مالك مسلماني / Nov 19, 2004

إلى روح

Theo van Gogh

         

قامت ثلاث شخصيات فكرية وسياسية (العفيف الأخضر، شاكر النابلسي، جواد هاشم)، بإصدار بيان يدعو لإنشاء محاكمة دولة للإرهابيين، نُشر في موقعين على الإنترنت من أجل أن يساهم من يشاء من النخب الثقافية العربية بالتوقيع، وكما أنه نُشر لاحقاً ترجمةً إنجليزية للبيان. وقد أثارت هذه المبادرة جدلاً؛ إذْ تصدى بعضهم دفاعاً عنها، كما أن البعض الآخر الذي شارك بالتوقيع أبدى ملاحظات تقنية على البيان. وبكل الأحوال كان لنا رأي بصدد البيان لكننا رأينا المساهمة توقيعاً في بيان يصدر عن مجموعات ثقافية عربية في مسعى مناهضة الجماعات "الجهادية". كنا على قناعة بأن مئات الأسماء الذي شاركت بالتوقيع لها كل الحق في إبداء الرأي، ولكن كون البيان ذا طبيعة سياسية فمن المستحيل التوصل لصياغة ترضي مئات الشخصيات من مثقفين عرب. ولهذا اكتفينا بالتوقيع اقتداءً بالمئات، دون أن نكتب رأينا بهذه النقطة أو تلك؛ ذلك أننا رأينا إلى البيان على أنه فعل سياسي بامتياز يتعلق بموقف من حالة محددة ألاّ وهو الإرهاب الذي ترتكبه الحركات الإسلامية بالتحديد، وليس نصاً تحليلاً لواقع ملموس.

         

ومن الجانب الآخر، نُشرت مقالات في صحف ومنابر مختلفة تعارض البيان، وهذا دليل حالة صحية ما دامت رؤى الأفراد السياسية والثقافية محكومة بمفاهيم فكرية مختلفة، وبالتالي فهي رؤى نسبية. لكن المقالات التي تطرقت نقداً للبيان حملت بمعظمها وجهة نظر تنم عن أن كتابها يرون أنهم يمثلون الحقيقة المطلقة؛ ذلك أنهم اعتبروا البيان جزءاً من "الحملة الأمريكية للقضاء على الإرهاب"، وإذ شكك البعض بوطنية الموقعين، فإن آخرين استعملوا مفردات أقل ما توصف بالبذاءة.

         

إن الحوار الذي ينطلق من ثنائية عمالة ـ وطنية يستبطن رؤية ترى إلى نفسها أنها تمثل المطلق والحقيقة الكاملة وبالتالي، لم يعد أمر اختلاف رؤى ومنظومات فكرية. بل مسألة سعي للهيمنة ولإلغاء الحوار بسيف المطلقات. وإذ كان الأمر كذلك فقد رأينا أن نكتب بدورنا لا دفاعاً عن موقفنا بشأن التوقيع على البيان؛ بل لنرد على جوقة الكتاب والكويتيبين وأشباه الكويتيبين، الذين تسلحوا بدعاوى الحقيقة السرمدية ومطلقات الإرهاب الأصولي، وفي حالات أخرى بإرهاب "الوطنية". مؤكدين لهم بأن العزف على أوتار "الوطنية" لن يرهبنا، ولن يثنينا عن عزمنا على مواجهة التطرف الديني مهما بلغ عنفه، وسنخوض معركة الدفاع عن العقل حتى النهاية؛ لأن الإسلام "الجهادي" لا يمثل تهديداً للغرب بالمعنى الاستراتيجي، فالغرب قد يعاني من الهجمات الإرهابية، كما تجسدت جريمة ضد الإنسانية يوم (11/ 9). لكن الثابت إن الخطر بالنسبة للغرب يبقى خطراً خارجياً، قد يربك المجتمعات الغربية، وربما يلحق بها الأذى، لكن كل عنف الإرهاب "الإسلامي" لن يصل إلى حد تقويض أساس المجتمعات الغربية، ولا لإلحاق الدمار بمستقبلها. ومهما تكبدت هذه المجتمعات من خسائر، فإن المآل النهائي هو انتصار العقل على اللاعقلانية ـ وهنا بصيغتها "الجهادية". والتقدم على أشباح الماضي التي تنبعث من جبال أفغانستان، أو صحراء الخليج، أو ريف مصر، أو غيرها من الأماكن. وفي إطار المواجهة فإن الغرب لقادر على بناء أنظمة دفاعية، وبالختام لو اضطر لبناء سور صيني حول المنطقة.

         

في حين أن الفكر الإرهابي، الذي ينبعث من أرضنا نحن، سيشكل تهديداً استراتيجياً لنا نحن شعوب الدول العربية والإسلامية. فالإرهاب هو منبت محلي، ونموه السرطاني سيقتل مجتمعاتنا بالذات، وشتان بين مواجهة من الخارج ـ كحالة الغرب مع الحركات "الجهادية" ـ، وحالة مواجهة داخل المجتمع. إن اللاعقلانية التي تجتاح المنطقة بهذا الشكل الهستيري، وأصوات "المجاهدين" التي تعلوا على كل الأصوات، وآلاف الدعاة في كل مكان، يحملون فتوى تجيز قتل كل من لا يخضع لسيف إرهابهم، والسكاكين التي توجه هنا وهناك إلى أعناق الأبرياء. إن هذا كله سيدمر المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل، وسيدخلها عهداً مظلماً، ونظن بأن اكتمال المشروع "الجهادي" سوف يدمر العالم العربي والإسلامي إلى نهاية التاريخ الكوني، ويضعه في غابات تسود بها العمائم والسيوف على برك الدماء.

         

لن تروعنا الاتهامات بالعمالة للأجنبي، فنحن نأمل بوقف هذا السرطان المدمر للجسم العربي والإسلامي. وعلى المثقف أن لا يتخلى عن منظوره المستقبلي لأجل التكتيكات السياسية. وليس لنا أن نقبل بأن تدمر مجتمعاتنا من الداخل؛ لأن الطرح الأمريكي الحالي يرى في "الحركات الجهادية" عدواً، ولن نعتبر هؤلاء "المجاهدين" أبطالاً بأي شكل من الأشكال وتحت أن ظروف من الظروف.

         

بعض مما وقع على البيان  ـ ونحن منهم ـ لم يكن لهم موقف إيجابي أبداً من الإسلام السياسي (الذي كان جزءاً من أدوات المواجهة بين عالم الغرب وعالم السوفييت). لقد كان منظورنا يومها منظوراً معرفياً ونضالياً. فعلى المدى البعيد كنا ندرك حجم الخطر الذي تمثله الحركات الإسلامية، التي تنطلق من مفاهيم مائعة نظرياً وعقائدياً وتسعى لتطبيقات وحشية اجتماعياً.

 

كنا ـ وما زلنا ـ نرى أن البرنامج الاجتماعي التي ستطبقه هذه الجماعات في المجتمعات العربية هو تصفية النزعات الإنسانية والعقلانية الموجودة في العالم العربي. فالمشروع الأصولي الإسلامي تحكمه رؤية هيمنة الدين على الفرد، وتذويب المجتمع في عمائم الملالي، وخنق الروح في أتون المساجد على صوت ترتيل الكتاب.

         

إن المهمة المطلوبة حالياً في العالم العربي متعددة المستويات، فمطلوب هو تفكيك البنى الاجتماعية والأنساق الفكرية التي تولد العنف وعقائد الإرهاب في العالم العربي، وهذه مهمة تفترض اقتران الممارسة السياسية، بالفعل الثقافي. إنها مهمة تفكيك بنى اجتماعية وأنساق فكرية.

         

إن الاعتبارات الوطنية هي التي تدفعنا لمناوئة هذا الشكل من الفعل السياسي اللاعقلاني الذي يحكم في العالم العربي، وكما تجسده التنظيمات "الجهادية". والمستقبل الذي نريد للعالم العربي هو عالم لا يشكل فيه جنون ابن لادن، والزرقاوي، إلاّ لحظة طفرة مرضية في الجسم الاجتماعي، سرعان ما تزول. وأما أن نجعل هذه الطفرة المرضية، حالة صحية، ونسرمدها لحساب "وطنية" مزعومة، والقبول بأشد حالات التطرف الديني في العالم العربي لحساب هذه "الوطنية" المتخيلة، لهو أمر ليس مرفوضاً فحسب، بل موضوع مواجهة أيضاً.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط