بسام درويش / Sep 29, 2001

عرضت محطة CNN الأمريكية فلماً وثائقياً عن أفغانستان قامت بتصويره الصحفية البريطانية المولد ومن أصل أفغاني سارة شـاه. دخلت الصحفية أفغانستان عن طريق أحد المعابر على الحدود الباكستانية مع ثلاثة أشخاص مساعدين. وبعد أن صادرت السلطات الأفغانية كاميرا الفيديو التي التقطت بواسطتها بعض المشاهد، تابعت رحلتها لتعود إلى العالم المتمدّن بفلم صوّرته بواسطة كاميرا أخرى سرية صغيرة. أقل ما يوصف به هذا الفلم هو أنه يثير في القلب الأسى والغضب. الأسى للعذاب الذي يعانيه الإنسان الأفغاني تحت حكم طالبان المتخلّف. أما الغضب، فهو لوقوف العالم الحر المتمدّن شبه صامت أمام انتهاكات هذا الحكم الوحشي البربري لحقوق الإنسان.

من بين أفظع المشاهد التي عرضها الفلم كان مشهداً لسيارة "بيك آب" صغيرة تحمل على متنها ثلاث نسـاء نقلتهنّ إلى فناء ملعب رياضي مكتظ بالناس الذين جاءوا للتفرّج على مباراة رياضية. هناك، أُنزلت النساء إلى أرض الملعب ليطلب أحد الحراس المرافقين من واحدة منهن أن تركع على قدميها. بعد ذلك يسدد الحارس بندقيته إلى رأس المرأة ويطلق عليه النار لينفجر الدم منه أمام أعين مئات المشاهدين. مشاهد أخرى من الفلم تقشعر لها الأبدان أظهرت منصاتٍ للمشانق نصبت على أرض الملعب وقد تدلت من واحدة منها جثة رجلٍ كان الناس يسيرون إلى القرب منها وكأنها جثةٌ لطريدةِ صيدٍ معلقة على الحبال.            

**********

خلال لقاءٍ للصحفية مع وزير خارجية النظام، (وكيل متوكل) تسأله بعد معاينتها لما يجري على أرض الملعب الرياضي من جرائم قتل، فتقول: "لقد بُني هذا الملعب كهدية للشعب الأفغاني بتبرعات من المجتمع الدولي، فبأي حق تحولونه إلى مسرح للإعدام؟" وكان جواب الوزير ساخراً وبشعاً يثير القرف؛ كان جواباً إن دلّ على شيء فإنه لا يدلّ إلا على عقلية همجية وطبيعة مجرمة مستهترة؛ قال: "لقد دمّرت الحرب كل شيء. ليس لدينا إلا هذا المكان ننفذ فيه أحكام الإعدام. إن الملعب هو مكان لتسلية للناس. إنه مكان للفرح. وتنفيذ حكم الله في هؤلاء الناس هو مدعاة للفرح. إنني أقترح على المجتمع الدولي أن يساعدنا فيبني لنا مكاناً ننفذ فيه الأحكام وآنذاك يمكن أن نخصص هذا الملعب لمباريات كرة القدم!"

********** 

من بين المشاهد الأخرى التي تضمنها الفلم مشهد لأحد المشافي المخصصة للنساء. تحدثت سارة عن الإهمال الذي يعاني منه المشفى وعن عدم وجدود طبيبات للعناية بالمرضى حيث يمنع نظام الحكم الأطباء الرجال من معالجة النساء. مشاهد مؤلمة أخرى كثيرة عرضها الفلم كأرصفة الشوارع الممتلئة بالنساء الذين فقدوا أزواجهن فاضطروا للتسوّل أو للعمل كمومسات وذلك لأن حكم طالبان منعهم من العمل. أو مشاهد الجثث المطمورة برمال الصحراء وغيرها الكثير مما يفجّر مكامن الألم حتى في قلوب الذين لا يعرفون الشفقة. مشهد آخر لثلاث بنات بين عمر التاسعة والخامس عشرة أجرت معهن الصحفية حديثاً ذكروا لها فيه كيف جاء رجال طالبان إلى بيتهم فأسروا أباهم ثم طلبوا من الأم أن تخرج معهم من البيت لأنهم بحاجة لاستعماله كقاعدة لهم. وحين رفضت الأم مغادرة بيتها قتلوها أمام أعينهن وتركوا الجثة في صحن الدار ثم قضوا ليلتين في المنزل والبنات بداخله لا أب ولا أم يحميهما من هؤلاء الوحوش. وحين سألت الصحفية سارة البنات عما فعل معهن رجال طالبان خلال الليليتين اللتين قضوهما في البيت، كان جواب البنات الصمت والدموع!

************

الحقيقة  إنّ الحكم في أفغانستان لا يًمكن أن يُلام على شيء لأن المسؤولين عنه ليسوا في الحقيقة إلا شرذمة من الجهلة الذين قُدّر لهم أن يتحكّموا في رقاب الناس. إنهم شرذمة من المتعصبين الذين لا يعرفون من تعاليم دينهم إلا أنهم متفوقون على النساء وبالتالي فإن أرواحهنّ بيدهم يفعلون بهنّ ما يشاؤون. إيمانهم الذي يدّعون أنهم يحكمون به ليس إلا كفراً بالإنسان وخالق الإنسان. تعصّبهم الأعمى جنون، والمجنون لا يلام على شيء. إنه المجتمع الدولي بأسره الذي يُلام على تخاذله في إنقاذ هذا الشعب المعتّر من بين أيدي هؤلاء المجانين. الدول الإسلامية بالذات أيضاً تتحمّل العبء الأكبر في هذه المسؤولية، لأن سكوتها لا يمكن أن يُفَسـّر إلا بأنه تأييد لهذه العصابة الحاكمة. والتنديد بالكلمات لن يبعد عن هذا الشعب سيف الإرهاب المسلّط فوق رأسه.

إن مشهد تلك المرأة الضحية الراكعة في منتصف الملعب الرياضي، ودمها الذي انفجر من رأسها ليصبغ أرضه بحمرته، لهو لطخة عار على جبين العالم الحر. هذه اللطخة لن تزول إلا بالقبض على كل هؤلاء المجرمين وتقديمهم إلى العدالة. إن دم تلك المسكينة ودم كل الأمهات الأخريات، يصرخ مدوياً مستغيثاً بضمير العالم بأسره.

إنه لعارٌ على العالم أن تخاطر امرأة بحياتها فتعبر الحدود مسلحة بكاميرة تصوير لتنقل له مأساة شعب بكامله، بينما يقف هو، رغم ما يمتلكه من قوة، صامتاً، مكتفياً بإعلانات الإدانة والتنديد. عيب على هذا العالم إن لم يتحرك بأكمله ليريح الإنسانية من خطر يحيق بها إلى الأبد.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط