بسام درويش
/
Oct 20, 1992
اجتمعـا يتسـامران ويتجاذبان أطراف الحديث على ناصية شـارعٍ في ليلةٍ زاد من حدة برودتهـا ووحشـتها غياب نور القمـر.
قـالَ لهـا: أتتذَكَّـرين أيتهـا العزيزة أيام الخيـر والبركات؟...
وكيف تحسـبني أنسـاها يا صديقي العزيز، أجابت القطَّة. إنَّ كـلَّ يومٍ يمضي لا يأتي بعده يومٌ مثله. الأحوال تسوء بشـكلٍ غير معقولٍ أو مقبول، وأصبح لا بدَّ من عملِ شيءٍ لتصحيح الأمور. أذكرُ أنَّ وقوفي على عتبة دكان اللحـام الحاج عُمـر لم يكن في يومٍ من الأيام يطول أكثر من لحظات، يرمي لي بعدها قطعةً من اللحم، آكلها قرب الدكان دون حاجـةٍ للهروب بها خوفاً من منافسـة قطَّـةٍ أخرى عليها. في تلك الأيام كانت القطط كلها شـبعانة ومن عائلات محترمة، وكان الحاج عمر وغيره من اللحامين، يعتقدون بأنَّ الإحسان إلينا يفتح أمامهم باب الرزق ويجلب لهم الحظ؛ وفي الحقيقة، لم يكن اعتقاد الحاج في غير محلِّـه، لأني دائماً كنت أدعو له بطول العمر والرزق الوفير كي يبقى هو مصدرَ رزقي.
وعلَّـق الكلبُ بصوتٍ متقطِّع النبرات يعبِّـر عمَّـا في قلبـه من أســىً وقــال:
"لقد أصبحتُ كلباً عجوزاً.. رأيتُ الكثير وعرفتُ الكثيـر!.. صحيح أنَّ حياتنا هنا ليست بمستوى حياة الكلاب في أوروبا وأمريكا حيث ســمعتُ بأنَّ بعضهــم يعيش حياة رخاءٍ أكثر من بني آدم، ولكنني ولوجه الحقيقة أقــول إنني لم أشْـكُ من الجوع من قبل. كنتُ أعيش مدللاً في بيت يعمُرُ ليس بالمحبَّــة والحنان فقط بل وبالعظام أيضاً. آه.. سـقى الله أيـَّـام زمان يا صديقتي، كنتُ ألعبُ بالعظام لعبـاً إلى أن أتى ذلك اليوم المشـؤوم الذي أقبل فيـه معلِّمي بلباسٍ جديـد وقبعــةٍ غريبة الشكل على رأسه فودَّعني وقبَّـل رأسي قائلاً لي أنه ملتحقٌ بالجيش وأوكـل أمر العناية بي إلى أخته الصغيرة التي أهملت أمري بعد فترة ولم تعد تخرج بي للنزهة. تســلَّلت ذات يومٍ خارج البيت وأخذتُ أتنزَّه في الأحياء المجاورة، ولكني حين قررتُ العودة وجدتُ نفسي تائهاً والأولاد الصغار يرمونني بالحجارة، فهربت وابتعدتُ كثيـراً عن البيت. ومنذ ذلك الحين وأنا أنام خلال النهـار في المقبرة القريبة من هذا المكان، وفي الليل آتي إلى هنا أبحث بين أكياس القمامة عن شيءٍ آكله، وفي الصباح الباكر أنتظر صاحبك الحاج عمر ليرمي لي بعظمة آخذهــا وأعود بها إلى المقبرة.. ولكن أمـراً ما قد حدث فجأةً وانقلبت الأمور رأسـاً على عقب فـنـدر وجود العظـام حتى بين الفضلات. وتغيَّـرت معاملة الحاج عمـر تغيّـراً جذرياً؛ حتى اللحام الآخر في الحي المجاور أصبـح يركلني بقدمه كلَّما رآني. إنني لا أدري السبب وراء هذا التغـيّـر، ولا أشـكُّ أيتها الصديقة في أنـكِ أعلم مني بما يجري، فأنت بسبب مرونة جسمك تسـتطيعين تسلَّق الأشـجار ودخول البيوت من النوافذ المفتوحة والإطلاع على الأخبار من مصادرها، وكذلك فإنَّ الناس لا يخافون منك مثلما يخافونني مع أنني وقسماً بشــرفي لم أعض في حياتي إنساناً!..
صمتت القطَّـة لبضعة لحظاتٍ تفكِّرُ مليـَّـاً بما قاله الكلب الطيب ثم أجابت:
"لا تأسـفنَّ وحدك على ما لحقك من ضيمٍ وركـلٍ وتشـريدٍ يا صاحبي، فقد أصابني ما أصابك من العذاب. أنا كنت أيضاً ابنة عائلة محترمة ومعروفة، لكنَّ أمي رحمها الله خلَّفت الكثير من القطّات والقطط فاضطرَّت العائلة إلى توزيعنا على الأصحاب والمعارف. وفي كنف العائلة المالكة الجديدة تلقّيتُ من العذابِ أمـرَّه على يد أحد أطفالها الأشقياء الذي كـان يتسلى بمسكي من ذنبي ليدور بي كالمجنون ثم يرمي بي بعيداً. قررت أخيراً الهروب مفضِّلةً حياة الذل هذه عن تلك الحياة في كنف الظالم المستبد. أمـَّـا بالنسـبة لما ذكرته عن مرونة جسـمي فهو أمـرٌ صحيحٌ، فلولا تلك المرونة لما اسـتطعتُ أن أحصل على طعامي اليومي الذي أصبح يتطلَّب كفاحاً مريراً في هذه الأيام. ألم تلاحظ يا صديقي الازدياد الهائل بعدد السكان في هذه المدينـة؟.. ألا تــرى أيضاً كيف أصبحت وجوههــم كئيبـةً ومعاملتهم جافةً وشـرسـة؟.. أمّا ما هو أســوأ من ذلك فكونهم قد أصبحوا ينافسـوننا على البحث في أكيـاس وبراميل الزبالة. إني لا أمانعُ في أخذهم للثياب والأحذية وما شابه ذلك من الأمور التي لا حاجة لنا بها، ولكن أن يشـاركونا في فضلات الطعام فهـذا ما اعتبره اعتداءً صارخاً على حقوقنـا. إنني غالباً ما أقفزُ داخل برميـلٍ للقمامة لأجدَ فيه طفلاً أو طفليـن قد سـبقاني إلى البحث عن الطعام، وما أن يراني أحدهم حتى يضربني ويرميني خارجاً... أولاد الكـلـب!.. كأن المكـان ملك أبيهــم."
وهنــا بدت علامات الانزعاج على وجه الكلب، فاعتذرت القطة لجرح شـعوره وقالت: "لا تؤاخذني يا صديقي، إنهـا مجرد كلمة تعلمتهـا من بني آدم أسـمعهم يقولونهـا كثيراً، والحقيقة أنني لا أخفي عنك اسـتغرابي لاستعمالهم هذه العبارة، فأنا أعرف أنهـم يُعجَبون بك ويصفونك بالوفيِّ والشجاع والأمين، ومع ذلك فحين يريدون شـتم أحدٍ ما يقولون عنه أنه ابن كلب!.. ألا تعتقد أنهـم يستحقون بأن يُـدعوا بأولاد الكلب بسبب هذه الأعمال التي يعملونها معنــا؟"
ابتسم الكلب العجوز، فقد اعتـاد على مزاح صديقته القطة، إضافةً إلى أنه بحاجة ماسَّـةٍ لصداقتها، فبعد أن وُضِعَتْ هذه البراميل الكبيرة العاليـة على مفترقات الشـوارع أصبح البحث عن العظام أمراً صعباً للغاية، ولولا مسـاعدة هذه الصديقة الوفية لقضى أكثر الليالي يتضوَّر جوعـاً.
قـال الكلب: "إذاً أخبريني بما تسمعين.. ما الذي جرى حتى انقلبت الأمـور على هذا الشكل الذي نغَّص فيه عيشـنا؟"
أجابت القطة: "لقد سـمعت مراراً الناس يتحدثـون عن وحشٍ كبير تسربل بفروة أسد وغزا وعشيرته أرضهم وأشاع بينهم الرعب. أكـل خيراتهـم، فرض عليهــم الأتاوات، ونشر بينهــم جواسـيسـه ليطلعوه عما يقولونه عنـه أو عما يبيتـون له من مكائد، فنكَّد بذلك عيشهم وضيَّق عليهــم أمورهم وأفقر أحوالهـم فأصبح الحاج عمـر لا يستغني عن فضلات اللحمة التي ارتفع ثمنها بعد أن أصبح للذهن والعظام زبائن. سـمعتُ أحدهم يقـول أنَّ لا خلاص من هذه الأوضاع إلاَّ بموت الوحش.."
فجأة، صمتت القطة وهمسـت في أذن الكلب تطلب منه الحذر حين شاهدت شبح رجلين يسـيران على الرصيف من بعيـد. وقـال الكلب بصوتٍ هامسٍ: "لعلَّهما من أولئك الذين ينافسوننا في البحث عن الطعام؟" فهزَّت القطة رأسها بالنفي وقالت: "لقد أصبحتُ خبيـرةً بأحوال الناس. أنت تقضي نهارك بين القبـور، أما أنا فأقضيه بين الأحياء، أتسلَّى بدراسة أمورهم والإطِّلاع على شؤونهم.. هذان الرجلان ليسا إلاَّ من جواسـيس الوحش الذين لولاهم لما بقي حيث هو حتى الآن". فسأل الكلب متعجباً: "ولكن ما شأنهم فينا، إضافةً إلى أنهم لا يفهمـون شـيئاً من حديثنا!" فضحكت القطة وقالت: "يا لك من عجوز مغفَّـلٍ مسكين. إنهم ليسوا بحاجةٍ لسماع ما تقول.. فهم يدوسون عليك ويحطمون عظامك لمجرَّد الشـكِّ بك، ولذلك كن عاقلاً والزم الصمت إلى أن يبتعدا عنـَّـا."
قال الكلب بعد أن اختفى الشـبحان في ظلمــة الطريق: "قلتِ لي أيتهــا العزيزة في مطلع الحديث إنّ الأحوال تسوء بشكلٍ غير معقــول وأنه قد أصبــح من الضروري عملُ شيءٍ لتصحيح الأمــور. فهل تقتــرحين مثلاَ أن نرحل إلى أميركا ولا أقارب لنا فيهــا يساعدوننا للحصول على الغرين كارد.. أو هل أتسـلَّل إلى مقرِّ الوحش فأعضـه في ساقه وأصيبـه بمرض الكَــلـَبِ فيموت وأخلصهم منـه؟.. قولي لي بربِّـك.. ما العمل؟"
وكادت القطة أن تقع على قفـاها من الضحك لاقتـراح صديقها الكلب الخَرِف وقالت له: "الناس يأبون على أنفسـهم أن يقول العالم عنهــم بأنَّ كلبـاً قد أنقذهم من وحشٍ متسربلٍ بلباس أســد.. وقد يصيبـك منهم ما أصاب الراعي الذي أنقذ بنت الملك.."
"وما هي قصــَّة الراعي أيتها الصديقـة؟.." قال الكلب.
آنذاك نهضت القطة واقتربت منه تحكُّ جسـدها بجسـده وقالت له: تعال معي الآن ننتقل إلى مكانٍ آخر من المدينة يسكن فيه أناسٌ يأكلون اللحمة ويرمون بالعظام.. اتبعني ولا تبعد نظرك عني حتى لا تضيع في الزحمة.. هناك سأحكي لك القصص، ولكني أحذِّرك سـلـفـاً، ففي ذلك الطرف من المدينة عليك أن تضبط لسانك فلا تدعه يقول ما لا يقال، لأنّها منطقةٌ لا يسكنها إلاَّ جماعة الوحش الذين يتوفَّـر لهم ما لا يتوفَّر لغيرهم.. هناك سـنجد اللحم والعظام ولن يكون في البراميل منافسٌ لنا.
***********
*******
انتهت
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط