أتصوّر أن معارض ايكيا السويدية الشهيرة، والموزعة عبر قارات العالم، والتي تزود مرتاديها بكل ما يحتاج إليه المنزل من الألف للياء، لا تختلف من حيث المنتجات والتنظيم والتوزيع أينما حلت وارتحلت. فايكيا في أسبانيا لا أظنه يختلف عن نظيره في ماليزيا، وايكيا في استراليا لا أحسبه سيختلف عن مثيله في جنوب افريقيا. غير أن ايكيا السعودي قد تم تكييفه وتطويعه لينسجم مع ما يعرف لدينا ب"الخصوصية السعودية". فبما أننا نملك القوة الشرائية فمن حقنا أن نملي على من يطأ أرضنا "الطاهرة" أن ينحني بخشوع لخصوصيتنا، وأن يسير بجوار الحائط لئلا يصطدم ب"ثوابتنا الأصيلة". لا تسألني...أين تبدأ خصوصيتنا...وأين تنتهي خصوصيتنا. الخصوصية مفهوم فضفاض وتعبير هلامي، ولا أحد يملك القدرة على تحديد معالمها أوسبر أغوارها. الأكيد أن المغزى من تعزيز الوهم بالخصوصية وتسويقه بين العامه هو بقصد خندقة المجتمع وتحصينه ضد رياح التغيير العاتية، وحماية ما تبقى من البنى الثقافية الهشة من الانهيار...ولكن هيهات!
ما علاقة هذا كله بايكيا؟ سأحدثك بذلك الآن!
عندما تعبر البوابة، وتسير قليلاً، ستظهر أمامك شاشة تلفزيونية، يطل منها وجه فتاة مليحة سمراء، تتحدث فيه عن منتجات الشركة الرائعة التصميم. وبما أن التيار الديني الوهابي مصاب بعقدة تاريخية اسمها المرأة، فقد استبدلوا معالم وجه تلك السمراء بمربعات تذكرك بالفن التكعيبي... المحرم بكل تأكيد من قبل "علماء الأمة".
إذا تجاوزت وجه المرأة "الكافرة" باتجاه قسم رفوف المكتبات، ستجد أن العاملين في المعرض قد حشوا الرفوف بكتب دينية تراثية تتناول عناوينها الجنة والنار وعذاب القبر والصراط وأمجاد أمة الإسلام وأقوال السلف لنخبة من جهابذة "الفكر الإسلامي النير" أمثال ابن تيمية وابن القيم والسيوطي. كأن من اختار هذه العناوين يريد أن يقول هذا ما يقرأه السعوديون، أو ربما هذا ما يجب أن تحويه رفوف مكتبتك. قد يبدو الأمر عادياً، لكنه يومئ ولو من بعيد لنوعية القراءات "النوستاليجيه" التي تستهوي السعودي، ولا يكاد يبرحها.
بعد أن تتجول في المعرض الممتليء دوماً بالزوار، وينال منك التعب والجوع، قد تقرر الذهاب إلى مطعم المعرض المتميز، ولكن يجب أن تقرر سريعاً قبل أن يرفع الآذان بعشر دقائق على الأقل. فبمجرد أن يعلو صوت الآذان...تتوقف الحياة تماماً. إذا تصرفت بسرعة، ووضعت أطباق الغداء أو العشاء على الطاولة المحجوبة حتماً بستار حتى لا تتلصص على "خصوصية" جارك الجالس بجوارك مع "الجماعة" أو "الأهل"، انظر إلى أعواد الأسنان المغروسة في طبقك وفي أعلاها "الجزء المتبقي" من علم مملكة السويد ذي الخلفية الزرقاء والصليب الأصفر. لن تجد أثراً للصليب لا هنا ولا في أي مكان آخر في بلاد الحرمين حتى ولو كان مرفوعاً على هامة عود أسنان! اتساءل: ماذا سنفعل لو قام الغير برد مماثل فانتزع السيف ومحى كلمات الشهادة؟ لقد ثار المتدينون عندما وجدوا الفتيات والفتيان يحملون العلم الأخضر في مدرجات ملاعب كرة القدم وفي ستار أكاديمي، لا حباً في الوطن، ولكن غيرة على أول أركان الإسلام...شهادة ألا إله إلا الله محمداً رسول الله.
في طريقك، وأنت تدفع بعربتك نحو صناديق المحاسبة، سيطل عليك وجه تلك المليحة السمراء مرة أخرى، ولكن هذه المرة بلا خدوش وبلا تعتيم! لماذا لم تطمس يد الوهابية وجهها هنا بعدما طمست معالمه هناك، كما سرقت معالم وجوه وأجساد نسائنا تحت خيمة سوداء؟ أيكون وجه السمراء فتنة، والفتنة أشد من القتل، هناك عند الدخول...ويكون وجهها حلال هنا عند الخروج؟! الكثيرون يعبرون دون أن تستوقفهم التناقضات الصارخة، ربما اعتادوها وألفوها، أو ربما لأنهم يمارسونها يومياً دون وعي. تلك التفاصيل الصغيرة التي تختبيء وسط الزحام طالما أوقفتني، واسالت دم الأسئلة المحرمة. رغم تناقضات المشهد وكاريكتوريته، فالأمر يبدو مفهوماً بسبب فشل التيار السلفي عملياً في أسلمة كل مظاهر الحياة، واصطدامه باشتراطات الحياة المعاصرة، وعجزه عن إدارة عقارب الزمن في الإتجاه المعاكس، الأمر الذي يعني في النهاية قبول هذا التيار ولو على مضض بنماذج وأشكال تعتبر في حكم المحرمات. للتبسيط، التيار السلفي لا يتهاون في السماح، مثلاً، للمرأة بقيادة مركبتها خوفاً عليها - كما يدعي - من الوقوع في الزنا، لكنه يسمح بوجود سائق أجنبي محرم عليها شرعاً! مثال آخر، ذات التيار يعارض عمل المرأة في محلات الملابس الداخلية النسائية لأسباب واهية، لكنه - وياللمفاجأة - يقبل بوجود رجل أجنبي، صار من كثرة اختلاطه بالنساء يحدد لها قبل أن تتكلم أي حمالة صدر وأي سروال يناسبها!
affkar_hurra@yahoo.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط