الشيخ الداعية السعودي محمد العريفي على أتم الاستعداد للذهاب إلى إسرائيل فيما لو طلبت منه صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية المجيء إليها. كان هذا عنوان تقرير صغير أعده الأستاذ سلطان القحطاني مراسل جريدة إيلاف الالكترونية بتاريخ ( 22 مارس، 2005 ). وكان الشيخ العريفي قد أعلن صراحة وعبر القناة الفضائية "المستقلة" استعداده للمضي إلى هناك لو وجهت إليه دعوة رسمية اقتداءً بنهج النبي محمد الدعوي. طبعاً، ليس لدي ذرة من الشك في أن الشيخ العريفي المعروف بحماسه المتدفق للإسلام سيكون أول الموقعين على قائمة الراغبين في السفر على مركبة الفضاء والمتجهة إلى كوكب زحل لو علم بوجود كائنات لا تشهد بإن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
شخصياً، قادني الحظ مرتين للاستماع إليه خطيباً في صلاة الجمعة. ففي واحدة منها، فتح النار على الغناء والمغنين الأحياء منهم والأموات. إذ لم يترك الشيخ الشاب أي آية قرآنية أو حديث نبوي أو حكمة أو قصة من (أسلحة الدمار الشامل) إلا وغرفها من بطون كتب التراث والسير للتنفير من الغناء وأهله. ولولا أن التقاليد الدينية الصارمة لا تجيز مقاطعة الخطيب ناهيك عن الكلام مع من يجاورك في الصف من المصلين لناقشته عندما جاء بقصة مغلوطة أثنى فيها على الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك لإنه قام بإخصاء مغنين. ويبدو أن الاسم قد التبس على شيخنا في رحلاته المكوكية من قناة فضائية لأخرى، حيث قال مرة في معرض هجومه الكاسح والمتواصل على المغنين أن الخليفة عبد الملك بن مروان هو من قام بإخصاء المغنين. لا أدري كيف لفعلٍ همجي ينم عن سادية وتجرد من الأخلاق والإنسانية من خليفة المسلمين وأمير المؤمنين أن يحظى بكل هذا الثناء والتقدير من الشيخ العريفي. وأتساءل باستغراب: هل انتزاع رجولة هؤلاء المغنين يكفي لغسل عار سليمان بن عبد الملك الذي كافأ فاتح الأندلس "موسى بن نصير" بالحبس والتشريد ومصادرة أمواله، ثم كافأ الشاب اليافع "محمد بن القاسم" فاتح بلاد السند والهند بالحبس والأصفاد والتعذيب حتى الموت.
ومما ورد في سياق التقرير أن هيئة كبار العلماء كانت تفكر ملياً بإطلاق فتوى تحرم ظهور العريفي تلفزيونياً. قد تظن لأول وهلة أن قرار الإقصاء جاء كردة فعل على تمرد محتمل من الشيخ على النص المقدس والخطوط الحمراء، أو لأنه جاء بأفكار جريئة تتجاوز بمسافات حدود الطروحات التقليدية للمؤسسة الدينية السعودية. السبب ببساطة شديدة: أن الشيخ العريفي وسيم. نعم! وسامة الشيخ ـ كما يراها كبار العلماء ـ باب لهبوب ريح الفتنة، وقانا الله وأيكم شرها، خاصة وأن جل جمهور الشيخ العريفي من النساء المتدينات. لا أجد نفسي مندفعاً لهضم هذه القصة، فهي أقرب إلى كونها إشاعة لا رصيد لها. وعموماً، سواء أكانت تلك حقيقة أم لا، فإنها تشي بحجم العذاب الذي يسببه الجنس كعقدة مستحكمة لدى المتدينين من الجنسين. وعلى ما يبدو فإن المرأة، الحلقة الأضعف، قد دفعت حريتها ثمناً غالياً لتلك الجروح الجنسية لدى الرجل. وبصراحة، لا أعرف كيف لدين يتسم بالقسوة والصلابة الظاهرية أن يتهاوى مثل بيت القش أمام انثناءات جسد أنثى أو وجه رجل جميل الطلعة إلا إذا كان مجوفاً من الداخل.
لندع وسامة الشيخ العريفي وجماهيره من الجنس الناعم المتحجبات جانباً، ولنتحدث عن رحلته المرتقبة إلى أرض الرسالات السماوية والأنبياء ومسرح الصراعات التاريخية والسياسية. تساءلت كثيراً ما الذي يريد أن يقوله شيخنا الجليل للإسرائيليين.
هل سيذهب إليهم مثلاً ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله عز وجل؟
يدرك الشيخ العريفي أن اليهودية هي أول الديانات التوحيدية بغض النظر عن ما يقال عن أن الديانة الأخناتونية (نسبة إلى أخناتون) في مصر كانت أولى إرهاصات التوحيد. وحتى إذا تجاوزنا ما يعرف عن تناقضات التوراة أو العهد القديم، وسطوها المتكرر على ميثولوجيا وثقافات الشعوب المجاورة، واستغراق كتابتها لقرون طويلة، فإن النزعة التوحيدية كانت هي الأكثر تأثيرا وطغيانا. ففي بدايات التكوين، خرج إبرام (إبراهيم فيما بعد) من أور الكلدانية، قاصداً بلاد كنعان أو فلسطين، وهناك عبد إله السماوات (إيل) دون باقي الآلهة التي كانت تموج بها منطقة الهلال الخصيب. ولكننا نجد دون سبب واضح بعد خروج اليهود من مصر بقيادة موسى أن (يهوه) صار هو الإله القومي. هبوط إيل وصعود يهوه لا يزعزع النزعة التوحيدية بشكل عام على الأقل بالنسبة لكتبة التوراة. أما بالنسبة للإله إيل فقد كان ذا شعبية عريضة بين شعوب المنطقة، وكان يعرف في جنوب الجزيرة العربية بالإله (سين) و(المقه) و(ود)، وفي شمال الجزيرة سمي بالإله (إل)، ومنها جاءت كلمة الله. نخلص من هذا أن إيل بخلفيته الوثنية البحتة كان هو القاسم المشترك للديانتين التوحيديتين اليهودية والإسلام.
إذا لم يكن القصد من الرحلة هو التبشير بالإسلام، هل سيحاول شيخنا إقناع اليهود أنهم جانبوا الصواب في اختيار فلسطين وطناً لهم، وأنه كان من الأجدى القبول بأوغندا الأفريقية وطناً بديلاً؟
حتى لو كان شيخنا يشعر بمرارة من زرع اليهود كشوكة في حلوقنا، ويلعن اليوم الذي أعطى فيه بلفور وعده المشئوم لليهود بتقديم فلسطين وطناً لهم، لكن ماذا عساه أن يفعل بركام من الآيات والمرويات التاريخية الإسلامية التي تصطف مع اليهود في زعمها أن الأرض الموعودة ـ أي فلسطين ـ قد اقطعها الرب لهم. إذ يظهر أن الرواة التاريخيين المسلمين، في تعاطيهم الساذج مع الأساطير والخرافات الإسرائيلية كما لو أنها مسلمات وحقائق تاريخية لا تقبل الشك والتمحيص والتدقيق، يطبقون ما يروى عن النبي محمد (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). ففي تاريخ اليعقوبي (اليعقوبي، دار بيروت للطباعة والنشر: 41-42) نقرأ جزء من وصية النبي موسى لخليفته يوشع بن نون يحرضه فيها بالدخول إلى أرض الكنعانيين أو فلسطين: "بين يدي بني إسرائيل سر وشد قلبك، فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض كنعان التي ورثهم الله" وفي مكان آخر من نفس الكتاب يقول الله (= يهوه) على لسان موسى: "لكم سأعطيكم البلاد الصالحة، وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم، وأظفركم بالجبارين والجرشين والأموريين والكنعانيين والفرازيين والحويين والنابلسيين، هؤلاء السبع الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد، فإذا ظفركم الله بهم فاضربوهم وارجموهم، ولا ترحموهم، ولا تعطوهم ميثاقاً، ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة، فيزيغون أولادكم عني فيعبدون إلها غيري.."
وإذا سلم شيخنا بحق اليهود في الأرض التي اقطعها الرب لنسل بني يعقوب مقابل عبادته، فهل يا ترى سيدعو شيخنا اليهود بالكف عن تهجير الفلسطينيين، وبناء المستوطنات، وبناء الجدار العازل، والإسراع بإطلاق السجناء، والتعايش مع نسل الكنعانيين بسلام ومودة؟
الشيخ العريفي كباقي رجال الدين يصر على الرجوع إلى القرآن والسنة في كل مسألة صغيرة كانت أم كبيرة، فإذا لم يجد الجواب الشافي انكب على التفتيش في ما حفظه التاريخ من كتابات وآثار السلف. المشكلة الكبرى أن تراثنا من القرآن إلى المؤلفات التاريخية ينظر بازدراء إلى أصحاب الأرض الأصليين من الكنعانيين، وينتصر للغاصبين اليهود ولملوكهم المغتصبين أمثال شاؤول وداود دون وجه حق. الكنعانيون في الكتابة العربية، والتي يتردد فيها أصداء الخطاب الديني والسياسي اليهودي، هم ذرية كنعان الذي لعنه وطرده نوح لإنه ضحك عندما انكشفت عورة أبيه وهو نائم (!)، وحكم على نسله بأن يكونوا عبيداً لسام الابن الأثير لنوح. باختصار، المؤرخون المسلمون في اعتمادهم الكامل على ما كتبه اليهود في أسفارهم لردم الفجوات التاريخية ما قبل الإسلام، لم ينحروا عقولهم فحسب بل أماتوا ضمائرهم وهم يتحدثون بإعجاب عن بطولات متخيلة وزائفة وجرائم وحشية لداود وسليمان ومن قبلهم يوشع بن نون ضد الكنعانيين والأقوام الأخرى. عموماً، الصمت المريب الذي مارسه التاريخ الإسلامي تجاه مذابح الكنعانيين على يد الأنبياء اليهود، مارسه من قبل تجاه حروب الإبادة التي نفذها النبي محمد بحق القبائل اليهودية القاطنة في المدينة وخيبر، فانظر كيف عاقبة الأمور.
أما إذا لم يكن أي من البنود الثلاثة ضمن أجندة شيخنا العريفي، فهل تراه سيذهب إلى هناك ليضع أصبعه على مواطن الأخطاء التي تعج بها التوراة؟
الشيخ العريفي يضج قلبه بإيمان قاطع بأن الكتب السماوية ما قبل الإسلام قد حرفت وبدلت وغيرت. هذا الإيمان العميق لم يكن نتاج الإطلاع على الدراسات الأركيولوجية والأثرية التي نسفت من الأصل تاريخانية العهد القديم، بل نتاج ما جاء على لسان محمد وما حمله القرآن. صحيح أن الإسلام والدراسات العلمية الحديثة تلتقيان عند نتيجة واحدة لكنهما يفترقان على مستوى الحيثيات والأسباب. المسلمون يعتقدون أن التوراة كلام موحى من السماء لكن الكهنة اليهود بدلوه وحرفوه عن مواضعه. أما الدراسات المعاصرة فهي تستنتج أن محرري التوراة قد ابتدعوا قصصاً خيالية، وابتكروا تاريخاً مزيفاً، وخلطوا بين الحقائق والأكاذيب، فجاءت التوراة بناءً غير متجانس القسمات وغير مترابط العناصر. المشكلة أن الاقتناع بعقلانية المبررات العلمية يهدد بشكل أو بآخر درجة الثقة بالقرآن ومصداقيته التاريخية أيضاً. لنأخذ مثلاً قصة سليمان النبي/ الملك.. لا تكاد تجد مسلماً يمنح عقله فرصة للتشكيك والتأمل في ما تحتشد به قصة النبي سليمان من عناصر أسطورية تتفوق وبمراحل على آخر ما توصل إليه مخرجو أفلام الخيال العلمي في هوليوود. مثلاً، لا أحد بالطبع يجهل أو ينكر قصة لقاء سليمان بالملكة بلقيس أو ما يغلفها من أجواء سحرية كما وردت في القرآن. الاختلاف ـ إن وجد بين المؤرخين المسلمين ـ ينصرف في الغالب إلى عدد مرافقي الملكة بلقيس أو أسم الرجل الصالح الذي جاء بعرشها لسليمان قبل أن يرتد طرفه. المثير في الموضوع كله، أن القصة برمتها لا تخرج عن كونها شطحات خيالية وفنتازية لمحرر السفر التوراتي، جعلته يخلق لقاءً مستحيلاً بين سليمان الذي يعتقد أنه عاش في الفترة ما بين القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد وملكة سبأ التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد.
لا شك لدي أن قضايا كبرى مثل العبادة، الأرض الموعودة، الكتاب المقدس، والعلاقة مع الفلسطينيين ستكون كلها أو بعضها قواسم مشتركة لأي حوار بين الطرفين. فالشيخ العريفي لن يذهب للنزهة أو لدعوة الإسرائيليات إلى الالتزام بالحجاب الشرعي وترك لبس البنطال كما يطالب نساءنا هنا، ولكنه سيذهب إلى بلاد "أبناء العم" لمناقشتهم في الكليات لا في الجزئيات. المشكلة أن تاريخنا وتراثنا وكتبنا التي يرجع إليها شيخنا في كل مسألة تتناغم مع ما جاءت به التوراة في مواضع كثيرة. لهذا كله أشعر وكأن من يقصد إسرائيل لمقاصد دعوية هو كمن يبيع الماء في حارة السقاءين. وشخصياً، لو كنت مكان شيخنا الجليل لما تجشمت عناء تلك الرحلة، وليممت وجهي شطر أفريقيا أو آسيا، فالناس هناك سرعان ما تستجيب إلى الإسلام مقابل خدمات صغيرة كحفر بئر، وبناء مدرسة، وتجهيز عيادة طبية. وإذا كان الشيخ العريفي يحتذي بالنبي محمد، فليتذكر أن الأخير أمضى سنوات دون أن ينجح في استمالة اليهود إلى الدين الجديد. وعندما لم تتكلل مساعيه بالنجاح الكافي تخلص من رجالهم وأولادهم البالغين بمذابح هائلة مبقياً على نساءهم وأموالهم. أكثر ما أخشاه على شيخنا أن يتصرف معه حاخامات اليهود على نحو غير لائق. إذ من المحتمل أن يطالبوه بتقديم اعتذار عن حروب الإبادة التي قادها النبي محمد ضدهم في الحجاز دون وجود مبرر تاريخي كافي يمكن الاعتماد عليه. أو ربما من المحتمل أن يتوقعوا أنه جاء لتقديم آيات الشكر والامتنان لدور اليهودية وإسهاماتها في صياغة الإسلام وبلورته يدءاً من توحيد العبادة للرب الواحد إلى رجم الزانية وتحجيب المرأة وممارسة الختان.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط