لو أن رجلاً منغولياً نادى بأملاك أجداده العظام من أمثال جنكيز خان وتيمورلنك في آسيا الوسطى والهند والشرق الأدنى لأثار ضحك الناس عليه وسخريتهم. ولو أن رجلاً إيطالياً طالب باسترجاع تركة الإمبراطورية الرومانية الواسعة في حوض البحر المتوسط وبلاد الشام لعده الناس مخبولاً وأودعوه أقرب مصحة عقلية. ولكن لو أن مسلماً كتب في مطبوعة، أو ذكر في خطبة، أو خرج عبر محطة فضائية متغنياً بمجد أجداده الغابر، أو حالماً بيوم تلتحف كل أصقاع الدنيا برايات الإسلام، أو مبشراً باستكمال مسيرة الفتوحات الكبيرة والمظفرة لنال كل الثناء والشكر، تقديراً لحماسته الدينية ولحسن إسلامه.
أتذكر شخصياً أثناء مرحلة الدراسة في الولايات المتحدة في منتصف التسعينات ثمة متأسلم باكستاني غريب الأطوار، خبزه الدين وحليبه السياسة. كان رجلاً لا يمل ولا يكل من شتم الأمريكان، والاستهزاء بحضارتهم البهيمية، والدعاء عليهم بأن يحل بهم ما أصاب قوم عاد وثمود ولوط.. كان لا يتردد بمناسبة وبدونها عن التبشير بانبلاج عهد خلافة جديد ـ ولو طال الأمد ـ ليطيح بالزعامات العربية العميلة، وليعيد رص صفوف المسلمين لهزم الأعداء الأوغاد اللذين لا يكفون ولو لثوان عن الكيد لنا وزرع الفتن بين الأخوة الأشقاء. وبالمثل لم يكن ليدع الفرصة تمر دون تأنيبنا ـ نحن العرب ـ على التآمر مع الإنكليز والفرنسيين على الإجهاز على الخلافة العثمانية وتفتيت وحدة المسلمين للأبد.
هناك (دوبليرات) كثيرة تشبه صاحبنا الباكستاني تتناسل مع مرور الزمن، وتنتشر كالطاعون بيننا، وتزداد حضورا وقوة كلما زاد الظلام، وازدادت الشقة بيننا وبين العالم المتحضر، وتراكمت الخيبات والهزائم. إنهم لا يملكون سوى الصراخ والأحلام المستحيلة. ولا يملكون الشجاعة الكافية لينظروا إلى وجوههم في المرآة، بل يسارعون إلى توزيع تبعية الهزائم على البسطاء المسلمين لبعدهم عن الدين وعلى العدو المفترض والمتربص بنا الدوائر.
مشكلة هؤلاء أنهم مصرون على أن الإسلام دين لا يقبل القسمة على اثنين، فهو الدين المثالي الصالح لكل زمان ومكان (يالها من كذبة؟!)، وهو الدين الذي ارتضاه الله للثقلين من الأنس والجن أما ما خلا من الأديان فهي باطلة وساقطة ومزورة، وهو الطريق السوي الذي يصل بصاحبه إلى جنات النعيم والباقي من الأديان طرق تنتهي بأصحابها ـ والعياذ بالله ـ إلى جهنم وبئس المصير. يتكلمون عن الإسلام بطريقة توحي ولو أن هذا الدين كائن غريب قد حط في الحجاز من كوكب بعيد، حاملاً معه كل الحلول لمشاكل الإنسانية وكل الأدوية لأمراضها المستعصية. وهم بذلك يجهلون أو يتجاهلون أن الإسلام بكلياته وأجزائه يحمل الكثير من آثار المسيحية واليهودية وما قبلهما من بقايا أديان وثنية.
ربما فهم المتأسلمون أن الإسلام ولكونه آخر رسالة سماوية فإنهم ملزمون بتبليغها إلى كافة البشر وإلا باءوا بغضب من الله. ثم أن هناك نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تشير إلى عالمية الإسلام وأنه ليس مجرد دين حجازي، فمن ذلك قول القرآن "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وقوله كذلك "وما أرسلناك إلا للناس كافة" وقول محمد "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا بأن لا إله إلا الله". مثل تلك النصوص توفر أرضية صلبة يعتمد عليها المتأسلمون في ضرورة توصيل الرسالة الإلهية إلى كل العالم حتى ولو اقتضى الأمر استعمال القوة لجعل كل من في الأرض يسبح بحمد الله.
هذه الأحلام الهائلة والفضفاضة والتي تُعَدُّ عند غيرنا علامات جنون وعندنا إشارات إيمانية ليست بمرض جديد ألم بالعقل المسلم المصدوم بتفوق الغرب الكافر ولكنه مرض قديم وأزلي عمره أكثر من أربعة عشر قرن. إن فترة الفتح الإسلامي (أو الغزو توخياً للدقة) وإن كانت تنطوي على دوافع اقتصادية لتعويض ما خسره العرب من تقوض طريق البخور بفعل الغزوات والسرايا المحمدية إلا أنها ـ ولو ظاهرياً ـ تقمصت ذات النصوص القرآنية والنبوية لتوفير الغطاء الشرعي اللازم.
لا أرى أن أحفاد اليوم يقلون عن طلائع الإسلام الأولى حماسةً وتطلعاً في تصدير الإسلام إلى أبعد نقطة على الأرض لكن ما ينقصهم ويحول بينهم وبين أحلامهم الإمبراطورية افتقادهم للسلطة السياسية والسلاح المتطور. قبل حوالي أربعة عشر قرن نجح المسلمون الأوائل في تحقيق انتصارات باهرة لامتلاكهم السلطة السياسية من جهة ولضعف وترهل القوتين العظميين وقتها، الدولة الساسانية والروم. أما اليوم فمن المؤكد أن مهمتهم شبه مستحيلة للتفوق الغربي الملحوظ ولعجزهم عن الوثوب إلى كراسي الحكم. و"الحمد لله" أن الأمر كذلك وإلا فسوف يغرق العالم في أتون حروبهم الدينية المقدسة.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط