لماذا كل هذه التعبئة الشعبية من أجل غزة دون باقي المناطق المنكوبة بالموت والخراب والدمار عبر العالم العربي؟ لماذا عقدت المؤتمرات، وسيرت المظاهرت، وجمعت التبرعات من أجل غزة الجريحة وتركت الجراح الراعفة الأخرى هنا وهناك؟ لماذا سالت الأقلام، وصاحت المآذن، وصالت الفضائيات من أجل غزة دون أخواتها النازفات في مشارق ومغارب أوطان العرب؟ لماذا نفتح العينين على غزة بالكامل، ونغمض أحداهما على العراق، ونغمض الاثنتين على دارفور؟ ياله من ازدواج أخلاقي ونفاق سياسي، ولكننا لا نشعر أبداً أن في قلوبنا مرضاً، وفي آذاننا وقرا! لقد نجحت غزة لوحدها في استثارة الأحاسيس المازوخية المتورمة عن العرب والمسلمين لأنها حوت على كامل شروط صناعة المأساة عند هذه الشعوب. فما هي تلك الشروط يا ترى؟ إنها تتلخص في ثلاث كلمات لا غير: المكان، وهوية القاتل، وهوية المقتول.
المكان:
غزة، جزء من أرض فلسطين، الراقدة فوق طبقات سميكة من التراث الديني والأساطير العريقة، والمسرح الذي تبادلت فوقه الأديان الثلاث الكبرى العناق حيناً، وتبادلت فوقه الضربات أحيان أخرى. وغزة، امتداد للتراب الفلسطيني ذي العبق التاريخي والديني الساكن في وجدان العرب والمسلمين منذ اشراقات النبوة المحمدية إلى انطفاءات الهزائم العربية الكبرى. أما باقي الأوطان العربية فلا تملك كل هذا البهاء الديني ولا هذا الثراء التاريخي الذي يعشق ذاكرة العرب والمسلمين.
فإذا كانت فلسطين أرض الأنبياء وأولى القبلتين وثالث الحرمين، فالعراق، مثلاً، أرض القلاقل والفتن ومطلع قرن الشيطان كما ينسب عن النبي محمد وغيره من أعلام تاريخية. وأما دارفور المسكينة فتلك أرض بعيدة ومنزوية، أرض تحاصرها الرمال والنسيان والموت، أرض لم يسمع بها أحد من قبل إلى أن أماط الإعلام "الغربي" النقاب عن جرائم الإبادة الوحشية والعنصرية التي يمارسها البشير وأتباعه هناك.
القاتل:
تلعب هوية القاتل دوراً لافتاً في تأطير مواقف العرب والمسلمين، وفي صياغة ردود أفعالهم وذلك بمعزل عن آهات وعذابات الضحية. فعندما قامت اسرائيل بضرب غزة، لطم العرب والمسلمون خدودهم، ونثروا التراب فوق رؤوسهم، وبكوا بكاءً مريراً. هل هذا حزناً وكمداً على تلك النفوس البريئة والأجساد الغضة التي دفعت حياتها ثمناً بخساً للنزوات الثورجية لعصابة حماس الإرهابية؟ بالتأكيد لا، فكرامة الحجر لدينا أسمى من قيمة البشر، ثم أنه إذا ما مات لنا واحد انجبت بطون الغزاويات الصامدات بدلاً منه عشرا، وفوق هذا كله فالحياة الدنيا لا تساوي جناح بعوضة. أليس كذلك؟ ما أبكى قلوب العرب والمسلمين "المرهفة" هو أن العدو التاريخي اللدود اسرائيل هي من فعلت بهم هكذا.
أما في العراق فالقاتل إما إسلامي عدمي لا عقل له ولا قلب له، وإما صدامي الهوى بعثي الانتماء. هذه خمسة أعوام قد انقضت على تحرير العراق من طاغيته، ولا يكاد يمر يوم دون أن تمزق مفخخات الإرهابيين وأحزمتهم الناسفة أجساد العراقيين من سنة وشيعة، ومن دون أن يذرف العرب والمسلمون عليهم دمعة ساخنة. قد يبكون، ولكنهم يبكون فقط على شهيد الحفرة ورمز الصمود وضمير الأمة. يشاهدون بعيونهم الإرهابي المتلهف لمضاجعة حوريات الجنة وهو يفجر نفسه اللعينة وسط الأبرياء العزل، فيقولون: لا، المسلم لا يفعل هكذا عمل...إنها بالتأكيد امريكا اللعينة!
وفي دارفور، يمارس عرب الجنجاويد القتل اليومي، والتهجير القسري، والاغتصاب الوحشي ضد أهالي دارفور المساكين. ولكن كيف نقبل بروايات وبشهادات الغرب وباقي العالم المتحضر؟ كيف نصطف بجانب هؤلاء ضد أبناء جلدتنا؟ ألم يقل النبي محمد: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً؟ إذاً، فلتكن كل تلك الروايات كذباً، وكل تلك الشهادات زوراً. يكفي أن نقول لأنفسنا ليس هناك من مذابح، وليس هناك من تهجير، وليس هناك من اغتصابات، بل هناك مطامع غربية في كنوز دارفور النائمة تحت ترابها. وبالطبع، فليس هناك أهون علينا من صناعة الكذبة ومن ثم تصديقها، ولنا في الانتصارات الإلهية لحزب الله وحماس خير مثال!
المقتول:
لنتخيل أن الآلة العسكرية الإسرائيلية الرهيبة قد اجتاحت الضفة الغربية بدلاً من قطاع غزة. ترى هل سنعيش ذات السيناريوهات "الكربلائية" بما فيها من لطم ونواح وعويل؟ أشك في ذلك. لماذا؟ في الضفة الغربية تتواجد فتح العلمانية، بينما في غزة تتواجد حماس الإسلاموية. ولكن، ما علاقة هذا بموضوعنا؟ لا يجب أن ننسى أن العرب والمسلمين يخلطون دوماً بين هوية الحاكم والمحكوم. إن خبر ضرب عصابة حماس والتي كانت في الأصل مختبئة تحت الأرض سوف يتلقفه العربي والمسلم كما لو أنه اعتداء سافر على الإسلام والمسلمين. وبما أن المزاج السائد في المنطقة معبأ بنكهة أصولية نفادة فقد استقطب الاعتداء الإسرائيلي على القطاع اهتماماً وتعاطفاً قل نظيره، دون أن نغفل الجهود الجبارة التي بذلتها فروع حركة الأخوان المتوزعة في كثير من الأقطار العربية في تجييش وتحريك الشارع المحتقن لنصرة فرعهم في الأراضي الفلسطينية.
أما في العراق، فإن المشاعر تتمايز وتتباين كما تتلون لوحة أرض الرافدين الفسيفسائية. لا مكان للعواطف الإنسانية المجردة من الولاءات الدينية والطائفية والقومية لدى العرب والمسلمين إلا من رحم ربي. إن الانتماءات الدينية أولاً، ثم الطائفية ثانياً، ستحدد أي نوع من المشاعر التي ستتفاعل وتختلط بدم الضحية المقتول. إذا كان المقتول من الأقليات المقهورة والمحاصرة من صابئة وإيزيدية ومسيحية، فهؤلاء لا بواكي لهم، ولا أحد يعنى بشأنهم، بالرغم أنهم سكنوا العراق قبل أن تطأها حوافر خيول العرب قبل اربعة عشر قرن خلت. لاحظ، كيف يتهكم العرب والمسلمون على ديمقراطية الغرب وحقوق الإنسان بالتذكير دائماً بمجازر البيض ضد الهنود الحمر، دون أن ينظروا إلى ايديهم الملطخة بدماء تلك الجماعات الوادعة، والتي ساقها القدر للعيش داخل غابة متوحشة، اسمها الشرق الأوسط.
وأخيراً، فإن أولئك الساكنين في دارفور، فالبرغم من اسلامهم (لاحظ اني لم أقل بكونهم بشر مثلنا) إلا إن العرب الأقحاح والعنصريين ينظرون إليهم كما لو كانو حشرات حقيرة أو حثالة لا قيمة لهم في سوق البشر. هذا المشهد اللاإنساني لا يفترق كثيراً عن الممارسات الهمجية التي أدمنها أجدادنا وأسيادنا من خلفاء بني أمية وبني العباس، عندما جلبوا عنوة الأيدي العاملة من شرق أفريقيا للعمل بنظام السخرة في استصلاح وزراعة جنوب العراق، ومن ثم مد قصور الخلفاء والأمراء المرفهين بمحاصيل الأرض وثمارها الشهية، في ظل ظروف أقل ما توصف من أنها لا تليق بالحيوان حتى، الأمر الذي قاد إلى تفجر ثورات عارمة مثل ثورة الخشبية أيام الحكم الأموي وثورة الزنج أيام الحكم العباسي.
affkar_hurra@yahoo.com
=========
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط