بسام درويش / Nov 01, 1978

نهلة صبيّةٌ بعمر الورد، بريئةٌ براءةَ الورد، وجميلةٌ جمالَ الورد.

 

أهلُ نهلةَ فرحون اليومَ بوحيدتهم فرحاً لا يوصَف. الصغيرة كبرت وأنهت دراستها الثانويّة بتفوُّقٍ، وهاهو اسمها يتصدَّر أسماء الناجحات في صحيفة الثورة، وإلى جانب الاسم مجموع علاماتها المشرِّف الذي يؤهلها للالتحاق بكليّة الآداب. دراسة الآداب كان حلماً يراود خيال نهلة منذ كانت في المدرسة الابتدائية.

 

زغردت أمّها وخالاتها وعمّاتها وزغردت لها جاراتها ورفيقاتها وكلُّ اللواتي عرفنها.  

"نهلة لا تستحقُّ إلاَّ الخير يا أم نهلة.."، قالت إحدى الجارات وهي تبارك للأمِّ الراقصة فرحاً بنجاح ابنتها. "وإنشاء الله بالشهادة الأكبر.. قريباً تفرحين الفرحة الحقيقية حين تتخرَّج من الجامعة وتصبح أستاذةً وأديبةً محترمة!"  ثم تبرهن الجارة عن صدق مشاعرها بزغرودة تهنئة اشتهرت نسـاء الشام بارتجالها وعفويّتها:

           

أوهــــا ونجحت نهلـة  أوهــا ونيـَّـال أهـلا

أوهـا ويا عروس يا حلوة   أوهـا شـو بيلـبـقلا

لي لي لي لي لي لي ليــش..

 

وتردِّدُ حنجرةُ جارةٍ أخرى صدى الزغرودة بزغرودة ثانية تدعو بها الجارات الأخريات للمجيء والمشاركة بالفرح؛ فلا غرابة في أن يفرح لنهلة كل المعارف والأصحاب، لأنَّها، والحق يقال، فتاةٌ قد وهبهـا الله فوق جمالهـا روحاً طيبةً وخلقاً دمثاً مما أفسح لها في كلِّ قلب من القلوب مكاناً. 

         

نهلة ابنةٌ طيّبةٌ تعرف كم ضحّى أهلها في سبيل تعليمها وتعرف أيضاً أنَّ تضحيتهم ستكون أعظم خلال متابعتها لدراستها الجامعية، ولذلك فقد ألحَّت على أهلها أن يسمحوا لها بالعمل والدراسة معاً عساها تخففُ عنهم ما استطاعت من تكاليف الحياة. لكن الوالد المحب يتردد كثيراً قبل أن يمنحها بركته، فهو بالرغم من دخله المتواضع كعاملٍ في أحد الأفران قد أبى من قبل أن يوافق على عمل زوجته في بيوت الناس مفضّلاً لها أن تتفرَّغ للعناية بنهلة وشؤون البيت. إنه يعرف بأنّ وردته غضّة العود قليلة الخبرة بشؤون الناس ويخشى عليها من ذئاب المجتمع الجائعة.

ويأتيه صوت نهلة ينتشله من تردده قائلة له بعباراتها الخلاّقة وأسلوبها المقنع: "لا تَخْشَ على وردتِـكَ يا أبي فشوكها يحميها!.."

*******

وجدت نهلة لنفسها عملاً كسكرتيرة في مكتبٍ في دائرة عسكرية ذات صفة خاصة جداً يشرف عليها قائدٌ رفيعٌ رفيعٌ جداً في الحكم رِفعةَ الحكمِِ نفسه!!! وظيفة كهذه لا يحصل عليها مواطن أو مواطنة عادي، سعى لها بها قريبٌ لصديقةٍ من صديقاتِ المدرسة.  لكن، لو عرفت نهلة أن جمالها وبراءة عينيها كانا وراء حصولها عليها لما كانت قد قبلت بها.

 

لم يُضِعْ القائدُ فرصة للتودد إليها والتقرُّبِ منها، ولم يكن تَمَنُّعُ نهلة أو عدم اكتراثها به ليوقـفه عند حدِّهِ، بل دفعه ذلك للتمادي، فأصبح يربت على كتفيها تارةً وعلى ظهرها تارةً أخرى، ثم بلغ في تماديه حداً أبعدَ إذ أخذ يداعب بأصابعه خصلات شعرها بحجة الثناء عليها والإعجاب بعملها.

 

أخذت نهلة تشعر بالقلق، وما لبث القلق أن تحوّل إلى خوف، فالقائدُ هذا، الذي لم يكن يقضي وقتاً طويلاً في مكتبه، ضاعف زياراته مؤخراً وأصبح يأتي ليطلب منها الحضور إلى غرفته بشكل مستمر ليملي عليها بعض المواضيع أو الرسائل الخاصة. وذات يوم امتدت أنامل هذا القائد إلى رقبتها تداعب أعلى صدرها، وسرعان ما تمثّل لها وجه أبيها أمام عينيها، فألقتْ بكلِّ ما بين يديها بغضب وهرعت هاربةً من ذلك الجوِّ المقيتِ يغسلُ عينيها وخدّيها فيضٌ من الدموع.

*******

في تلك الليلة بقي سرير نهلة كئيباً بارداً وخاوياً.

نهلة لم تعد إلى البيت!

*******

وخيَّمَ على "الحارة" جوٌّ من الكآبة. اختفت البسمات وانخفضت الأصوات وامتنع الجيران عن إدارة أجهزة الراديو إلاّ في مواعيد نشرة الأخبار لعلّهم يسمعون شيئاً عن مصير نهلة.

ولكنَّ نهلـة لم تعد إلى البيت !

*******

عشرة أيام مضت عادت بعدها نهلة إلى البيت!.. لا.. بل عاد بها أبوها إلى البيت.

لقد اسـتُدْعيَ الأب المسكين إلى المستشفى الوطني بعد اختفاء ابنته بعشرة أيام ليتعرّف على جثتها ثم ليستلمها بعد ذلك في صندوق خشبي مُحكم الإقفال. ولم يعترض حين طُلِبَ منه أن يوقّع على أمرٍ ينص على عدم السماحِ لأحدٍ بفتحه حتى لإلقاء نظرة وداعٍ أخيرة عليها؛ رضي الأب الحزين بذلك لأنه يريد لصورة وجهها الجميل البريء أن تبقى في ذاكرة كل من عرفها وأحبها وليس صورة وجهها المهشم المشوَّه.

 

قيل لأبيها أن جثتها وُجِدَت بين الأشجار في إحدى المزارع بعيداً عن المدينة، وأن السلطات لن تتوقف عن البحث عن المجرم ولا بد لها أن تجده.

*******

أهل نهلة، من الفقراء الذين ربما لا يعرفهم أحدٌ خارج حدود حارتهم العتيقة الصغيرة، لكن، ورغم ذلك، فقد خرج آلاف السكان بغضب صامت وراء نعشها يشيّعونها إلى مثواها الأخير. غَضَبُ الناسِ الصامت لم يكن دون مبرر، فالمجرم هو فوق العدالة وفوق القانون ونهلة لم تكن أولى ضحاياه. وفي بلد كهذا، يكتفي الناس بالغضب الصامت، لأنّ غضب النظام أرهب!

 

جريمة قتل نهلة لم تكن حدثاً يهزُّ الحاكم الأعلى أو يقلق مضجعه، ولكن، لأنه كان على بينةٍ بما يقوم به أفراد عصابته، وأيضاً لأنه كان يعرف المجرم الحقيقي، فقد كان لا بدَّ له من التحرّك بسرعة كي لا يتطور غضب الشعب إلى ثورة، وهو لا يجهل مقدار كراهية الناس له. وهكذا، تمتدّ يده إلى ما لديه من مساجين مغمورين فيلصق التهمة بأحدهم مدّعياً بأنه قام بجريمته بعد هروبه من السجن. وبعد محاكمة صورية سريعة يتم الإعلان عن تنفيذ الحكم بالمجرم قبل طلوع الفجر!

وبذلك، يثبت النظام أن عيونه لا تنام.. خصوصاً، عندما تتعرّض مصالحه للخطر!    

***********

******

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط