ـ 1 ـ
في المرة السابقة تناولت وبشيء من التفاصيل ظاهرة التناص ما بين القرآن والديانتين اليهودية والمسيحية. لقد أبانت التشابهات التي تصل أحياناً لحد تقمص نفس الصيغ النصية الواردة في أسفار العهد القديم والجديد إلى مدى استفادة النبي محمد من القصص والتشريعات والتعاليم والأفكار في كتابة القرآن. هذه المرة، سنواصل الرحلة مع القمص زكريا بطرس للتعرف على فضل كل من الحنيفية، الصابئة، والفارسية أو الزرادشتية على القرآن.
ـ 2 ـ
الحنيفية:
للأسف لا يوجد تعريف جلي ومتفق عليه حول معنى الحنيفية، ولا لكيفية نشأتها، ولا إلى درجة التقارب والتنافر بينها وبين كلا من اليهودية والمسيحية. لغوياً، الحنيفية مأخوذة من حنف. وحنف تعني من خرج على المألوف والمتعارف عليه بين الناس. وحنف بمحتواها الديني تعني الخروج على دين الجماعة أو عبادة الأوثان. لا يعرف بالضبط كم حجم أتباع الحنيفية في جزيرة العربية قبيل وبعد مولد النبي محمد، ولكن تبقى هناك أسماء لامعة في التاريخ ذات ميول حنيفية بارزة مثل: عبد المطلب (جد النبي)، أمية بن الصلت، زيد بن نفيل، وزيد بن عمرو. ويتضح من استعراض أسماء المنتمين للحنيفية أنها طرحت نفسها كديانة نخبوية، كان أصحابها على درجة عالية من الرقي الروحي والصفاء الذهني والعمق الفكري.
إن قراءة سريعة لأهم أركان الحنيفية تكشف لك مدى التماهي ما بينها وبين الإسلام، لدرجة أنك تجد أن الإسلام لا يعدو أن يكون أسماً بديلاً للحنيفية أو امتداداً لها. فللنظر معاً إلى أركان الحنيفية ولك أن تقارن ما بينها وما في الإسلام: (المال والهلال: الموانع والدوافع الاقتصادية لظهور الإسلام، شاكر النابلسي، ط 1، دار الساقي، ص 117 ـ 118 ).
ـ الدعوة إلى التوحيد، ورفض عبادة الأصنام.
ـ حج البيت الحرام.
ـ إتباع الحق.
ـ المناداة بالإصلاح الاجتماعي والخلقي مثل شرب الخمر ولعب الميسر.
ـ التفكر في الكون والخلق.
ـ النهي عن وأد البنات.
ـ عدم أكل لحوم قرابين الأصنام.
ـ تحريم أكل الميتة.
ـ تحريم أكل الخنزير.
ـ الاغتسال من الجنابة.
ـ الاختتان.
ـ قطع يد السارق.
ـ تحريم الزنا وتنفيذ الحد بمرتكبيه.
ـ تحريم الربا.
إن قراءة سيرة النبي محمد في بداياته وقبل إعلانه النبوة تعكس عن توجهات حنيفية صميمة وسمت سلوكه وصاغت معتقداته، حيث كان يقضي أوقاتاً طويلة في كهوف مكة (ما الصلة بين كهوف مكة التي خرج من رحمها الإسلام وكهوف أفغانستان التي ولد فيها إرهاب بن لادن وتنظيم القاعدة؟) وبصحبة عدد من الحنفاء المتألهين كزيد بن عمرو والذي كان له دور بارز في التأثير على أفكار محمد. ويذكر القمص زكريا مقاطع من قصيدة لزيد بن عمرو حفظتها لنا (سيرة ابن هشام، ج 1، ص 219).
أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت الللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا هبلا أدين وكان ربا لنا في الدهر إذ حلمي يسير
ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها متى تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وان يموتوا يلاقوا ما تضيق به الصدور
القصيدة أعلاه تحمل قسمات الدين الحنيفي الذي صارت فيما بعد مرتكزات الدين الإسلامي وعناصره الأساسية التي تمحورت حولها الكثير والكثير من الآيات القرآنية. ومما تجدر الإشارة إليه أن الحنيفية حظيت بمكانة متميزة في القرآن، حتى أن الآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام" (سورة آل عمران: أية 19) كانت تقرأ في مصحف عبد الله بن مسعود : "إن الدين عند الله الحنيفية".
ـ 3 ـ
الصابئة:
تكسو الضبابية والغموض عوالم الصابئة (المندائيين)، ربما لسياج السرية التي يحيط أتباعها أنفسهم أو لعدم جدية من هم خارج هذه الديانة على فهمها بعقلانية دون انفعال. باختصار شديد، الصابئة طائفة عراقية تسكن منذ القدم البعيد ضفاف دجلة والفرات في جنوب العراق. "إن صحت العبارة، المندائيون أثر من آثار التاريخ الحية، فوجودهم يذكر بأنبياء ورسل نسخت الأديان المتعاقبة شرائعهم، ولم يبق منهم غير صحف نوح وإبراهيم. فقول المندائيين: إنهم أقدم ديانة سماوية على وجه الأرض، وإن كتبهم هي صحف سادة البشر الأولين: آدم وشيث وإدريس ونوح، يرفعهم إلى مصاف بدايات الأديان والشرائع الموحدة في التاريخ، والكل نحل من منحلهم، لذا من الصعب أن يعرف للصابئة المندائية مؤسس، وهذه الخاصية، التي ميزتهم عن اليهودية والمجوسية والمسيحية والمانوية والإسلام وغيرها من الديانات العالمية. وتشير روحانيتهما الصافية إلى فلسفة خاصة قد تنفي سفارة البشر بين السماء والأرض..." (الأديان والمذاهب بالعراق، رشيد الخيون، ط1، منشورات الجمل، ص 19ـ20).
ولقد أطرى القرآن على الصابئة في ثلاث مواضع متشابهة منها "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (سورة البقرة: آية 62). وعلى الرغم من هذا إلا تلك الطائفة المعروفة بوداعتها ومسالمتها لم تسلم من التعصب والأذى من أصحاب الأديان الإبراهيمية، وهو ما دفع بالكثير من أتباع هذه الديانة بالإضافة إلى أصحاب الديانات الأقلوية كالايزيدية إلى الهجرة إلى أمريكا وأستراليا وأوروبا.
أما ما أخذه الإسلام والقرآن من الصابئة، فيلخصه القمص زكريا في الأمور التالية:
ـ الصلاة خمس مرات في اليوم وفي أوقات متقاربة مع أوقات الصلاة بالنسبة للمسلمين. وقيل أنها سبع صلوات.
ـ الصلاة على الميت من غير ركوع ولا سجود.
ـ الصوم لثلاثين يوم في السنة، وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعة وعشرين يوماً.
ـ مراعاة الهلال عند الصيام. وصيامهم يبدأ مع الربع الأخير من الليل وينتهي مع مغيب قرص الشمس.
ـ تعظيم بيت الحرام في مكة.
ـ 4 ـ
الزرادشتية:
إذا كان الإسلام قد استوعب الطقوس والممارسات الحنيفية والمندائية لتكون محور السلوك اليومي للمسلم، فإن الزرادشتية ساهمت في تخصيب الخيال الأخروي وإثرائه في الإسلام. إن مفردات ومشاهدات اليوم الآخر مستوحاة من الزرادشتية، وربما لولاها لما نجح النبي محمد في اجتذاب كثير من المؤمنين. فما الذي استعاره نبي العرب محمد من النبي الفرس زرادشت، كما يبين لنا القمص زكريا؟
الإسراء والمعراج:
جاء في (سورة الإسراء: آية 1) "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". مصدر هذه الرحلة العجائبية هو كتاب الأساطير الفارسية (أرتاويراف نامك) والمكتوب باللغة البهلوية. تقول الأسطورة أن ديانة زرادشت بعدما أصابها الانحطاط في بلاد فارس، رغب المجوس في إعادة إحيائها بأن جاءوا بشاب من أهل زرادشت اسمه (أرتاويراف) فأرسلوا روحه إلى السماء بعدما وقع على جسده سبات. وكان الهدف من الرحلة السماوية أن يطلع على ما يجري هناك في الأقاصي ليعود ويخبر الناس به.
تعرج هذا الشاب من طبقة إلى أخرى بقيادة ملاك اسمه (سروش). ولما اطلع على كل شيء أمره (أورمازدا) وهو إله الخير الفارسي والذي يقابل الله العربي أن يرجع إلى الأرض ويخبر أهل الزرادشتيه بما شاهد. ومما يرد في كتاب أرتاويراف نامك "وقدمت القدم الأولى حتى ارتقيت إلى طبقة النجوم.. ورأيت أرواح أولئك المقدسين الذين ينبعث منهم النور كما من كوكب ساطع. ويوجد عرش ومقعد باهر رفيع زاهر جداً. ثم استفهمت من سروش المقدس ومن الملاك آذر (ملاك النار) عن المكان، عن الأشخاص..".
وورد في فصل 11 من الكتاب "وأخيراً قام رئيس الملائكة (بهمن) من عرشه المرصع بالذهب فأخذني من يدي وأتى بي إلى جوهر زرادشت السامي العقل والإدراك." وقال بهمن "هذا أورمازدا. ثم أني أردت أن اسلم عليه، فقال لي: السلام عليك يا أرتاويراف، مرحباً أنك أتيت من ذلك العالم الفاني إلى هذا المكان الباهي الزاهر. ثم أمر سروش المقدس والملاك آذر قائلاً: احملا أرتاويراف وأرياه العرش وثواب الصالحين وعقاب الظالمين أيضاً...".
الحور والغلمان:
جاء في (سورة الرحمن: آية 72) "حور مقصورات في الخيام". وجاء كذلك في (سورة الواقعة: آية 23) "وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون". وكما يكشف القمص زكريا فحور العين لسن من بنات أفكار محمد، بل أنها مستوحاة من الزرادشتية عن أرواح غادات تسمى في اللغة البهلوية "هور". ويبدو كذلك أن الهنود القدماء تخيلوا وجود نساء جميلات تنتظر في السماء العليا أرواح المقاتلين الذين حاربوا ببسالة في المعارك.
الجن:
كلمة الجن مشتقة من اللغة الفارسية القديمة، وهي موجودة في كتاب (افستا) وهو كتاب الزرادشتية المقدس بصيغة "جيني" ومعناها الروح الشريرة، ومنها انتقلت إلى العربية ومن ثم القرآن.
عزازيل (إبليس):
اتخذ النبي محمد قصة خروج عزازيل أو إبليس من الزرادشتية بعد إدخال بعض التعديلات وبعد مزجها بالحكاية التوراتية. وورد في (عرائس المجالس: ص 43) "أن إبليس أقام ثلاثة آلاف عام (!) عند باب الجنة بالأمل أن يضر آدم وحواء لامتلاء قلبه بالحسد". أما أصل القصة فموجود في "بوند هشينه: فصل 1،2" وتتلخص تلك القصة في أن "أهرمان" أي إبليس كان ولا يزال في الظلام غير عالم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وحريصاً على إيصال الضرر بالآخرين.. ولم يكن يعرف بوجود أورمازدا. وأخيراً طلع من تلك الهاوية وأتى إلى المحل الباهي (الجنة). ولما شاهد نور أورمازدا اشتغل بالأضرار.
نور محمد:
جاء في (روض الأحباب) أن النبي محمد قال: "لما خلق الله آدم وضع الله على جبهته ذلك النور، وقال: يا آدم إن هذا النور الذي وضعته على جبهتك هو نور ابنك الأفضل الأشرف، وهو نور رئيس الأنبياء الذي يبعث". ثم ظل هذا النور يسافر عبر الزمن متنقلاً من نبي لآخر، إلى أن وصل إلى جبين عبد الله بن عبد المطلب، ومن ثم إلى آمنة بنت وهب لما حبلت بمحمد.
مصدر القصة ـ كالعادة ـ مأخوذ من كتب الزرادشتية، وبالتحديد كتاب (مينوخرد) إذ جاء فيه "أن الخالق خلق هذه الدنيا وجميع خلائقه ورؤساء الملائكة والعقل السماوي من نوره الخصوصي". وتمضي الأسطورة الفارسية في ذكر أن هذا النور كان في أول رجل خلق على الأرض (= آدم)، ومنه انتقل من واحد إلى آخر بالتتابع.
الصراط المستقيم:
في القرآن "اهدِنا الصراط المستقيم" (سورة الحمد: آية 5). والصراط المستقيم هو جسر ممدود بين الأرض والجنة وعلى متن جهنم. وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، فيقع منه الكفار ويتساقطون في النار.
مرة أخرى، الصراط أصلها فارسي وليس بعربي، وهي تعني بالفارسية الجسر الممدود. (إذا كان العرب / المسلمون اليوم يستوردون منتجات الأمم الأخرى الاستهلاكية فإنهم كانوا في السابق يستوردون بالكامل عناصر الميثولوجيا والديانات من الأمم المجاورة!). وصف زرادشت الصراط بأنه يصل الجنة بالأرض. والعبارة التالية مستقاة من كتاب بهلوي اسمه (دينكرت: جزء 2، فصل 81،قسمي 5:6) "إني أهرب من الخطايا الكثيرة. أحافظ على نقاوة وطهارة سلوكي وإني أودي عبادتك لكي لا أعاقب بعقاب جهنم العارم، بل أعبر على الصراط وأصل إلى ذلك المسكن المبارك المملوء من العطريات والمسر والباهر دائما".
يتبع...
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط