جوزيف بشارة
/
Oct 26, 2008
ارتفعت في الأيام الأخيرة أصوات متطرفة كثيرة تبرر عمليات الاضطهاد الوحشي والتهجير القسري التي يتعرض لها المسيحيون في العراق. وتتوعد الأصوات المتطرفة المسيحيين بالمزيد من العمليات بغرض القضاء نهائياً على كل وجود المسيحية في بلاد الرافدين. تعبر الأصوات المتطرفة هذه عن رؤى مجموعات متأسلمة كبيرة تنفذ بهمة مخطط تفريغ العراق من مسيحييه الذي يعد المرحلة الأولى من المخطط الأوسع الذي يشمل القضاء على الوجود المسيحي في بلاد العالمين العربي والإسلامي. لم تتم مواجهة هذا المخطط المشئوم حتى الآن رغم مضي سنوات على بدء الإرهابيين العمل على تنفيذه، ورغم التحذيرات التي لم يتوقف المهتمون بحقوق الإنسان عن التحذير من أثاره المدمرة على التعايش المشترك بين أتباع الديانات والطوائف المختلفة في بلادنا. ومن المؤسف أن يعتمد الإرهابيون في تنفيذ مخططاتهم على تجنيد الشباب المسلم بعد إخضاعهم لعمليات غسيل مخ تتم عبر تزويد الشباب بمغالطات ومعلومات كاذبة.
من المثير أن المتطرفين يصنعون المغالطات التي تحول الإرهابيين إلى ضحايا ويفبركون المعلومات الكاذبة التي تجعل من الحملان ذئاباً ثم تجدهم بغرابة شديدة يصدقون مغالطاتهم ويدافعون عن أكاذيبهم باستماتة كما لو كانت حقائق. الأمثلة على صناعة المغالطات كثيرة ومتنوعة. يدّعي المتطرفون على سبيل المثال أن المسيحيين العراقيين يتحالفون مع حملات التبشير التي تقودها قوات الاحتلال الأجنبية. ويزعم المتطرفون في مقالات تستخدم لغة غير مهذبة وتنتشر على مواقعهم الإلكترونية العديدة بأن الحملات التبشيرية الأمريكية وجدت صدى كبيراً بين الغالبية العظمى من مسيحيي العراق حتى أن عشرات الألاف منهم باتوا يتفرغون تماماً لمساعدة المبشرين في حملاتهم ضد مسلمي العراق في مقابل تلقيهم ملايين الدولارات.
لست أعتقد أن عاقلاً يمكنه أن يصدق هذه الهراءات، إذ هل يعقل أن يقوم عشرات الآلاف (!!!!!) من المسيحيين بتنفيذ المخطط التبشيري الأمريكي في الوقت الذي لم يعد يتجاوز فيه عدد المسيحيين المتبقين في العراق ثلاثمائة ألفاً. ومن ناحية أخرى يعد انخراط المسيحيين العراقيين في أنشطة تبشيرية غربية أمراً غير معقول لأن عقيدتهم تختلف تماماً عن عقيدة المبشرين الغربيين. نعم هم جميعاً مسيحيون ولكنهم يختلفون تماماً كما يختلف المسلمون السنة عن المسلمين الشيعة. وإذا كان الإرهابيون يظنون أن مسيحيي العراق يمكنهم التبشير بعقيدة الغرب، فهل لهم، وهم الذين ينتمون إلى العقيدة السنية، أن يطلعونا عن مدى قدرتهم على الدعوة للعقيدة الشيعية؟
من المغالطات الأخرى التي يغرسها المتطرفون في عقول المجندين المسلمين الادعاء بأن المسيحيين يخونون العراق عبر التعاون مع قوات الاحتلال الأجنبي. لم أجد ما هو أسخف من هذا الاتهام الباطل لأن المسيحيين في العراق لم يتعاونوا أبداً مع المحتل ولم يقبلوه وصياً عليهم ولم يخضعوا لحمايته التي لم يوفرها لهم من الأصل. فالقوات الأمريكية أصرت على ألا تقيم أيّ شكل من العلاقات مع المسيحيين حتى تضمن ما هو أهم لها وهو الحفاظ على علاقات جيدة مع الطرف المسلم الذي يشكل الأغلبية العظمى في العراق. ولو كان المسيحيون أقاموا علاقات قوية مع القوات الأمريكية لوفرت لهم الحماية الأمنية اللازمة ضد اعتداءات المتطرفين الإسلامين ولضمنت لهم تمثيلاً في المجلس التشريعي وفي المناصب السياسية.
إنها مأساة ما بعدها مأساة أن تكون هناك عقليات مريضة كهذه تعيش بيننا وتفرض مخططاتها على شعوبنا وتهدد مستقبل مجتمعاتنا وتفتت وحدة أوطاننا. يقول الإرهابيون العراقيون الذين يرتكبون العمليات الإرهابية والتي يسيئون بها للإسلام إساءة ما بعدها إساءة إنّ مختلف الطوائف والكنائس المسيحية العراقية متورطة في حملات التبشير المكثفة الموجهة للطعن في الدين الاسلامي، وأن القساوسة العراقيين يقومون باستغلال معاناة المسلمين، من أهل السنة تحديداً، في المناطق المنكوبة والمحاصرة من أجل ردتهم عن دينهم تحت وطأة الحاجة والجوع والمرض. ويدعي الإرهابيون أن المسيحيين العراقيين يقومون بسب المسلمين ودينهم ويتطاولون على مقام الرسول جهاراُ ومتى أتيحت لهم الفرصة التي يصفها المقال بأنها سانحة.
تُرى كم علامة تعجب يجب أن نضعها خلف مثل تلك الاتهامات الكاذبة؟ من الملاحظ أن الإرهابيين يستخدمون تعبيرات مثل الغالبية العظمى من المسيحيين أو مختلف الطوائف والكنائس للتشكيك في وطنية وولاء المسيحيين من دون استثناء وللتأكيد على رغبتهم القاطعة في القضاء على الوجود المسيحي في بلاد الرافدين. ودعونا هنا نتساءل عن السبب الحقيقي وراء ما يقول الإرهابيون بأنه معاناة المسلمين السنة في العراق. أليس السبب هو الإرهاب الأعمى الذي يمارسه بعضهم والذي يسيء إليهم ويتسبب في إلحاق الأذى المعنوي والمادي بالطائفة السنية بكاملها. الأمر واضح تماماً فليس للمسيحيين أية علاقة بأوضاعهم التي يشتكون بسببها.
يمضي أرهابيو العراق في كيل المزيد من الاتهامات الكاذبة للمسيحيين العراقيين الأبرياء الذين يكشف تاريخهم في بلاد الرافدين عن مدى عمق العلاقة التي تمتعوا بها مع إخوتهم المسلمين قبل أن يتغلغل الإرهابيون بين قبائل وعشائر المسلمين زارعين في قلوبهم الحقد الأسود والعنصرية البغيضة. يزعم الإرهابيون أن المسيحيين العراقيين يقومون باختطاف أيتام المسلمين وبيعهم لمنظمات تبشيرية غربية تعمل بتواطؤ من الحكومة العراقية على ترحيلهم إلى الخارج. من المؤكد أن صانعي هذه الكذبة قد فقدوا بصيرتهم فلم يعودوا يفرقون بين الظلام والنور أو بين الباطل والحق أو بين الإرهابيين الحقيقيين الذين يهددون ويخطفون ويروعون ويقتلون والمواطنين المسالمين الذين يتجرعون بصبر وطول أناة كأس الاضطهاد المرير الذي لا يبدو أنه سيفرغ قريباً.
أما المغالطة الأخطر التي يوجهها إرهابيو العراق للمسيحيين فتقول بأن المسيحيين العراقيين يعملون على تمزيق العراق عبر محاولة إنشاء دولة مسيحية تكون عاصمتها نينوى. غير أن الإرهابيين سرعان ما يناقضون أنفسهم بكذبة أخرى حين يزعمون بأن قادة المسيحيين بمساعدة قوات الاحتلال الأمريكي يدعون إلى طرد المسلمين من العراق حتى تهدم الكعبة بمكة وينبش قبر الرسول. ويدّعي الإرهابيون بأن المسيحيين العراقيين يتنكرون لـ"أصلهم العربي" ويتبرأون من "لسانهم العربي" حتى صاروا أشد قسوة على المسلمين من بني صهيون. الأكاذيب هنا جلية للعين غير العمياء، إذا كان جميع العالمين المختصين، ربما بمن فيهم رجال علوم الاجتماع وعلوم اللغة وعلوم الإنسان، يقرون بأن أصول المسيحيين العراقيين غير عربية، إلا أنه أبداً لم يتنكر المسيحيون للعراق، ولم يعلنوا استقلالهم عن بلدهم الذي يسري حبه في دمائهم. ثم أن المسيحيين لم يرتكبوا أبداً خطيئة تمزيق العراق التي ارتكبها الإرهابيون السنة الذين أعلنوا قبل سنوات تشكيل "الإمارة الإسلامية" في الأنبار قبل أن يفقدوها لمصلحة قوى سنية معتدلة. أما فيما يتعلق بمطالبة المسيحيين طرد المسلمين من بلدهم فلست أعتقد بأن عاقلاً سيؤمن بأن ثلاثمائة ألف مسيحي قادرون على طرد نحو ثلاثين مليون مسلم من العراق. ثم ما هي العلاقة بين المسيحيين العراقيين ومكة وقبر الرسول الواقعين في السعودية؟
أليست كل هذه الاتهامات مغالطات وأكاذيب؟ بالتأكيد الاتهامات ما هي إلا مغالطات مكشوفة وأكاذيب مفضوحة. ولكن هل هناك أحد يمكنه تصديق كل هذه الاتهامات الكاذبة؟ نعم من المؤسف أن من فقدوا بصيرتهم ومن تم تغييب عقولهم ومن يسيرون على طريق الإرهاب الأحمق يمكنهم تصديق ادعاءات الذئب رغم وضوح جريمته ورغم آثار دماء فريسته التي تلوث أنيابه ومخالبه. كيف يمكن التعامل مع صانعي كل هذه الأكاذيب؟ وكيف يمكن الحد من تأثيرهم على عقول الشباب المسلم؟ لست أرى طريقاً معيناً، المستقبل يبدو داكناً لأن كل الطرق تبدو قابلة للفشل مع من باعوا ضمائرهم.
القضية كما نرى ليس لها علاقة باتهامات جادة تدعمها أسانيد. القضية كلها تتعلق بالحقد والكراهية اللذين تكنهما الجماعات المتطرفة للمسيحيين وبالرفض القاطع الذي يبديه الإرهابيون للوجود المسيحي في العراق وفي بلدان العالمين العربي والمسيحي. ولكن هيهات وليعرف من يمارسون أبشع أنواع التطهير العرقي في العراق أن المسيحية قاست ما هو أقسى من اضطهادهم وما هو أشرس من مخططاتهم، ولكن أياً من هذه الاضطهادات أو تلك المخططات لم تنجح في القضاء على المسيحية في أية بقعة من بقاع العالم. إنه درس ليت ذئاب العراق يعونه. أمّا بالنسبة لمسيحيي العراق فيجب عليهم أن يحتفظوا بثقتهم بأنفسهم وبإيمانهم بعدالة قضيتهم وبحبهم للعراق ولإخوانهم المسلمين. وليدرك كل مسيحي عراقي أن تضحياتهم لن تضيع هدراً. لقد علمتنا المسيحية أن التضحية تقود دائماً إلى الخلاص وعلمنا التاريخ أن التضحية تقود دائماً إلى النصر. وعليه فلن يسفك دم المسيحيين في العراق أبداً من دون خلاص العراق من الإرهابيين ولن يطرد مسيحي من منزله من دون نصر على قوى الظلم.
جوزيف بشارة
كاتب وباحث سياسي
josephhbishara@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط