هشام محمد / Oct 10, 2004

لا يظهر العقل المسلم ـ مهما كانت درجة إيمانه وثقافته الدينية ـ أي مرونة تذكر عند طرح خيار فصل الدين عن الدولة. بل أنه يعتبر مثل هذا الإجراء ابتساراً للدين وتكسيحاً لقدراته المتجددة القابلة للتكيف مع تحولات الزمان وتبدلات المكان. بل أنه لا يتورع عن تصنيف تلك الدعاوى ضمن سياق المؤامرات اليهودية، المسيحية، الماسونية،.. إلى آخر القائمة من التهم الجاهزة. كل ذلك بغرض تقزيم الإسلام، وقصقصة أجنحته، وتدجينه ليغدو كائنا أليفا لا يبرح عتبات المساجد. وربما كانت تلك القناعة الراسخة والمستقرة في لاوعي المسلم سبباً مباشراً في رفض كل الطروحات الفكرية للفصل بين الدالين: الدين والدنيا خلال أكثر من مائة عام مضت.

إن الإيمان بشمولية الإسلام، وهو ما تجتهد جماعات الإسلام السياسي في تسويقه وتكريسه عبر أدبياتها ضمن إطار مساعيها للاستئثار بكراسي الحكم، يستلهم مشروعيته ونماذجه من التجربة التاريخية المتراكمة، وتحديداً من سلوكيات النبي محمد. لقد وعى "النبي" جيداً أن الحنفية ـ يعتبر الإسلام امتداداً طبيعياُ لها ـ بتوجهاتها التوحيدية وممارساتها الروحانية كالصيام والتفكر في خلق السموات والأرض، وتجنب الخمر والزنا بقيت لردح من الزمن ديناً أقلوياً تتعاطاه في الغالب الشرائح المثقفة في مجتمع رجراج تتزاحم فيه بسلام الوثنية والمسيحية واليهودية وغيرها من الديانات. كان جل ما ينقص الحنفية ـ الإسلام فيما بعد ـ توافر قيادة على درجة عالية من التنظيم والكفاءة والشجاعة والذكاء لنقل الديانة الجديدة من مستوى النخبة إلى مستوى العامة، ومن أفق النظرية إلى أرض التطبيق.

لا تفصح الفترة المكية بعد البعثة كثيراً عن المكنون السياسي داخل المشروع الديني الجديد، وهذا أمر متوقع في ظل تواضع ومحدودية إمكانيات الجماعة الفتية والتي مازالت تعيش إرهاصاتها الأولى. إلا أن هذا لا يمنع أبداً من الإشادة بقدرات محمد الهائلة على امتصاص استفزازات قريش، والعمل بهدوء بالغ على استقطاب العناصر المؤمنة برسالة الدين الجديد داخل المحيط المكي أو من خلال الاتصال بالقبائل أو القرى المجاورة. لكن بعد أن أصبح الإسلام الصاعد يشكل خطراً سافراً يتهدد اقتصاد قريش بالكساد والبوار، كان من الحكمة أن يسارع "النبي" إلى مغادرة مكة حيث أصبح التخلص منه ضرورة لاحتفاظ قريش بامتيازاتها الاقتصادية، وهي التي تعتمد تاريخياً على موقعها المميز كمزار ديني مفتوح يستوعب بأريحية كل الوثنيات.

كان وقوع اختيار "النبي" على المدينة دون سواها من المدن ذا مغزى استراتيجي عميق قد لا يفطن إليه شخص تنقصه القراءة الواعية للملابسات السياسية والاقتصادية السائدة آنذاك. فالمدينة جغرافياً تقع على خط المواصلات بين شمال الجزيرة العربية وجنوبها، مما يعني أنها ـ أي المدينة ـ ستهدد مستقبلاً انسياب حركة التجارة عبر خط إيلاف الذي يشكل شريان الحياة بالنسبة لمكة. علاوة على ذلك، فالنبي قد استفاد وبذكاء من رائحة الكراهية التي تملأ فضاء العلاقات بين المدينة ومكة والمملؤة بالتشاحن الاجتماعي والعرقي والاقتصادي بين المكيين والمدنيين مما سهل عليه نقل دعوته إليها. وهناك عامل سيسولوجي آخر أشار إليه الدكتور شاكر النابلسي، وملخصه أن الإسلام لم يلقَ استجابة كافية داخل المجتمع المكي لغلبة الاهتمامات التجارية على جوانب الحياة، وهشاشة الحس الديني لدى قريش. أما المدينة فكانت مجتمعاً زراعياً يسهل عليه الانقياد إلى ميتافزيقية الدين السماوي، وهو أقرب إلى التقشف والزهد من المجتمع المكي الغارق في ملذاته الحسية، والمؤمن بمنطق الربح والخسارة. من ناحية أخرى، فقد كان ترحيب قبيلتي الأوس والخزرج ـ المتنافستين أصلاً ـ باحتضان الدعوة الجديدة فرصة نادرة للاستفادة من الشخصية القيادية البارزة للنبي من أجل تدعيم مكانتهما تجاه الجماعات اليهودية الممسكة بزمام النشاط الاقتصادي داخل المدينة. في المقابل، رحب اليهود بمقدم النبي من خلال مشاركة عدد من التجار اليهود في التوقيع على بيعتي العقبة الأولى والثانية وذلك قبيل مجيء النبي إلى المدينة. وبالطبع فهؤلاء الموقعين لم يكونوا معنيين بالدين وهمومه بقدر سعيهم للاستفادة من خبرات النبي التجارية المكتسبة منذ شبابه والعمل معاً من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية للمدينة المتخلفة نسبياً بالمقارنة بمكة.

كانت بيعة العقبة اللبنة الأولى في بناء دولة المدينة المقبلة. وبعد الاستقرار بالمدينة، سارع النبي بوضع الدستور "الصحيفة" والمكون من سبع وأربعين مادة بغرض تنظيم الشؤون السياسية والاقتصادية والدينية، وتقنين العلاقات الداخلية بين أثنيات مجتمع المدينة المتنوع بأهوائه الدينية ومشاربه القبلية، وكذلك العلاقات الخارجية ما بين المدينة وجيرانها. وخلال العشر سنوات التي عاشها في المدينة قبيل انتقاله للرفيق الأعلى، كان النبي يتربع فوق قمة الهرم التنظيمي كحاكم أعلى للمدينة، ومن حوله "هيئة العشرة" المكونة من العشرة المبشرين بالجنة من المهاجرين الأوائل فقط ، وكذلك "هيئة الإثني عشر" من نقباء الأنصار بهدف تقديم المشورة له. كما ساهم النبي في خلق عدد من التنظيمات الإدارية والسياسية، حيث أنيط بها العديد من المهام الوظيفية كإدارات عمال الجباية وإخراج الزكاة، الخارصين للثمار، العسس، الحرس النبوي، السفراء، التراجمة، أمراء القتال، المستخلفون على المدينة، وغيرها من الإدارات المختصة.
وهكذا فإن مجتمع المدينة كان على درجة فائقة من التنظيم والتعقيد مما يشي بأن النبي لم يكتف بممارسة مهامه السماوية الجسيمة كحامل لشعلة الدين الجديد. بل أنه وبنفس البراعة كان ممسكاً بكل خيوط السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكأنه بذلك يعيد إنتاج النمط الأسطوري لنماذج الأنبياء الملوك من بني إسرائيل كداود وسليمان.

إن ما حفظته لنا المؤلفات التاريخية التي رصدت سيرة النبي محمد بكامل تفاصيلها الصغيرة تكشف وبلا مواربة أن النبي قد جمع بين الدالين: الدين والدنيا. ولهذا فإن جماعات الإسلام السياسي لا يجانبها الصواب عندما تصر على الرفض وبشدة فصل الدين عن الدنيا بناءً على سيرة النبي التي لا يخامرهم أي شك في مثاليتها وإمكانية تطبيقها في الوقت الحاضر. وهو في وقت ما قد يفسر جزئياً فشل طروحات بعض المفكرين الليبراليين في إطار مساعيهم لدحض فكرة الدولة الدينية وإحلال القيم العلمانية. فعلى سبيل المثال، اجمع علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، خالد محمد خالد (من هنا نبدأ)، ومحمد سعيد العشماوي (الخلافة) على أن النبي جاء ليتمم مكارم الأخلاق ويبشر بالدين الإسلامي دون أن تشوب سيرته أي نوازع سلطوية أو طموحات سياسية. ربما كان السبب في تبني مثل هذا الرؤية عدم قراءة تاريخ النبي بما فيه الكفاية أو بقصد رفع النبي إلى مرتبة روحانية عالية لا تخالطها أدران السياسة وأوساخها.

المراجع:
شاكر النابلسي، الفكر العربي في القرن العشرين: الجزء الثالث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001.
________ ، المال والهلال: الموانع والدوافع الاقتصادية لظهور الإسلام، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002.
محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، سينما للنشر، 1987
.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط