أتحدى أن تكون هذه الفتاة سعودية الأصل! هذا ما يقوله أكثر السعوديين عندما يصعق بوجه فتاة سعودية سافر، وبصوت ثائر على أغلال الدين والعادات. قطاع عريض من صغار وكبار على أتم الاستعداد، وربما الحلف بأغلظ الأيمان أنها ما هي بسعودية ولكن شبه لنا. السعودية الأصيلة لا تغني، ولا تجلس وراء المايكرفون، ولا تقف وراء كاميرا التصوير، ولا تركب حصاناً، ولا تقود سيارة سباق، ولا تحلق فوق السحاب، ولا تقف وراء منتخبها الوطني في المدرجات، و...و. بنت القبائل العريقة والحمائل الكريمة لا تقفز فوق أسوار العيب العالية، ولا تغرق أهلها في مستنقع الفضيحة. لا يحتاج الكثير منا إلى جهد خارق لغسل العار، ولتطهير ثوبه الناصع البياض من الدنس. يكفيك أن تقول: إنها ليست بسعودية لتنفيها وراء الحدود، ولتحافظ على نقاءك الثقافي والاجتماعي والديني.
ليست الفتاة وحدها من تجرد معنوياً من هويتها الوطنية. هناك أيضاً الشاب الذي يقفز من فوق جدار العيب والحرام سرعان ما تلتف حوله علامات التعجب والاستفهام: هل هذا يا جماعة الخير سعودي؟! قبل شهور قليلة امسكت السلطات السعودية بشاب بتهمة اعتناق المسيحية. كتب مصاصو الدماء مطالبين بتوقيع عقوبة القتل بحقه. أحدهم علق ساخراً بقوله: "ها ها ها...دققوا في وجهه وفي شاربه جيداً. إنها سحنة هندي وليست بسحنة سعودي. السعودي الحق لا يتنازل عن اعظم هبة منحه الله بها وهي الإسلام". ألم اكتب مرة أن الشعوب اكثر أصولية وتطرفاً من حكوماتها؟ ألم أكتب مرة أن الأعمال العظيمة في عالمنا العربي تتحقق بالكلمات البسيطة؟ نقول للهزيمة: كوني نصراً... فتكون. نقول لعار التاريخ: كن مجداً...فيكون. نقول لمن يرتدي ثوباً لا يشبه ثيابنا: لست بسعودي...فيكون. حسبك أن تقول للشيء في أرض الخرافة والأساطير: كن فيكون!
في مجتمع القبيلة لا يسمح للفرد بالخروج على إجماع القبيلة. لا يسمح للفرد له أن يحمل ملامح فريدة تتنافر مع ملامح القبيلة. التمايز ينتج الفرقة والتنابذ، بينما التجانس يمتن اللحمة والتوافق. في مجتمع القبيلة تتشابه السلوكيات، والأزياء، والكلام، والأكل والشراب، والأفكار، والأذواق، والأحلام والآمال. انظر إلى بدوي اليوم وبدوي الأمس. هل تجد من اختلاف بينهما في الأفكار والعادات والأذواق؟ البدوي يبجل ماضيه، ويقدس اسلافه، ولهذا يمضي على درب أسلافه ولا يحيد. إننا لو غسلنا مساحيق الحضارة واصباغها عن وجوهنا فسنجد القبيلة تستوطننا والبداوة تعشعش فينا. تحت جلد هذه القبلية يسكن ديكتاتور مخيف، لكننا لا نراه. دكتاتور يحكم بالطرد والنفي، وربما يستبيح دم من يخرج عن القطيع. إذا كنت طويلاً وباقي أفراد القبيلة قصار القامة، فسيضربونك حتى تكون قصيراً مثلهم. ولو كنت قصيراً وباقي افراد القبيلة طوال القامة، فسيضربونك حتى تكون طويلاً مثلهم.
لا يحق لك في مجتمع القبيلة أن تحلق خارج السرب. إن لم تعبد ربهم الأوحد، فأنت كافر. وأن لم تتبع مذهبهم الأوحد، فأنت ضال. وإن لم تلبس مثلهم، فأنت متأمرك مستلب. وإن لم تسمع فنانهم، فأنت عديم الذوق. حدثني مرة صديق أنه اضطر بسبب سخرية أصدقائه اللاذعة له لسماعه الفنانة اللبنانية "ماجده الرومي" الغريبة بكلماتها وبصوتها وبموسيقاها على آذان رفاقه أن يستمع لها سراً حتى يتخلص من انتقادتهم البلهاء! هذا الصديق افضل حالاً من كثير أعرفهم، يسايرون ما هو سائد في المجتمع من سلوكيات وأذواق وافكار حتى لا يشعروا بالاغتراب النفسي، أو أن يكونوا محل تندر الآخرين، كما كان صديقي هذا.
استبداد المجتمع وانانيته لا يؤدي إلى تمييع وإلغاء السمات الفردية للأشخاص فحسب، بل أنه يسهم دون قصد في خلق طبقة من المنافقين والمرائيين. إن حاجة المرء الفطرية للانتماء وخوفه من النبذ والإقصاء تضطره إلى محاباة التيار العام وتملقه ولو على حساب قناعاته الذاتية. إن واقعنا المعاش مليء بحالات كثيرة أدت وبكل أسف إلى انتاج نماذج بشرية مشوهة ومنافقة. إليك شهر رمضان كمثال حي. من المؤكد أن هناك من المسلمين، سعوديين وغير سعوديين، لا يعترفون بالصوم ولا بالصلاة، ولكنهم بسبب تعنت المجتمع ومغالاته في تطبيق الصيام ولو بالقوة على الجميع مضطرين إلى ممارسة نوع من التقية، ليس خوفاً فقط من الجلد والحبس، بل حتى خوفاً من اغضاب المقربين لهم. وكمثال آخر، لاحظت أني شخصياً عندما أبادر شخصاً بعبارات تحية، ك "صباح الخير" او "مساء الخير" فإنه لا يرد لا بمثلها ولا بأحسن منها، رغم أن هيئته لا توحي أنك تقف أمام مطوع أو ملتزم. أما لو بادرته بتحية الإسلام وتحية أهل الجنة "السلام عليكم" فإنه سرعان ما يرد علي ب "عليكم السلام"، وربما زاد عليها. من الجائز أنه لا يشتهي أن يرد على أي نوع من التحايا، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل تحية الإسلام وتحية أهل الجنة لئلا يعرض نفسه وايمانه للشكوك والأسئلة.
وهناك ما هو أسوء من استبداد هذا المجتمع وتسلطه ألا وهو التمييز ما بين من يصنفون بالخارجين عن النسق الثقافية والفكرية النمطية المتعارف عليها. أي أن مجتمع القبيلة لا ينتهج ما يعرف بالإستبداد العادل بين مكوناته واطيافه. إذ أنه من الملاحظ أن المجتمع يصاب بحالة من الهياج عندما يتعلق الأمر بإمرأة تخرج عن حدود النص التقليدي المكتوب لها، أو بشخص يتجرأ بفكره ونقده على انتهاك التابوهات الاجتماعية والدينية. حالة من الهياج والانفعال تتراوح في حدها الأدنى بين تسخيف الآخر واغتياله معنوياً إلى تكفيره والتحريض عليه في حدها الأقصى. أما إذا كان الأمر يتعلق بإرهابي تجرد من عقله وقلبه، وحول جسده إلى اصبع ديناميت قابل للانفجار، فإن أحضان المجتمع تبقى مفتوحة له وأبوابه تظل مشرعة له شرط أن يطلق منهجه التكفيري والتفجيري.
لا تسمع أحد يضحك ساخراً: ها ها ها هذا ليس بسعودي. ولا تسمع أحد يتجرأ على وصفه بالإرهابي (ظل الإعلام السعودي وإلى قبل محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف يسميهم بالفئة الضالة دون وصفهم بالأرهابيين). تخاف أحياناً أن تقول هذا إرهابي لعين وقذر لأنّ هناك أناساً ستنبري مدافعة عنه، أو مبررة له مرة، باسم البطالة وغلاء المعيشة ومرة باسم التمدد العلماني (...) ومرة باسم الجرائم الأمريكية والاسرائيلية، وهلم جرا. كثيراً ما تسمع كلمات، مثل: هداهم الله واصلحهم...لا تقسون عليهم يا جماعة...يجب أن نستمع لهم ونتفهم حاجاتهم...وما إلى ذلك. إن كلا من المجتمع والحكومة، مع الاعتراف ببراعة الانجازات الأمنية، مازالا يمنحان تلك القطعان الوحشية الإسلاموية شيئاً من العطف، ويظهران لها شيئاً من التودد والقبول. ألا ترى أنهم يمنحون التائب العائد من الإرهابيين القتلة بيتاً وعملاً ومالاً وربما زوجة؟ هل سبق أن سمعتم أنهم منحوا علمانياً أو ليبرالياً تائباً بعض ما يكافأ به الإرهابي المعتزل؟ لا اخفيكم سراً أنني كعلماني على باب الله اغبط هذا الإرهابي العائد الذي لم يفز بالشهادة وفاز بالمال والوظيفة والمنزل والزوجة، فطوبى لبني علمان!
affkar_hurra@yahoo.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط