلطان الموروث والتخلّف المتجدّد...

وهذا لن يحصل الآن ومستقبلا إلاّ بنهاية التمييز القائم بقوة الحكم لرجال السلطة كما لرجال الدين. فرجلُ الدين كما رجلُ السلطة يجب أن يعود مواطنا مثل كل المواطنين يُجادَل في كل أقواله ويُحاسَب على كلّ صغيرة أو كبيرة يغالِط بها المواطنين أو يُحدِث بها الضّرر لأي منهم. فليس من معنى لأي شراكة مع من يسمح لنفسه بالكلام وحده في المسجد والتلفاز والجريدة ويسمح لنفسه بإرسال الفتاوى وبالتحكم في معتقدات الناس وأشكالها.

ـ العلمانية التي تحقق حياد الدولة وتحمي حرّية المواطن في اختيار معتقداته وفي اختيار أشكال ممارسته لها وتفاعُله معها هي ركن من أركان الحل لما نعيشه من تخلف فكري وحضاري ولِما يتحمله كل تراثنا من ِوزر التوظيف وسوء الفهم. إنّ الدولة التي ترفض العلمانية والحياد لا تستطيع توفير الحرّيات السياسية والعامة لأن حرّية التفكير وحرية المعتقد هي أساس كل الحريات وأوّلها. وقد كانت حرية التفكير هي البداية الدّافعة عند كل النُّخب التي ابتدأت النضال من أجل الحرّيات (حركات النهضة في أوروبا..)، كما كانت هي الناقصةَ التي فتح

إن الشراكة التي تفتقد الكيان الجدي والسليم لقيم حرية التفكير والمعتقد ككيان أساسي أو تُخفي فقدانَها له بأي شكل من أشكال الخلط والألخيميا الخَطابية أو السياسية لا يُمكنها القبول بحياد الدولة ولا تُؤسّس لغير الاستبداد بل هي تؤسّس بالقلب أو بالسّاعد وبالعمد أو بالعماء إلى الردّة الفكرية والثقافية والحضارية.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط