من المعروف أن ثقافتنا تتسم بالطابع الشفهي في أغلب أدبياتها ومكوناتها المعرفية، وقد خلقت تراكمات الثقافة الشفهية عبر التاريخ في مجتماعتنا العربية والإسلامية عالماً من المسوغات والأقاويل والمنقولات الفكرية اعتمدَ بشكل أساس على المرجعية الشفهية، ولم يعرف المسلمون التداول المعرفي عبر وسائط الاتصال الكتابي والثقافة الطباعية إلا في وقتٍ متأخر من تاريخهم، وقد نستغرب إذا عرفنا أن تداول ثقافة الكتاب الورقي في مجتمعاتنا، كثقافة طباعية متنوعة مكتوبة قد دخلت إلى عالمنا مع نهاية القرن السادس عشر، كما يذكر ذلك المؤلفان (آسيا بريغز وبيتر بورك) في كتابهما الرائع والقيّم (التاريخ الإجتماعي للوسائط) حيث يقولان:
(في العالم الإسلامي ظلت مقاومة الطباعة قوية على امتداد أوائل العصر الحديث، حتى أن الدول الإسلامية كانت بالفعل هي العائق أمام انتقال الطباعة من الصين إلى الغرب، ووفقاً لسفير إمبريالي في إسطنبول في منتصف القرن السادس عشر كان الأتراك يرون أن طباعة الكتاب المقدس (القرآن) شيء محرم، وقد كان الخوف من الهرطقة هو الأساس في معارضة الطباعة والتعليم الغربي، وفي العام 1515 أصدر السلطان سليم الأول، مرسوماً يقضي بتنفيذ عقوبة الإعدام فيمن يمارس الطباعة، وفي نهاية القرن السادس عشر سمح السلطان مراد الثالث، بتداول الكتب المطبوعة غير الدينية المكتوبة بأحرف عربية، وهذه الكتب كانت في الغالب مستوردة من إيطاليا)..
هذا الأمر يلقي الضوء بوضوح على الغياب الملحوظ في تلك الأيام من تاريخنا لثقافة التداول الكتابي وغياب وسائل الثقافة الورقية والاعتماد بشكل كلي على الثقافة الشفهية في التداول المعرفي، وعادةً ما يكون لطبيعة حكم الاستبداد تدخلاً مباشراً في عدم السماح للكتاب المطبوع أن يتم التداول فيه كوسيلة اتصال ثقافية، لأن النظام الاستبدادي لا يسمح بتداول سبل الاتصال المعرفي الحر والتنويري الأمر الذي من شأنه أن يرفع من مستوى وعي وثقافة الأفراد، ويفضل حكم الاستبداد أن يبقى الشعب جاهلاً لأن ذلك يصب في نهاية المطاف لمصلحته، ولذلك كان الحكم الإسلامي في العهد العثماني لا يسمح بوجود الطباعة وكان يحارب الكتاب المطبوع غير الديني كأحد وسائل الاتصال المعرفي، ولم تزل إلى أيامنا هذه تفرض الأنظمة المستبدة حظراًً كاملاً على الثقافة الطباعية ذات المدلولات الفكرية الحرة وتحارب انتشارها بشتى الطرق والوسائل، وكان نتيجة لذلك أن برزت في تلك الدول مجتمعات اعتمدت على تداول الثقافة الشفهية الحرة والثقافة الطباعية (الممنوعة) في المقاهي والصالونات الأدبية بعيداً عن أعين السلطة، وأجد أن (مارتن لوثر) الذي عاش في الفترة ما بين (1483 ـ 1546) كان محقاً جداً لأنه كان يرى في المطبعة (أسمى هبات النعمة الإلهية) على حد تعبيره، وكان ينعت الكنيسة بأنها (دار فم، وليست دار قلم) مما يعني أن التعاليم الدينية في حراكها الوعظي الشعبوي تعتمد بشكل مباشر على ثقافة التلقين الشفهي وتجد في الجمهور القاعدة المهيأة لنشر الثقافة الدينية الشفهية، وهذا الأمر هو ما يحصل الآن في مجتمعاتنا، حيث تحتل الخطب الدينية المنبرية والمواعظ الإرشادية الدينية مساحات كبيرة من الحيز الوقتي عند عامة الناس، وقد نجد أن خطبة واحدة يلقيها رجل الدين من على منبر صلاة الجمعة تعتبر بالنسبة له وجبة ثقافية كاملة الدسم تغنيه عن مطالعة أي كتاب أو الغوض في عالم المطبوعات الورقية، ناهيك عن امتعاضه من الكتب التي لا تتعاطى الشأن الديني، ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن كل ما يتفوه به الخطيب الديني في منزلة الكلام الذي لا يجوز الخوض في تبعاته وخلفياته، وكنتُ وما زلتُ أستغرب كثيراً كيف يستطيع متكلّم كل عدته بعض المواعظ الدينية السطحية الشفهية أن يستحوذ تماماً على جمهور عريض ويجعله ينصرف إليه بالكامل، إلى درجة أن يجد الجمهور في خطب ذلك الداعية أو الخطيب ثقافة كاملة تغنيه عن البحث والقراءة المكثفة والجادة في عالم المطبوعات والكتب والثقافات الأخرى. وتراجعت كثيراً في مجتماعتنا ثقافة الكتاب المطبوع لصالح الانتشار العجيب للفضائيات التي تحشو وقتها ووقت الفرد بالثقافة الدينية الشفهية وتجعل من تلك المشافهات الثقافية مادة أساسية في برامجها وأصبح الجمهور يُقبل عليها كواحدة من سبل البناء المعرفي..
ومن الأسباب التي تجعل الفرد خاضعاً لثقافة المشافهة وبالتالي مكوناً أساسياً لها وداعماً لوجودها، هي اضمحلال نزعة الاستقلالية الفكرية في ذاته، وقبوله التام للذوبان في الكيان الثقافي الجمعي الذي يتأسس على تداولات الثقافة الشفهية، وقد ساعد التراث الثقافي للأمة الإسلامية الذي تأسس تحديداً على قتل النزعة الفردية الاستقلالية في مجالات الفكر والتفكير والثقافة والمبادرة العلمية والاتجاه المعرفي في خلق حالة التبعية الثقافية للكيان المعرفي الخاضع لثقافة المجتمع الشفهية، وحينما تختفي عند الإنسان نزعة التفرد في التفكير ونزعة الاستقلالية الثقافية يصبح كياناً مائعاً يذوب في إطار الأفكار والاتجاهات الثقافية السائدة، ويجد الخروج عليها تعدياً على الكيان الثقافي (المقدس) الذي أسسته بدرجة كبيرة ثقافة المجتمع الجمعية وتراثه الفكري المتداول عبر وسائل الاتصال الشفهي، وفي هذا الاتجاه تحديداً نجد أن الفلاسفة في عصر التنوير الأوروبي وعصر الحداثة والنهضة الفكرية اتجهوا إلى إحياء النزعة الثقافية الفردية في الذات الإنسانية ورفعوا من شأن قيم الفرد الفكرية والثقافية، وكان نتيجة لذلك وتبعاً له الازدهار الباهر على صعيد التنوع الثقافي والثراء الفكري، ومن الطبيعي أن يتحقق كل ذلك كنتيجة مضطردة لاهتمام الفكر الفلسفي التنويري بالثقافة الطباعية وبقيمة الفرد الفكرية ومساهماته الاستقلالية المؤثرة في التنوع والتجدد الثقافي، وتقديس حقه الإنساني في خلق الأفكار وممارسة النقد ومساءلة الاتجاهات المعرفية، واستثمار طاقاته الإبداعية الخلاقة، واعتماد الإنسان الفرد محوراً أساسياً للخلق الفكري وباعثاً للفعل الثقافي، بينما في مجتمعاتنا يتمحور الاتجاه الثقافي حول التراث الفكري والمقدس من الثقافات والأفكار والانشغالات المعرفية والأطر الثقافية الجامدة، والتمحور حول الثقافة التي تأسست عبر التراسل التاريخي الشفهي بعيداً عن قدرات الفرد الذاتية وتجاهلاً لامكانياته الابداعية وقتل النزعة الثقافية الفردانية في ذاته، ولذلك ليس مستغرباً أن نجد ضياعاً لكيان الفرد المستقل على الأصعدة الفكرية والمعرفية، ونتيجة لذلك أيضاً أصبح لدينا مجتمعاً يُقبل بدون أدنى تشغيل لقدراته الذاتية على الثقافة الشفهية الدينية ويجد فيها انتماءه الكياني والتراثي والتاريخي والحياتي، وكان تبعاً لذلك أن تحول الفرد في مجتمعاتنا إلى مردد تلقائي لمقولات وأدبيات تلك الثقافة المسطحة، وخلقت الثقافة الشفهية في تداولاتها الاتصالية المتعاقبة فرداً مسكوناً بثقافة الانفعال والصراخ بدلاً من أن تخلق إنساناً فاعلاً للحراك الثقافي المتنوع، وكذلك أوجدت فرداً يستمتع منتشياً بممارسة الفعل المقلد بدلاً من توجد فرداً مبدعاً يخترق سدود الثقافات الجامدة الغارقة بالتقليدية والماضوية والشفهية، وكذلك قتلت الثقافة الشفهية في داخل الفرد خاصية الابتكار والخلق وجعلت منه كياناً يتوجس خيفة من الانطلاق والتحرر لتبقيه دائماً في حالة من التردد والتعثر، وكذلك استطاعت ثقافة المشافهة وبالخصوص الدينية منها أن تصنع فرداً قابلاً لكل ما هو سائد ومتداول ومستسلماً بالتالي لتلك الثقافة بدلاً من أن تصنع فرداً يتحسس عن طريق النزعة الفردية التساؤلية والنقدية أعماق الوجود المكون لثقافات الإنسان واتجاهاته المعرفية وتنوعاته الفكرية، فأصبح الفرد في هذه الحالة مستسلماً وخاضعاً بدلاً من أن يكون متقداً بانطلاقات المنطق التساؤلي النقدي..
علينا أن نؤمن أن أساس مشكلتنا تكمن في الثقافة ومنها بدرجة كبيرة تسيّد الثقافة الشفهية على العقلية الإسلامية في التاريخ القديم والحديث، ومنها تتفرع باقي المشكلات الأخرى، وحينما نمنح هذه الثقافة المصابة بالخلل والعجز والاستفحال المرضي والسطحية مشروعية الوجود وشرعية التواجد فإنها من الطبيعي جداً أن تتسيد وتصبح هي مرجعيتنا في التكوين الثقافي المجتمعي، وحينما نتقاعس عن قدح شرارة التساؤلات القاسية لتقتحم بذلك تلافيف هذه الثقافة فإننا نؤمن يقينياً من خلال المنطق الاستسلامي الراضي لمسلكيتها في التسيّد والاستيطان المعرفي بجدوائيتها في الانتشار وأحقيتها في التمكن من عقولنا وصلاحيتها في كل الأزمنة..
محمود كرم ـ كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط