ما أن تبدأ مدارك الإنسان بالتفتح على الحياة، حتى يشعرُ سريعاً، أن الحياة محكومة بجملةٍ من القواعد والتعاليم والموروثات والعادات والفروضات والاشتراطات، وكل ذلك بطبيعة الحال سابق على وجوده، ولا يملك في البدء تصوراً ذاتياً خاصاً حوله، وقد لا يملك ربما تبعاً لذلك إرادة مستقلة في قبوله أو رفضه، وأمام هذه المشهدية الدرامية يدخل الإنسان في صراع على مستوى الذات، بين ما يريدُ هو وبين ما هو مفروض عليه، وبين أن يختار أو يذعن، وفي مستوى آخر من الصراع قد يجد نفسه بين أن يفضّل هذا على ذاك، أو يفضّل ذاك على هذا، وهناكَ ممن لا يعرف مسبقاً أن عليه أن يملك وعياً خاصاً به وإرادة مستقلة به لكي يقرر ما يريد، وما لا يريد، وفي ظروف أخرى قد تنعدم عند الإنسان الإرادة والاختيار تماماً، حينما تنعدم أمامه الخيارات أصلاً بسبب بيئتهِ المحكومة مسبقاً ودائماً بطريق واحد وفكر واحد ولون واحد ونمط واحد واتجاه واحد، وفي هذه الحالة ليسَ أمام البعض سوى أن يندرج تحت ما يجده أمامه سانحاً ومتاحاً ومسموحاً ومعترفاً به، عملاً بمبدأ السلامة والطمأنينة فيما يجده بين يديه من شائع وسائد ومتاح، وفي مثل هذه الظروف يرتكنُ الإنسان للمستقبل الذي يحددهُ له غيره، أو يعتقدُ جازماً أن مصيره ومستقبله محكوم بالقدريات والغيبيات والماورائيات، فهي وحدها التي تملكُ الحق الكامل في صناعة واقعه واختياره ومستقبله..
ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان في أي مكان وتحت أي ظروف وفي أي مناخ بيئي ثقافي، هو الإنسان ذاته الخاضع والمستسلم والقابل بما يجدهُ أمامه، وبما عليه مسبقاً أن يؤمن بكل ما هو متاح وشائع وسائد أمامه، وأن يسير من ثمَّ في ركابه ويعتاد عليه ويدافع عنه، فهناكَ مَن يملك أن يواجه ذلك، وأن يرتهن لإرادته واختياره وتفكيره الحر فقط، إنه الإنسان المتحرر من خوفهِ، يواجه خوفه بإرادته العقلانية الصانعة لمصيره ومستقبله، ويواجه خوفه باختياره العقلاني لحريته وذاتيته، ويجد بؤساً مريعاً في أن يكون مرتهناً لواقع لا يملكُ أمامه الاختيار أو الرفض أو التغيير أو المقاومة، فيصنع من وعيهِ ماهيّتهُ التي يحددها لاحقاً على ما كان عليه مسبقاً، لا يستسلمُ للواقع الذي وجدَ نفسه فيه، لأنه أصبحَ يعي أنه واقع مفروض عليه، مفروض على اختياره الحر وإرادته ووعيه وحريته، وهو الواقع الذي يبدأ في تغييره تأكيداً على إنسانيتهِ، وعلى حقه الطبيعي في استخدام عقله واختيار نمط حياته وطريقة تفكيره، ويبحثُ عن ذاته في مخاضات التغيير، يبحثُ عنها في تجارب واقعه السابق، ويستثمرها في البحث والتفكير والاستنتاج والنقد، لا يتخشّبُ جامداً متجمداً في حالتهِ التي اندرجَ تحتها في السابق من حياته، بل يتجاوزها بالمواجهة والسؤال والتحدي والتغيير، ويعرفُ جيداً أن غده ومستقبله يكتبهُ وحده ويرسمهُ بطريقتهِ واختياره وحريته، وليس مكتوباً عليه، وتحديداً ليسَ بيد المجهول والغيبيات والقدريات، لأنه أخذ يعي أن الإنسان يصنع إنسانه في أعماقه بيده واختياره وتفكيره وإرادته، وكما يقول أحد الفلاسفة (إن الإنسان هو مستقبل الإنسان)، وليسَ القدريات والآخرون هما مستقبله، إنه الإنسان الذي يأتي إلى المستقبل مفعماً بقدرتهِ على التغيير والتجديد والعمل، ورهانه على المستقبل مشروطٌ برهانهِ على واقعيته وعقلانيته وإنسانيته الكاملة، وما هو واقع ماثلٌ أمامه الآنَ، هو في الحقيقة ما قرره أن يكون واقعاً، فواقعهُ هو ما قرره دائماً أن يكون واقعه، وليس ما قد يقرره الآخرون، وبما أن واقعه الذي وجد نفسه فيه في السابق من حياته، لم يكن من اختياره، فإن واقعه الآن يقرره واقعُ ما هوَ فيهِ من إرادة حرة وتفكير مستقل واختيار ذاتي حر..
وهكذا يمضي هذا الإنسان في حياته، يقرر واقعه ويتحمل مسؤولية قراره وواقعه ومستقبله، إنه يمضي حثيثاً في واقعهِ الذي صنعه بذاته، ملتزماً أمام ذاته بما صنعه وبما قرره وبما يريد أن يصنعه لها لاحقاً، أن تصنعَ واقعك الحر ويومكَ ومستقبلك، ذلك يعني أنكَ تصنعُ ذاتكَ الحرة، ومسؤوليتك وقرارك، ويعني أيضاً أنكَ تتحركُ في حدود الممكن الذي تصنعه بطريقتكَ وإرادتكَ وبما هو مناسب لحياتك، فالصانعون لذواتهم، صانعون ببراعة لواقعهم، والصانعون لواقعهم، صانعون مهرة لذواتهم الحرة، إنهم لا يحتاجون إلى الاعتماد على القدريات والماورائيات والفنتازيا والخيالات الحالمة، لأنهم متواجدون على قيد العمل والتفكير، وصانعون للحظتهم ويومهم ومستقبلهم، لا يجدون أنفسهم في أمل بعيد أو في أمنية عابرة أو في قدر مجهول أو في واقع متخيّل، بل يجدون أنفسهم في واقع يصنعونه بإرادتهم العقلانية الحرة لحظةً بلحظة، لأنهم يتلمسون الحياة، كما لو إنها تنسابُ في أعماقهم راكضة تنبض بالحيوية والتدفق، وكما لو إنها تجري في عروقهم دافقة بالحيوية والحركة والتجديد، لا ينتظرون من التاريخ أن يعيد نفسه، حتى لو كان ذلك يحدث على سبيل الافتراض، بل يجدون أن تاريخهم هو يومهم وهو غدهم الذي كان في الأمس بين أيديهم وفي نصب أعينهم، ولا يقتعدون في سرادق الندم مكبلينَ بالتأوهات والآهات والحسرات، لأنهم يعرفون أن الندم يأكل من إرادتهم الحرة، ويأكل من ذواتهم التي تعودت ألا تكترث بالعثرات والتوقفات والهنّات، إنهم يمضون في حياتهم متوثبينَ بالجديد من أفكارهم، وبالجديد من يومهم وغدهم ومستقبلهم الذي أصبحَ رهن إرادتهم واختيارهم وحريتهم، وأصبحَ رهن ما يحققونه لوجودهم ولذواتهم، فالإنسان الحر يعرفُ أن ما يحققه في حياته انتصاراً لذاته وواقعه ومستقبله، يساوي حتماً ما قد حققه لوجوده ولإرادته على مسرح الحياة، ولذلك هوَ يواجه البؤس والسخافة في الحياة بالتعالي عليهما انتصاراً حراً لأفعالهِ في صناعة ما هو جدير به أن يكون ملائماً لذاته ولاختياره ولحريته ولتفكيره ولطريقته وأسلوبه..
وما يفعله الإنسان الحر في حياته يعتبر نوعاً من الالتزام بما يريد أن يقرره لواقعه، إنه يلتزم حيال واقعه بما ألزم نفسه حيال ما يريد أن يكون في حياته، إنه يجد نفسه في هذا الالتزام يحقق إرادته الحرة، واختياره الحر، يصنع بهما واقع يومه وواقع مستقبله، يصنعهما بما بين يديه من ممكنات واقعية وبما يملكُ من إمكانات وتمكناتٍ ذاتية، لا يهرب إلى الأوهام، ولا يلوذ بالقدريات، ولا يستكين للغيبيات، بل يضع وجوده الفعلي على قيد الممارسة الواقعية لالتزاماته التي اختار لها الطريقة التي يريد أن يكون عليها، ولذلك هوَ ملتزم بطريقتهِ كالتزامه الذاتي الداخلي بأمل يصنعه بالعمل والتفاؤل والتوثب والتجدد، يبحثُ عن يقين الذات بالمزيد من يقين الالتزام، ولا يرتهن لهذا اليقين إلا ليجد نفسه مجدداً في بحث عن شكٍ جديد يقطع به يقينه ذاك التزاماً بالطريقة التي يريد أن تصل به إلى واقع أفضل، ومستقبل أجمل، هكذا هو الإنسان الحر، يمضي من اليقين إلى الشك، ومن الشك إلى اليقين، وما بينهما يتأرجحُ في مسافةٍ من القلق المتوثب الذي يدفع به نحو تفكير نقي خالٍ من التشويشات العائمة المُربكة والمُبهمة، ومن عتمة الموروثات السائدة، ومن استبداد الفروضات اليقينية المسبقة، إنه الإنسان في صورته التي أراد لها أن تكون من صناعته الحرة، خالية من رتوش الزيف ومن تشوهات الأقنعة الزائفة، ومتعافية من مساحيق الأضواء الباهتة ومتحررة من الأطر الهلامية والوهمية..
هذا الإنسان ينطلق من حقيقة كونهِ أنه على التماس واضح وحقيقي وعميق مع واقعه وتفكيره وإرادته واختياره وحريته، ومن غير هذه الحقيقة يجد نفسه تائهاً وعائماً ومشوشاً، إنه يكتسبُ من حقيقة ذاته المفكرة والتفكيرية والإرادية شعوره الدائم بوعي الواقع الذي هو في صدد صناعته وتحديده وتطويره، وهو في الأصل وعي الذات بالايقاع الشعوري الذي يدوْزنهُ انسجاماً حراً مع تطلعاته واختياراته ومعرفياته وأفكاره وحضوره الذاتي، ولا يتنفسُ وجوده ذاك إلا من خلال حريته التي يمارسها تجسيداً لأفعالهِ ولمستقبلهِ ولالتزاماته، إنه لا يستطيع إلا أن يجد نفسه في حريته التي يريدها أن تبقى على قيد الممارسة الفعلية الحضورية الواعية، وإذ يؤكد على حريته تلك، فليس إلا تحقيقاً للتأكيد على حرية كل إنسان في هذه الحياة..
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1996@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط