ن. إيليا / Sep 01, 2006

اضطُررْتُ لمغادرة "حرّانَ" قبلَ الأوان، بعدَ أن حامَتْ من حوليَ الشبهاتُُ بين أهالي البلدةِ الآرامية القديمة     ذاتِ البيوت الطينية والقبابِ الاسطوانية التي لم أجدْ لها مثيلاً في مكان آخرَ إلاّ في بعض ِ القرى المتناثرة حول مدينةِ حلبَ السوريةِ. فلمّا عدتُ من جولتي اليومية، قالَ لي مضيفي بلهجةٍ تركيةٍ ثقيلة:

ـ الناسُ تقولُ: إنكَ تبحثُ عن الذهبِ المطمورِ أو عن كنز قديمٍ، ويقولونَ إنَّ لديكَ خرائطَ وهذا يعرِّضُكَ للخطرِ  لذلك أنصحُك بمغادرةِ البلدةِ قبلَ أنْ تتحوَّلَ الوشوشاتُ إلى صرخاتٍ.

 

لم أكُ  في الحقيقةِ أبحثُ عن الذهبِ الذي يُظَنُّ بأنَّ "قطعانَ" الأرمن والنصارى طمروه تحت الأرض قبلَ أنْ يقتادَهم الجزَّارون إلى المسالخ ِفي زمن "الفرمان" المشؤوم ابتداءً من سنةِ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وخمسَ عشرةَ للميلادِ. بلْ كنتُ أبحثُ عن آثارِ البئرِ التي التقى عند مائِها وكيلُ أملاكِ ابراهيمَ الخليل ب "رفقة َبنتِ بتوئيلَ" زوجةِ اسحقَ وأمِّ يعقوبَ، والتي سيلتقي عندَها أيضاً أبونا يعقوبُ بزوجته راحيلَ بنتِ لابانَ الآراميِّ بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من ذلك التاريخِ، وأحاولُ أنْ أعيدَ رسمَ الطريق ِ التي سلكَهَا يعقوبٌ مع نسائهِ وأولادِه وخدمِه وجواريه وقطعان مواشيهِ هرباً من وجهِ خالِه لابانَ الحرَّانيّ الحاسدِ الغضوبِ، وأعلمَ كيفَ اجتازَ نهرَ الفرات وأينَ يُحتملُ أنْ تكونَ نقطة ُ العبورِ؟ وكيفَ قطعَ المسافة الطويلة من حرّان إلى مرتفعاتِ جلعادَ على ضفةِ الأردنّ بسبعةِ أيامٍ قبلَ أنْ يلحقَ به خالُه هناك؟.

 

ولأنني تعلّمتُ من تجاربَ سابقةٍ ليَ في هذه المنطقةِ أنّ مواقفَ كهذهِ هي مواقفُ خطيرة ٌفعلاً، تستدعي أنْ تؤخذ على محمل الجِدِ لا المُزاحِ، (لايجوزُ فيها أنْ  يتهاونَ صاحبُها فيستبطئَ اتخاذ َالقرار السليمِ، وإلاّ تعرّضَ لمفاجآتٍ غيرِ محمودةٍ.) غادرتُ حرَّانَ في التوِّ بصمتٍ حزين إلى نصِّيبينَ ومنها عبرتُ إلى مدينةِ القامشلي السوريةِ التي على مرمى حجرٍ منها. وهي مدينة أضحتِ اليومَ واسعة َالعمران حديثة البنيانِ تبدو عليها آثارُ النعمةِ وأهلُها من السُّريان والأكرادِ وبعض العربِ من شمَّرَ وطئ ومن الأرمن واليهودِ. يعيشُ أغلبُهم على الزراعة ِ فإذا – همى الغيثُ – استبشرَتْ وجوهُهم، وإذا جفَّ ضرعُ السماء اكفهرَّتْ وجوهُهم. وعندَها آبارُ النفطِ التي هي منْ دعائم الإقتصادِ السوريِّ. يميلُ كثيرٌ من أهلِها إلى الرياضةِ والفنون كالمسرح والرسم والموسيقى والغناءِ والأدب وفيهم وداعة وكرمٌ. وقد سرّى عني وأذهبَ همّي لقائي بكوكبةٍ من مبدعيها. كانتِ الشاعرةُ المهجرية ُ(جاكلين حنا سلام) تقومُ بزيارةٍ لمسقطِ رأسِها.  ولها في الشعرِ خوافٍ ناعمة ٌرشيقة ٌوفي الأدبِ قوادمُ صلبة متينةٌ، كما سرّني فيها لقاءُ الفنان التشكيليّ جاك إيليا والمطربِ الكردي عدنان ابراهيم والشاعرِ المتأمّل ِادمون زكو.

 

ثمّ مالبثتُ أنْ غادرتُ القامشلي متجهاً نحوَ مدينةِ حلبَ لحضورِ مهرجان ِ – تنصيبها – عاصمة للثقافةِ الإسلاميةِ.  في الطريق  إليها داخلَ الباص المكيَّفِ تعثرتُ بقدم رجلٍ مهيبِ الطلعةِ بقذالٍ في لون رمادِ الأُثفيةِ وشاربٍ كثٍّ وخطَهُ الشيبُ، أنيق الرداء  بينَ يديهِ كتابٌ بحروفٍ سريانية، فأعتذرت منهُ، فرأيتهُ يبتسمُ لي بودٍ ويمسكُ بيدِي قائلا: - ألمْ تعرفني؟

فحددْتُ عليه البصرَ فما عرفتهُ، فقالَ وهو لايزالُ على حالِهِ من التبسُّم ِ الودودِ: - أنا عبدُ المسيح قرياقس أما عرفتني يا...؟

فصرختُ من الدهشةِ وحلاوةِ المفاجأة: - أهذا أنتَ حقاً؟

ـ نعم أنا هو بشحمهِ ولحمِهِ.. فانحنيتُ عليه أعانقهُ:

ـ لاأكادُ أصدّقُ عينيَّ، ثلاثونَ سنة ًمرّتْ أو تزيدُ لم أرَكَ فيها، لكمْ تغيرتَ حتى لمْ أتبيَّنكَ؟

ـ السجنُ الطويلُ يغيّر الجمادَ فما بالُكَ بالإنسان؟

ـ  صدقتَ.. فتسعٌ وعشرون سنة ًفي السجون السوريةِ ليستْ رقماً حسابياً عاديّاً، وأنتَ متهمٌ بالمشاركةِ مع الرئيس الأسبق "أمين الحافظ" وأعضاءِ فصيلِهِ من حزب البعثِ في التآمر على إسقاطِ  نظام الرئيس السابق "حافظ الأسدِ" بدعم ٍ من بعثِ "صدام" العراق.. -  رفاقكَ المناضلون - يتمتعونَ اليومَ بالمناصبِ السامية فمنهمُ الوزيرُ ومنهمُ المحافظُ ومنهمُ السفيرُ ومنهم المديرُ العامُ للشركات الكبرى، وأنتَ خلفَ القضبان الباردةِ يتلوَّى عمرُكَ تحتَ سوطِ العذابِ والقهرِ والضجرِ ومرارةِ الغدرِ ويتضوَّرُ فؤادُكَ منَ الجوع إلى الحياةِ والحريةِ.  فأينَ أنتَ اليومَ من كلِّ هذا وأينَ أنتَ اليومَ منْ ذاكَ الضجيج السياسيِّ الصاخبِ؟  

ـ دعْكَ من ذا!  فإنْ جئتَ تزورُني في بيتي رويت لك فصولاً من عمري الذي نزفَ بينَ الجدران الصمّاءِ  وقرأتُ عليكَ فصولاً أخرى من روايتي "زمنُ الأردياءِ". وقلْ لي الآن: ما أنتَ في هذه الأقاصي؟ فقلتُ:

ـ أضربُ في الآفاق، وأنتَ؟

ـ أنا ذاهبٌ إلى حلبَ في مهمتين أوَّلهُما السعيُ في لمِّ ما تشعَّثَ بينَ المطران ابراهيمَ مطران السريان اليعاقبة في أبرشية حلب وبين البطريرك "مار زكّا عيواص" رأس الكنيسةِ السريانيةِ العالمية. وثانيُهُما حضورُ الاحتفال بذكرى الملفان مار أفرام السرياني؟.

ـ وماذا تقولُ في اختيارِ حلبَ عاصمة ً للثقافةِ الإسلاميةِ؟

ضحكَ أستاذ التاريخ "والمناضلُ القديمُ" ضحكة خافتة لمْ تكشفْ عن أسنانِهِ ثمَّ قالَ وقدِ التمعَ في عينيهِ خلفَ الزجاج الشفَّافِ لنظارتهِ المائلةِ إلى الإحمرارِ  بارقٌ منَ الخبثِ المصطنع:

ـ لنْ تسمعَ ليَ رأياً.. فمنْ يدريْ فلعلّكَ جاسوسٌ منْ جواسيس البيتِ الأبيض.

جاريتهُ في الضحكِ، وكانَ معاونُ السائق يوزِّعُ على الركابِ الشايَ والقهوة والسكاكرَ فلمّا دنا منهُ ناولَهُ طِلبتَهُ باحترام ٍ شديدٍ.

ـ أعتقدُ أنهم أحسنوا الإختيارَ، فأينَ تجدُ مدينة مثلَ حلبَ الشهباءَ في العصبيةِ الدينيةِ والتزمّتِ الفكري والإفراطِ في إرضاءِ الحواس؟

تظاهرَ الأستاذ بأنهُ لم يسمعْني، رشفَ من قهوتِهِ وسألني:

ـ هلْ شاهدْتَ المقابلة التي أجرتهْا معي مؤخراً إحدى القنواتِ السريانيةِ في المهجرِ؟

ـ لا..

ـ لابأسَ فلديّ في الحقيبةِ بضعة أقراص منها، سأهديكَ واحداً حين نصلُ.

كانَ الشابُ القويُّ الوسيمُ الجالس خلفَ مقعدِهِ لايكفُّ عن النظرِ إليَّ نظراتٍ جَهْمَة. ثمَّ علمتُ أنَّهُ من – مرافقتِهِ – فاطمأنَّ لبِّي .

ـ هلْ أطمعُ في معرفةِ شئ ٍ ممادارَ بينكَ وبينَ مُعدِّ البرنامج؟

ـ بكلِّ سرورٍ - وإنْ كنتُ لاأزالُ في شكٍّ من أمرِكَ – قالها مداعباً، ثمّ اعتدلَ في مقعدِهِ وشرعَ يروي لي بطلاقتهِ المعهودةِ وقوةِ عارضتهِ وروحِهِ المفطورةِ على التنظيم والقيادةِ فقال:

ـ كشفتْ لنا أحداثُ القامشلي التي وقعت بتوجيهٍ من الأحزابِ الكرديةِ فعاثتْ في البلدِ تخريباً وتدميراً وتمزيقاً أنَّ محافظتَنا تقفُ على (قدم ٍ عرجاءَ) ففي الوقتِ الذي تجدُنا فيهِ نحنُ السريانَ والعربَ مفكَّكينَ متفرقينَ غافلينَ سادرينَ في اللهو السياسيِّ العقيم، تجدُ الأكرادَ منظَّمينَ متماسكينَ يزحفونَ على مرافق الحياةِ في محافظةِ الجزيرةِ كما زحفَ اليهودُ عليها في  فلسطينَ، وتجدُ أحزابَهم تطلقُ شعاراتِ معادية ً لكلّ – الإثنياتِ – الموجودةِ في المنطقةِ، وتهدِّدُ وتتوعدُ بالانتقام وبفصل الجزيرةِ عن الوطن الأم.  وتنادي باقامةِ كيان ٍ كردي مستقلّ ٍ يتبعُ كردستانَ الكبرى.. نحنُ يا أخي لسنا نعادي الأكرادَ نريدُ أن نعيشَ معاً عيشاً مشتركاً، فهم في النهايةِ خيط ٌ من نسيج أمتنا السوريةِ.. نعم لقدْ وقعت أخطاءٌ كثيرة ٌ عانى منها الأكرادُ، ولكنَّ معاناتِهم لا تسوّغ لهم حقَّ اقترافِ الجرائم الفعليةِ والسياسيةِ. وانطلاقاً من مبدأ التوازن في الحقوق والواجباتِ الوطنيةِ بينَ جميع الأطيافِ، رحتُ أبشّرُ في المحافظة بتنظيم الصفوفِ وإقامةِ التحالفِ بين السريان والعربِ لمواجهةِ مدِّ التطرفِ السياسيِّ الكردي، فجمعتُ رؤساءَ العشائرِ من طئ والجبورِ وشمَّرَ والبقارةِ والفعاليات الإسلامية والمسيحية في حلفٍ يرفضُ الأحزابَ (المغلقة) ويدعو إلى التعاون والإنسجام والتآخي والعمل المشتركِ، وعقدْنا مؤتمرَ الحوارِ الوطنيِّ في قريةِ (جرمز) من أعمال القامشلي بتاريخ الرابع من الشهرِ السادس لسنةِ خمس ٍ وألفين.

ـ وهلْ تتوقعُ النجاحَ  لهذا المؤتمرِ ولِمَا تمخّضَ عنهُ منَ التوصياتِ؟

ـ نعم، إذا أرادَ الأكرادُ أنْ يتخلَّوا عن نزعتِهم الانفصاليةِ.. بالمناسبةِ أذكرُ لكَ أننا أسَّسنا موقعاً على الإنترنيت وهو قيدُ التطوير.

فسألته: - هلْ تزورُ موقعَ الناقدِ ؟ فأجاب:

ـ نعمْ ! وإنْ كنتُ أخالفُ صاحبَهُ السيدَ "بسام الدرويش" في معالجتهِ للقضايا الصعبةِ الناجمةِ عن التطرُّفِ الدينيِّ.

ـ ماذا تعني بقولِكَ – أخالفُ – هلْ تراهُ يفتري على الإسلام وأتباعهِ؟.

ـ لاأدري فهو قويُّ الحجَّةِ.. ولكنَّ المسلمين يرونَ هذا الجانبَ منهُ بلا ريبٍ، إنَّ طريقته في طرح أفكارِهِ تذكِّرُني بطريقةِ الأمريكيين في فرض ديمقراطيتهم على الشعوبِ الأخرى. وماذا تقولُ أنتَ عنهُ ؟

فقلتُ:

ـ أعتقدُ أنَّ العالمَ الإسلاميَّ يحتاجُ إلى مَنْ يصفعَه لكي يصحوَ منْ إغماءةِ الإسلام.

 

توقّفَ بنا الباصُ في هذه اللحظةِ عندَ استراحةٍ واسعةٍ تدعى "حمّامَ الشيخ عيسى" فنزلْنا لكي نمتحَ لعروقنِا المتصلّبةِ دفقاً من الدم الجديدِ.

السهولُ الخضراءُ المترامية على مدِّ البصرِ تبثُّ نجواها لضوء الشمس الذهبيّ وتخطرُ سنابلُها معَ هبّاتِِ أنسام الربيع وهيَ سكرى من نشوةِ الوجودِ..

 كانتْ لوحة ًأخّاذة، خلبَتْ بصري فظلَّ عالقاً بها حتى بلغنا حلبَ ذاتَ البياض. 

============= 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط