جوزيف بشارة / May 02, 2006

تبدو معضلة الإرهاب الذي يبتلى به العالم مستعصية على الحل في ضوء عدم الاتفاق على مفهوم محدد له تقبله الأطراف المختلفة وتلتزم به جميع القوى الدولية والإقليمية والمحلية. اكتفت جميع محاولات تعريف الإرهاب حتى وقتنا هذا بملامسة جوانبه وتبعاته الإنسانية دون الاقتراب من مسبباته وأهدافه السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية أو الدينية، وذلك بسبب اختلاف الرؤى بين الدول والجماعات والمنظمات الفاعلة. جاء انقسام العالم حول كيفية مواجهة الإرهاب ليلقي بظلال داكنة على كل المحاولات الجادة لإيجاد معالجة جماعية دولية له، فنما الإرهاب واشتد عوده، واختفت من أمامه أية محاولة جادة لمواجهته باستثناء المواجهتين الامنية (من جانب غالبية دول العالم) والعسكرية (من جانب الولايات المتحدة).

لم يكن غريباً أن ينقسم العالم حول مفهوم الإرهاب، فقد شهد القرن العشرين مساندة القوى الدولية لمنظمات إرهابية في إطار صراعات مريرة طويلة كان أبرزها على الإطلاق الحرب الباردة. تمحور الإنقسام الدولي حول ماهية ووسائل وأهداف الإرهاب، فقد بررت القوى الدولية بعضاً من أنواع الإرهاب، مثل ذلك الذي مارسته منظمة إرجون الصهيونية ضد الفلسطينيين قبل تأسيس دولة إسرائيل، في حين رفضت تلك القوى إرهاباً طال مصالحها وأهدافها مثل الإرهاب الذي عانت منه أسبانيا على أيدي منظمة "إيتا" الباسكية الإنفصالية والإرهاب الذي عانت منه بريطانيا على أيدي منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي. حتى سنوات قليلة مضت لم يكن العالم يعترف بالإرهاب كقضية عالمية وإنما اعتبره قضية محلية تتعلق بالمجتمعات التي عانت منه، حيث انحصرت الاعمال الإرهابية داخل الحدود الجغرافية للدول دون أن تعبر إلى المستوى الإقليمي أو الدولي.

 

رغم أن تدويل الإرهاب جاء في نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن العشرين عندما انتشرت عمليات اختطاف طائرات تابعة لشركات طيران عالمية، غير أن ارتباط معظم هذه الحالات بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، الذي احتدم بشدة بعيد الإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية عام 1967، أعطى تلك العمليات صبغة وطنية تحريرية، وجعل منها حالات خاصة، رغم الرفض والتنديد الشديدين الذين قوبلت به من المجتمع الدولي. لم تكن هناك حتى ثمانينيات القرن العشرين عمليات إرهابية عابرة للحدود، لذا اقتصر مفهوم الإرهاب على التعريف الذي أقرته عصبة الأمم المتحدة عام 1937 والذي جاء فيه أن الإرهاب هو "الأعمال التي توجه نحو دولة بغرض خلق حالة من الإرهاب في عقول أشخاص أو مجموعات معينة أو العامة." ولكن جاءت الصحوة الدينية لتيار الإسلام السياسي في مطلع الثمانينيات وما تبعها من تدويل للإرهاب الديني عن طريق قيام جماعات متطرفة بعمليات إرهابية ضد كثير من الأهداف والمجتمعات خلال سنوات التسعينيات ليفرض ضغوطاً على المجتمع الدولي بهدف إعادة تعريف الإرهاب الدولي، فجاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام رقم 49/60 لعام 1994 ليعيد محاولة الاقتراب من تعريف الإرهاب فذكر أنه الأعمال والطرق والممارسات التي تشكل مخالفة صارخة لأغراض ومبادئ الأمم المتحدة التي قد تشكل تهديداً للسلام العالمي والأمن وتهدد علاقات الصداقة بين الدول وتعيق التعاون الدولي وتهدف إلى تدمير حقوق الإنسان والحريات الأساسية والأسس الديمقراطية للمجتمع. جاءت محاولة التعريف بصورة جديدة أشارت إلى المتغيرات الدولية التي شهدتها ممارسة الإرهاب، ولكنها جاءت عامة ولم تقترب من جوهر الإرهاب الديني وأسبابه وأهدافه بسبب الإنقسامات في الرؤى بين العديد من المجموعات الدولية وبخاصة المجموعة الإسلامية من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى.

 

لم يتمكن المجتمع الدولي طوال السنوات الماضية من التغلب على الإختلافات المستحكمة بشأن تعريف دقيق للإرهاب. فتواجدت حالة من عدم التفاهم بين كتل ومجموعات المجتمع الدولي بشأن ماهية الإرهاب وبخاصة فيما تعلق بالخطوط الفاصلة بينه وبين المقاومة الوطنية. ما اعتبر إرهاباً لدى المجموعة (أ) قد اعتبر في كثير من الحالات مقاومة لدى المجموعة (ب)؛ فالمجتمع الدولي على سبيل المثال اعتبر أن العمليات التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية ومنها حركة حماس الحاكمة ضد إسرائيل إرهاباً يجب إدانته، في الوقت الذي اعتبر فيه العرب هذه العمليات نوعاً من أنواع المقاومة ضد قوات الإحتلال الإسرائيلي. وما اعتبر إرهاباً لدى حكومةٍ ما، قد اعتبر نوعاً من أنواع حرب التحرير لدى حكومةٍ أخرى؛ فالحكومة العراقية على سبيل المثال، صنفت الهجمات التي يشنها أبو مصعب الزرقاوي إرهاباً، في حين صنفت الحكومة السورية تلك الهجمات على أنها نوع من أنواع الحرب التحريرية ضد قوات الاحتلال الأمريكية. لا يغفى عن الذهن أن المصالح السياسية والإقتصادية لعبت دوراً حاسماً في مواقف بعض الدول من اعتداءات إرهابية، بغض النظر عن  صحة هذه المواقف. فالولايات المتحدة غضت النظر عن اعتبار هجمات إسرائيلية على مدنيين فلسطينين ولبنانيين إرهاباً، في حين اعتبرت هجمات فلسطينية على مدنيين إسرائيليين إرهاباً. الموقف ذاته ولكن بصورة معكوسة اتخذته الدول العربية والإسلامية باعتبارها ممارسات إسرائيلية إرهاباً دولياً، في الوقت الذي أيدت فيه ومولت اعتداءات فلسطينية على أهداف إسرائيلية. لم يقف الأمر عند الاختلاف في تفسير المقاومة الوطنية، بل امتد ليشمل العنف الديني، حيث غض المجتمع الدولي أنظاره عن الإرهاب الذي شهدته الجزائر ومصر في حقبتي السبعينيات والثمانينيات الماضيتين، فأوت دول مختلفة الكثير من الإرهابيين بدعوى حقوق الإنسان، ولم يتغير موقف المجتمع الدولي هذا إلا بعد اكتوائه بنار الإرهاب.

 

تعد الإختلافات في الرؤى بين العرب والمسلمين من جهة والغرب والمجتمع الدولي من جهة أخرى من أبرز الإختلافات في مجال تعريف مفهوم الإرهاب. فالعرب والمسلمون يشعرون بأن المفهوم الغربي للإرهاب يقصد منه الربط بين الإسلام والإرهاب ويراد به النيل من مكانة الإسلام والمسلمين على الساحة الدولية. في حين يرى الغرب أن الإرهاب الديني ما هو إلا إفراز لطبيعة سياسية فاسدة ساهم في تكوينها وترسيخها غياب الديمقراطية والحريات السياسية بالعالمين العربي والإسلامي، حتى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي يعد من أبرز دعاة الحرب على الإرهاب أعلن عن خطة لإحلال النظم الشمولية بنظم ديمقراطية في الشرق الأوسط، معرباً عن امله في أن تقود مصر والسعودية العملية الديمقراطية بالمنطقة. لا توجد أية إشارة من بعيد أو قريب إلى الإسلام في مفهوم الإدارة الأمريكية للإرهاب. المفهوم الأمريكي للإرهاب يركز على الأغراض السياسية لا الدينية له. تشير وزارة الخارجية الإمريكية إلى الإرهاب على أنه العنف المخطط الذي تحركه دوافع سياسية والذي يرتكب ضد اهداف مدنية غير عسكرية بواسطة مجموعات أو وكلاء سريين بغرض التأثير على الجماهير، بينما تشير إلى الإرهاب الدولي على أنه الإرهاب الذي يشارك فيه مواطنون من أكثر من دولة، في الوقت الذي تعرف فيه المجموعات الإرهابية على أنها المجموعات التي تمارس أو التي تضم مجموعات فرعية تمارس الإرهاب الدولي. مفهوم الولايات المتحدة لا يقوم على اعتبار أن الإرهاب يرتكب باسم الإسلام، ولكن على اعتبار أنه يرتكب لأغراض سياسية بحتة حتى وإن كان يرفع راية الإسلام ويطالب بتكوين دولة الخلافة الإسلامية. حرب الولايات المتحدة على الإرهاب تظهر أن واشنطن تتعامل مع مجموعات الإرهاب وعلى رأسها تنظيم القاعدة على أنها كيانات لها منظوماتها السياسية والعسكرية التي تشاكل تنظيمات الدولة العصرية، فنرى البيانات الأمريكية تشير إلى هذا كرئيس للتنظيم، وذاك نائب للرئيس وأخر مسئول إعلامي وغيره رئيس أركان. ما هذه التصنيفات إلا انعكاس للصورة التي ترى بها الإدارة الأمريكية التنطيمات الإرهابية وأهدافها التي هي سياسية بالمقام الأول. على جانب أخر، فمفهوم المجتمع الدولي الذي عبر عنه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم  49/60 لعام 1994، ومفهوم الولايات المتحدة يشددان على عدم إنسانية الإرهاب وعدم احترامه للحريات وحقوق الشعوب، ويعتبران أن أي اعتداء على مدنيين يعد عمل من أعمال الإرهاب.

 

إذا ما انتقلنا إلى رؤية الجانب الإسلامي لظاهرة الإرهاب نجد أنها غالباً ما تنقسم إلى شقين رسمي وغير رسمي يهيمن على كليهما الخوف والهلع من الغرب غير المسلم. رغم أنه ليس هناك مفهوم محدد للإرهاب يجمع عليه المسلمون، إلا ان خيوطاً عريضة تربط بين كافة الرؤى في الجانب الإسلامي. غير أنه إذا أخذنا في الإعتبار الإنفصال شبه التام بين الحكومات والشعوب في العالم الإسلامي، فإن الرؤية الرسمية قد تختلف كثيراً عن الرؤية الشعبية، رغم محاولات الانظمة الحاكمة في البلدان الإسلامية للعب بورقة الدين واستخدامها كورقة توت تخفي بها عوراتها أمام شعوبها. من المفاهيم الإسلامية البارزة للإرهاب ذلك المفهوم القديم الذي قدمه أية الله شيخ محمد علي تسخيري مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الثقافية والأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران، في ورقة عمل تحت عنوان "نحو تعريف للإرهاب"، قدمها لمؤتمر الدولي للإرهاب عقدته منظمة المؤتمر الإسلامي قبل نحو تسعة عشر عاماً، ونشرته مجلة التوحيد الإيرانية بالمجموعة الخامسة، العدد رقم 1 لسنة 1987. يرى تسخيري الإرهاب على أنه عمل ينفذ بغرض تنفيذ أهداف غير إنسانية وفاسدة وتشمل تهديد الأمن بكل أنواعه، وانتهاك الحقوق التي يقرها الدين والإنسان. ويشدد تسخيري على ان مفهومه هذا لا ينطبق على الحالات الآتية:

 

1 ـ أعمال المقاومة الوطنية ضد القوات المحتلة والإستعمارية والمعتدية.

2 ـ مقاومة الشعب ضد المجموعات التي تفرض عليهم بقوة السلاح.

3 ـ رفض الدكتاتوريات والأشكال الأخرى من الطغيان والجهود المقاومة لمؤسساتهم.

4 ـ المقاومة ضد التفرقة العنصرية.

5 ـ الثأر ضد العدوان إذا لم يكن هناك بديل لذلك.

 

غير أن مفهوم تسخيري للإرهاب ينطبق على الحالات التالية:

1 ـ أعمال الإستيلاء على الأراضي والهواء والماء.

2 ـ كل عمليات الإستعمار وتشمل الحروب والعمليات العسكرية.

3 ـ كل الممارسات الدكتاتورية ضد الشعوب وكل أشكال حماية النظم الدكتاتورية وفرضها على الأمم.

4 ـ كل الأعمال العسكرية منها استخدام الأسلحة الكيماوية وقصف المناطق المدنية ونسف المنازل ونقل المدنيين.

5 ـ كل أعمال التلوث الجغرافي والثقافي والمعرفية. الإرهاب الثقافي يعد واحد من أخطر أنواع الإرهاب.

6 ـ كل التحركات التي قد تقلل من شأن الإقتصاد الوطني والدولي، والتي قد تؤثر على أوضاع الفقراء والمحرومين، وتعمق الفجوات الإجتماعية والإقتصادية وتضخم من الديون المالية.

7 ـ كل أعمال التخابر التي تهدف إلى التأثير على اتجاه الدول نجو التحرر والاستقلال وفرص معاهدات مجحفة عليها.

 

من الواضح أن رؤية تسخيري تبرر أعمال المقاومة الوطنية التي قد ترتكب ضد قوات محتلة، وتجيز الأعمال التي قد توجه ضد الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة، وتسمح باستخدام العنف المسلح لمواجهة الغزو الثقافي والنفوذ الأجنبي. من المؤكد أن رؤية تسخيري للإرهاب تقترب في بعض مظاهرها من رؤية المتطرفين الإسلاميين. فتسخيري لم يحرم الأعمال العسكرية أو الإنتقامية ضد المدنيين العزل، واكتفى بالإقرار بأن الإرهاب عمل فاسد غير إنساني يهدد الامن وينتهك الحقوق دون أن يفرق بين الإرهاب والمقاومة. رغم اتفاق المجتمع الدولي مع تسخيري في أن الدكتاتورية قد تكون سبباً في اندلاع الإرهاب، إلا أن ورقة تسخيري تبرز الاختلاف العميق بين رؤيتي المجتمع الدولي والمسلمين للإرهاب، حيث يعتبر المجتمع الدولي أن كل اعتداء على مدنيين هو عمل من أعمال الإرهاب التي تتعارض مع الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تصون حرمة المدنيين، في حين لم يشر تسخيري إلى المدنيين على الإطلاق. كما تختلف الرؤيتان في مسببات الإرهاب، ففي حين يرى المجتمع الدولي أن الأهداف السياسية تشكل الدافع الأساسي للإرهاب، يرى تسخيري أن الجوانب الدينية والغزو الثقافي والهيمنة الإقتصادية تعد اعتداءات مباشرة تتطلب ثأراً أو قصاصاً أو جهاداً ضد المعتدين. لا يبدو أن الطرفين الدولي والإسلامي سيقتربان من مفهوم واحد للإرهاب الديني ينهي المعضلة التي يعاني منها العالم الأن. الظروف السياسية الدولية الراهنة تبتعد بموقفي الفريقين اللذين ربما اتفقا على التعريف اللغوي للإرهاب، ولكن يبقى الإتفاق على أهدافه وأسبابه ووسائله أملاً بعيد المنال، ومن ثم يبقى الاتفاق على معالجة دولية له حلماً يصعب إن لم يكن يستحيل تحقيقه.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط