سيمون جرجي / Jun 05, 2007

المقالة التالية نُشِرت في الصفحتين 8 و9 من "المُلحق الثقافي" لجريدة "النهار" اللبنانيّة في عدده 795 المنشور يوم الأحد 3 حزيران 2007.  يليها الردّ.

 

كلام المسيح في المهد

العلم العيسوي

محمود الزيباوي

 

يؤكد القرآن الكريم أن عيسى بن مريم نطق وتكلّم وخاطب الناس وهو لما يزل في المهد. يأتي هذا التأكيد مرةً بشكل مقتضب في سورة آل عمران، ومرةً أخرى مسهباً في سورة مريم. في المقابل، نجد في النصوص التي سجّلها أهل الحديث والأخبار روايات عدة تنقل كلام عيسى جنيناً في أحشاء أمّه البتول، ثمّ رضيعاً يقارع الذين تعرّضوا لمريم من قومها واتهموها جوراً بارتكاب الفاحشة. يتواصل كلام عيسى الطفل في هذه النصوص عبر معجزات عدة تشهد لمعرفته بعلم الحروف منذ البدء، وهو في هذه الروايات "كلمة الله" الذي يعلّّم المعلّمين ويفسّر لهم ما عجزوا عن معرفته من أسرار الكلمة الإلهية.

يروي القرآن الكريم قصة ولادة النبي عيسى بإيجاز بالغ. وفقاً لما جاء في سورة آل عمران، طهّر الله مريم واصطفاها "على نساء العالمين" (42)، وحملت إليها الملائكة بشرى الله "بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين" (45). وفي سورة مريم، حملت البتول بعد مجيء الملاك إليها على صورة بشر حاملاً البشارة بكلمة منه يكون آية للناس، وتنحّت "مكانا قَصيّا" (22)، ولمّا  فاجأها المخاض، اعتمدت إلى جذع نخلة، وتمنّت الموت والنسيان، "فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" (24 - 26). اختلف المفسرون في التعريف بالمنادي الذي ناداها بـ"ألا تحزني"، فمنهم من قال إنه جبريل، ومنهم من قال إنه عيسى "الذي حملته في جوفها"، كما أشار الطبري في تفسيره: "فلـما قال ذلك عيسى لأمه اطمأنت نفسها، وسلّـمت لأمر الله، وحملته حتـى أتت به قومها". وفي حديث يُنسب الى وهب بن منبه: "أنساها كرب البلاء وخوف الناس ما كانت تسمع من الـملائكة من البشارة بعيسى، حتـى إذا كلّـمها، يعنـي عيسى، وجاءها مصداق ما كان الله وعدها، احتـملته ثم أقبلت به إلـى قومها".

صامت مريم عن الكلام، وعادت بوليدها إلى قومها، وحين رأوا معها الولد الذي ولدته، قالوا لها: "لقد جئت شيئا فرياً" (27). ينقل القرطبي عن الكلبي: "ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين، فقالوا منكرين: {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا}، أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه". وفي تفسير الجلالين: "عظيما، حيث أتيت بولد من غير أب". اكتفت الأم بالإشارة إلى طفلها، وينقل الطبري عن السدي: "لـما أشارت لهم إلـى عيسى غضبوا، وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلـم هذا الصبـيّ أشدّ علـينا من زناها"، وقالوا لها "كيف نكلّم من كان في المهد صبيا" (29)، والتفسير بحسب القرطبي: "من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟". لما سمع الطفل كلامهم، قال من مرقده: "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" (30-33). نقرأ في تفسير القرطبي: "كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و{قال إني عبدالله} فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه".

 

الكلام والتسبيح

تكلّم عيسى وطمأن أمه حين تمنّت الموت والنسيان، وتكلّم مرّة أخرى حين اتهمها أهلها ظلماً بارتكاب الفاحشة. وثمة أحاديث من الميراث الإسلامي تؤكد أنه كان يتكلّم حين كان جنينا في بطنها، ومنها أقوال تُنسب الى مجاهد نقلها ابن عساكر في عرضه لسيرة عيسى بن مريم في "تاريخ مدينة دمشق"، وفيها تقول مريم: "كنت إذا خلوت، حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان، سمعته يسبّح في بطني". وفي صيغة ثانية: "كان عيسى إذا كان عندي أحد يتحدّث معي سبّح في بطني، وإذا خلوت فلم يكن عندي أحد حدّثته وحدّثني وهو في بطني". بينما يبدو نطق المسيح فى المهد صريحا في نص القرآن، لا نجد ذكرا له في الأناجيل المعتمدة، إلا أن ذكر هذه المعجزة يأتي في مطلع ما يُعرف بـ"إنجيل الطفولة العربي"، وهو واحد من الأناجيل المنحولة التي لا تعترف بها الكنيسة، دُوّن على الأرجح في القرن السادس الميلادي، أصله سرياني، والشخصية الرئيسية فيه هي مريم. في الإصحاح الأول من هذا الإنجيل، ينطق يسوع وهو لما يزل طفلا في المزود، ويُعلن لأمه أنه يسوع ابن الله، وأنه الكلمة، وأنّ أباه أرسله لخلاص العالم. وقصارى القول إن هذا الكلام يختصر العقيدة المسيحية. في المقابل، ينطق عيسى ويعلن نبوته في  سورة مريم، بينما تنقل الملائكة في سورة آل عمران بشارة الله بكلمة منه "يكلّم الناس في المهد وكهلا من الصالحين"، وتفسيرها بحسب الطبري: "مكلّما الناس في المهد"، أي "مضجع الصبـيّ فـي رضاعه". تعدّدت المعاني في تفسير عبارة كهل، فثمة من قال "يكلّمهم صغيرا وكبيرا"، وثمّة من قال "حليماً"، "وأما قوله: "ومن الصالحين" فإنه يعنـي: من عدادهم وأولـيائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض فـي الدين والفضل".

تحضر مريم مع ابنها في عدد من المنمنمات الإسلامية، أشهرها تلك التي ترافق النسخ  المزوّقة من "قصص الأنبياء". في هذه الصور، تتبادل مريم النظرات مع طفلها، وتظهر أحيانا وهي تُرضعه بخفر شديد، مما يعيد إلى الذهن رواية القرطبي. تأخذ هذه الصورة المختزلة طابعا إنشائيا في منمنمة فريدة في تأليفها تزيّن صفحة من صفحات مخطوط يعود إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر، وهو من محفوظات سرايا توبكابي في اسطنبول. في القسم الأسفل من التأليف، تجلس البتول أرضا، وبين يديها المسيح الطفل. يحيط بالأم حشد من الرجال، ويظهر في الخلفية خمسة شهود يتابعون المناظرة من وراء الهضبة. في القسم الأعلى من الصورة، نرى رجلا معمما يجلس القرفصاء، ويتميّز بهالة نارية كبيرة تشير إلى نبوته. تجسّد المنمنمة رواية نقلها النيسابوري في سرده لسيرة عيسى، وفيها يدخل النبي زكريا مسرح الحوادث ليناظر اليهود. زكريا هو والد يحيى، ورأس الأحبار الذي كفل مريم في صغرها وبنى لها محرابا في الهيكل، "وجعل بابه إلى وسطها، لا يُرقى إليه بسلم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره". وفقا لهذه الرواية، ولدت مريم عيسى وعادت تحمله بعد أربعين يوما، "فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا" وقالوا لها: "من أين لك هذا الولد ؟"، فأشارت إلى طفلها كي يسألوه، فغضبوا وثاروا منها، "فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود، وقال لعيسى: انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذاك عيسى، وهو ابن أربعين يوما: {إني عبد الله آتاني الكتاب}".

 

 

أسرار الكلمة

سمّى الله عيسى كلمته "لأنه كان عن كلـمته"، يقول الطبري، ورُوي عن ابن عبـاس قوله: "الكلـمة هي عيسى". تكلّم كلمة الله في مهده وتكلّم في طفولته، ويعود سر هذه المعجزة بحسب كبار العلماء إلى معرفته بعلم الحروف. تتجلّى هذه الرؤية عبر عدد هائل من الروايات التي تناقلها أهل الحديث، وفيها يبدو عيسى الطفل معلّما يعلّم معلّميه الكبار أسرار الكلمة الإلهية. نقل الثعلبي رواية تُنسب الى الإمام محمد الباقر تقول: "لما وُلد عيسى كان ابن يوم كأنه ابن شهر. فلمّا كان ابن تسعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى الكتّاب وأقعدته بين يدي المؤدّب، فقال له المؤدّب: قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقالها عيسى، فقال المؤدّب: قل أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه، فقال له: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالقضيب ليضربه، فقال: يا مؤدّب لا تضربني إن كنت لا تدري، وإلا فاسألني حتى أفسّره لك، فقال له المؤدّب: فسّره لي، فقال عيسى: الألف لا إله إلا الله، والباء بهجة الله، والجيم جلال الله، والدال دين الله؛ هوّز، الهاء هي جهنّم وهي الهاوية، والواو ويل لأهل النار، والزاي زفير أهل جهنّم؛ حطّي: حطّت الخطايا عن المستغفرين؛ كلمن: كلام الله غير مخلوق ولا مبدّل لكلماته؛ سعفص: صاع بصاع والجزاء بالجزاء؛ قرشت: تقرشهم حين تحشرهم، أي تجمعهم. فقال المؤدّب لأمه: أيتها المرأة خذي ابنك فقد علم ولا حاجة له إلى المؤدّب"

=====================

الردّ:

 

يقول الزيباوي: "اختلف المفسرون في التعريف بالمنادي الذي ناداها بـ"ألا تحزني"، فمنهم من قال إنه جبريل، ومنهم من قال إنه عيسى "الذي حملته في جوفها" ". هذا الاختلاف سبّبته قراءة خاطئة لكلمة "تحتها"، وبحسب النسخ القرآنيّة غير المُنقّطة (تنقيط الحروف) يُمكننا أن نقرأ الكلمة بشكلها السريانيّ الصحيح، أي "نحتها" وتعني بوضوحٍ تام "حشاها" أو "رحمها". وبهذا تنفكُّ عقدةُ الالتباس عند المُفسّرين، فعيسى هو من ناداها من "نحتها"، لأنّ كلمة "تحتها" لا معنى لها هنا على الإطلاق. وهذا يؤكّد أيضاً النظريّة التي ننتمي إليها، ألا وهي سُريانيّة النصّ الأصليّ للقرآن.

 

وعن الرواية التي نقلها إلينا الثعلبيّ في شأن تفسير عيسى الحروف الأبجديّة، جاءت الإشارة إليها أيضاً في أحد أناجيل الطفولة المنحولة، وهذا تغاضى عن ذكره صاحبُ المقال، كي لا يؤكّد هو بنفسه أن غالبيّة المصادر الإسلاميّة ومن بينها القرآن نفسه، هي مصادر مسيحيّة منحولة توفّرت بين الجاليات اليهوديّة والنصرانيّة والمسيحيّة في شبه الجزيرة العربيّة باللغة السريانيّة، بعدما ذكرها مرّةً واحدة ضمن مقاله أعلاه.

 

يقول الطبري نقلاً عن ابن عبّاس إنّ "الكلـمة هي عيسى". ثُمّ يذكر الثعلبي رواية منسوبة إلى الإمام محمد الباقر قيل فيها عن تفسير عيسى للحروف الأبجديّة: "كلمن: كلام الله غير مخلوق ولا مبدّل لكلماته".

وهذا مُختصر العقيدة المسيحيّة الأرثوذكسيّة. فإذا كانت الكلمة هي عيسى نفسه، وهي كلمة غير مخلوقة وغير مُبدّلة، فهي إذا "أزليّة" لأنها غير مخلوقة، و"أبديّة" لأنها غير مُبدّلة. فعيسى ابن مريم هو كلمة الله الأزليّة والأبديّة، وبهذا يتساوى مع الله في الأزليّة والأبديّة، فهو إذاً ابنُ طبيعته مُساوٍ له في الجوهر الإلهيّ.

 

وفي الختام أقول: إنّ عيسى بن مريم كلمة الله، لم يقدر عليه الشيطان ولا أعوانه، مولودٌ من عذراء، يشفي ويُحيي ويخلق طيراً من الطين (والخلق أمرٌ يتعلّق بالله فقط)، وأيضاً هو "ديّان العالم"، وما ديّان العالم إلا الله وحده. فإذا كان هذا كلّه ما يقوله القرآن والتقليد الإسلاميّ، فلماذا يتّهمون المسيحيّين بالإشراك؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط