معروف للقاصي والداني أن سوريّا، بعكس ما ادّعى البعثيّون، بلد تعدّدي دينيّاً وقوميّاً وفكريّاً: فسوريّا التي كانت على الدوام سرّة العالم القديم هي الوطن الأكثر غنى بالتعدّدية غير الطارئة في الشرق الأوسط كلّه؛ وهذه التعدّدية، التي تحاول دول الغرب المتحضّر استحضارها وإن بشكل غير تأصيلي، أكثر ما يميّز سوريا ـ ولبنان ـ عن غيرها من المحيط حضاريّاً. من هنا، فإن حماية هذه التعدّدية والدفاع عنها في وجه الأخطار الداخليّة والخارجيّة مسألة أساسيّة إذا ما أردنا لهذا الوطن الحضاري الإقلاع نحو عوالم الغد.
ومعروف للقاصي والداني أيضاً أن كليّة الشريعة في جامعة دمشق، التي هي كمؤسّسة رسميّة، تدار بنقود دافعي الضرائب من الشعب، كل الشعب، مقصورة على مساحة محدّدة من الطيف الديني الفكري العقائدي السوري: أهل السنّة والجماعة من المسلمين. إذن، إن المسيحي والعلماني واللاديني والملحد واليزيدي والمسلم من غير أهل السنة والجماعة يدفعون من قوت أولادهم، في ظرف اقتصادي مريع، ضرائب يذهب قسم منها إلى كليّة مقفلة في وجههم. وليت الأمر وقف عند حدود الإقفال: فهذه الكليّة، التي احتجّ كثيرون حين أسميناها وكر الإرهاب الأصولي، تشتم بأسلوب طائفي وقح كلّ أبناء الشعب عدا الطائفيين من أهل السنّة والجماعة؛ بمعنى أننا ندفع نقوداً لهؤلاء المهووسين الصغار كي يشتمونا، خاصّة الكردي المدعو سعيد البوطي، الذي أكل القط لسانه في الأزمة الكرديّة التي استعرت نارها قبل أيام.
لن نفسّر المسألة على أنها مؤامرة، كما جرت العادة عند العرب: لكن أرجو من المسؤولين الأمنيين الذين خلقوا أسطورة البوطي قبل سنوات تفسير هذا التزامن بين العمالة الكرديّة للخارج المعادي، ورغبة البوطي الكردي الجامحة في خلق توتّرات داخلية طائفيّة نحن بغنى عنها: حتى وإن ورثها هو شخصيّاً من شيوخ الإجرام من أمثال ابن تيميّة وابن قيم الجوزيّة. وحين تدمّر عناصر كرديّة البنى التحتيّة الماديّة في دمشق وحلب والقامشلي والحسكة ويدمّر البوطي ـ ومن على شاكلته ـ البنى التحتيّة الروحيّة للشعب السوري، فالأمر ليس أقل من مؤامرة.
نحن لا نمتلك قرار إعادة البوطي إلى متحف العناكب الذي أخرجه أحدهم منه ذات يوم، فنحن لسنا من أصحاب الحلّ والربط في بلد ضاع فيه الحلّ والربط؛ نحن نمتلك بالمقابل إمكانية مخاطبة الناس من خلال هذا الموقع البسيط كي يعرفوا قيمة هذا الكائن الفعليّة ويتساءلوا بالتالي عن عبقريّة القوى الأمنيّة التي وقفت معه وساندته وصدّقته وسوّقته من التلفزيون الرسمي [لا أحد يراه الآن] كما تسّوق الأغاني الهابطة والأفكار الهابطة وأدوية الغسيل الهابطة.
نحن نعرف تماماً أن المسؤولين الذين يتناولون "لكسوتان" من نوعيّة فاخرة لن يستجيبوا لنا: خاصّة الجهابذة أولياء أمور وزارة التعليم العالي. فقد سبق وأن تمزّقت أفواهنا من على منبر تلفزيون الجزيرة في لقاء صاخب ونحن نقرأ مقاطع من كتب تدرّس في وكر الإرهاب هذا ولم يستجب لنا أحد: ربما لأن الوزير وقتها كان مسيحيّاً [اسمه حسّان "ريشة" وأحمد كلّ الآلهة أنه "طار"]، وأي نقد لكليّة الشريعة من مسيحي يمكن أن يخلق متاعب لسنا بصددها الآن؛ وليذهب البلد إلى الجحيم مقابل كرسي الوزارة الحريري الجميل. بل لقد قيل مؤخراً إن المسؤول عن الإيفيهات الدينيّة الإسلاميّة على موقع وزارة التعليم "العالي" على الانترنت هو نفسه الوزير الذي طار، والذي يبدو أنه يعطي دروساً للسادة الطبرسي والكليني والمجالسي في التقيّة. وزير تعليمنا العالي اليوم إثنا عشري، يدير أيضاً مقاماً يقال إنه للسيدة زينب [ذكر لي الصديق المؤرّخ حسن الأمين إن علاقة المقام بالسيّدة زينب مثل علاقتي بالأخت جين مانسفيلد]، ولا أعتقد أنه مستعد لأي تغيير في الوزارة لا تحسب عقباه، خاصّة إذا ما عرفنا أن الشعار الرسمي السوري هو: أجّل المشكلة.. تحلّها.
حتى لا يكون كلامنا اعتباطيّاً، سنقدّم هنا نماذج مختارة من كتاب العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر، للدكتور محمّد سعيد رمضان البوطي، طبعة عام 1988 ـ 1989، الذي يدرّس في كليّة الشريعة، جامعة دمشق الحضاريّة:
أولاً: الحديث عن الزرادشتيّة:
رغم أن القرآن لا يذكر زرادشت بحرف واحد، ورغم أن الحديث النبوي لا يورد هذه الشخصيّة في أي من سياقاته، ورغم إعجابنا الثقافي الذي لا حدود له بالديانة الزرادشتيّة، فنحن نعتبر أن إطناب البوطي في مدح زرادشت لا يعدو كونه تعصّباً لنبي يحسب قوميّاً على الأكراد: وفي الصفحة 7 من الكتاب، ترد الفقرة التالية:
"وأهم الموروثات الفكريّة لدى الفرس، بل وأقدمها أيضاً، الزرادشتيّة، نسبة إلى زرادشت، وأصح ما قيل في عصره إنه كان في القرن السابع أو السادس قبل الميلاد؛ ولا نستبعد أن يكون الحقّ في سيرته ما قاله كثير من الباحثين إنه كان من الرسل الذين أوحي إليهم، وإن دعوته كانت إلى التوحيد وعبادة الله وحده ونبذ العادات والأديان الباطلة..".
ثانياً: الإسفاف بحق المسيحيين السوريين والكنيسة:
بالمقابل، فهجوم علاّمتنا الكردي المستورد على الكنيسة المسيحيّة، أصل سوريّا وفصلها ["وفي أنطاكية ـ لا بوطان ـ دعي التلاميذ للمرّة الأولي مسيحيين"] لا توفيه حقه ألفاظ ولا توصيفات: خاصّة وأن أكثر من مناسبة أظهرت للعميان أن شيخنا الجليل أردح من عوالم شارع الهرم وأكذب من أبي هريرة: ألم يدع أكثر من مرّة أن أمي اسماعيليّة ـ وكأن الأمر معيب ـ وأن أهلي من أصول يهوديّة؟؟
في الصفحة ذاتها من الكتاب التحفة ذاته، يبهج البوطي أنظارنا وعقولنا باكتشافاته اللاهوتيّة الهامّة حول التاريخ الكنسي، حيث يقول:
"أمّا في بلاد الشام وما وراءها، حيث امتدّت إليها سلطة الامبراطوريّة الرومانيّة، فقد تمثّلت أهم النزعات الفكريّة والمذهبيّة فيها، بذلك المزيج الذي ابتدعه أباطرة الرومان بدءاً من عهد بولس، والذين كان مركّباً من الوثنيّة القديمة التي عرف بها الرومان والنصرانيّة التي كان أصلها الإسلام الحقّ الذي بعث به سيّدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم تشعّبت من جراء الابتداعات التي أقحمت فيها إلى فروع ومذاهب شتّى، كالغنوصيّة والصابئة والركوسيّة..".
نلاحظ هنا أن المقصود بالهراء السابق مسيحيي بلاد الشام حصراً، الذين عمل البوطي ومايزال يعمل على استبدالهم بأكراد من نوعيّة سيئة: ومن لا يصدّق فليسأل عن الفرق بين أحوال الجزيرة السوريّة قبل خمسين عاماً وأحوالها اليوم؟؟
من ناحية أخرى، فقبيل نهاية هذا الكتاب (ص 248) الذي يدرّس لطلبة يفترض أنهم الطليعة التي تقود إيمانيّاً على الأقل [هل يمكن أن نفهم بالتالي سبب التفشّي المخيف لفيروس الطائفيّة في وطن الصمود والتصدّي؟]، يعود البوطاني لإتحافنا بآراء عن الكنيسة تخجل بن لادن في وقاحتها:
"العقائد الكنسيّة لا تكاد تتفق في أي من جزئياتها وبنودها مع أصول المنطق وموازين العلم، بينما العقائد الإسلاميّة تأبى على المسلم أن يقيم وجودها في فكره إلا على بصيرة العلم والمنطق".
والحقيقة أننا نحسد هذا البوطاني المسوّق أمنيّاً على موازين العلم والمنطق في عقائد يؤمن قداسته بها مثل الإسراء والمعراج حيث يذهب النبي إلى مكان بني بعده بعشرات السنين ثم يغادرنا إلى السماء للقاء عمّنا موسى وبقيّة أنبياء بني إسرائيل الذين لا دليل على وجودهم غير العته الحاخامي؛ وعلى أحاديث من نمط الديك الذي رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، أو جهنم التي يضع الله رجله فيها بعد أن تمتلىء بالكفّار؛ فتقول له: قط؟ قط؟ أو الشيطان الذي يضرط [آسف على اللفظ التراثي الهام] عند سماعه الأذان.. إلخ.
في الصفحة التي تليها نطالع آراء في الكنيسة لا تختلف كثيراً عن مجمل الهراء الوارد في هذه التحفة:
"نظام الكنيسة أعلن حرباً لا هوادة فيها على العلم واتباع سبيله، قضى في سبيلها على آلاف العلماء والباحثين، وجعل من البحث العلمي جريمة أخطر من جريمة الإلحاد بالله عزّ وجلّ؛ بينما يقضي نظام الإسلام بإعطاء الريادة في المجتمع للعلم وأهله، ويجعل من البحث العلمي أقدس عبادة يتقرّب بها المتعلّم إلى الله إن حسنت في ذلك نيّته وحسن قصده".
الإسلام لم يقض على العلماء والباحثين لسبب بسيط: حتى الآن لا يوجد في الإسلام لا علماء ولا باحثون؛ اللهم إلا إذا اعتبرنا العوالم الذين يسمّونهم علماء، أي المشايخ، منظّري الاستجمار والاستنجاء وختان البنات، من مصاف لافوازيه وديدرو وبافلوف. من ناحية أخرى، فالتاريخ يشهد أن ما من فرد أو جماعة حاولوا التفكير بما يخالف ضوابط التكفير إلا وتصدّت لهم طغمة الاستجمار والاستنجاء والخرطات التسع. ولأن ذاكرة العرب مثقوبة للغاية، يكفي أن نذكّر بأسماء من نمط فرج فودة ومهدي عامل وحسين مروّة ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد.. لماذا نذهب بعيداً، فلولا عناية أحد الآلهة لكنّا الآن في مكان غير مرغوب فيه كثيراً بعد أن حفي البوطاني على أبواب الفروع الأمنيّة محذّراً القائمين على الأمور من الفتنة الطائفيّة التي يمكن أن يحدثها كتابي: يوم انحدر الجمل من السقيفة؟
ثالثاً: الإساءة للطوائف الإسلاميّة من غير أهل السنّة والجماعة
ضمن الهراء المشار إليه آنفاً، لا يخجل البوطاني عن مدّ يده الموميائيّة إلى طوائف الشيعة بابتذال لا يحسد عليه؛ ويدرّس ذلك طبعاً. وفي الصفحة الرابعة بعد الأربعين من هذا العمل الأكاديمي غير الفتني؛ يقال عن الشيعة [لا يجرؤ البوطاني على الإشارة إلى العلويين بالاسم لا من قريب ولا من بعيد، لأنه يعرف أن بعضهم لا يكتفي بالختان؛ لكنه يستطيع إدخالهم براحة ضمن الشيعة والخوارج]:
"على أن هذا الذي بدأ بدافع ديني كما أقول، لم يلبث أن غدا فيما بعد، ذريعة لكلّ ذي مطمح سياسي، أو نزعة إلحاديّة، أو هوى جانح عن سبيل الحق. فغدت هذه الفرق بذلك مطايا لأصحاب الأغراض وأولي الانحرافات على اختلافها. وأنت تعلم أنّ دعاة السوء والزيغ، لا يستطيعون أن يتسلّلوا إلى المجتمع الإسلامي المتماسك، إلاّ من نوافذ هذه الفرق وأمثالها إذ يتمادى بها الجدل والصراع، فتنحرف عن الجادّة ربما دون أن تنتبه إلى أنها انحرفت عنها. فتتفتح من ذلك ثغرة. وما هو إلاّ أن ينحطّ فيها ويتسلّل إليها المتربّصون، من أولي الزيغ، تجّار الزندقة والضلال".
وفي الصفحة ذاتها، يأخذنا البوطاني إلى نتيجة علميّة لا غبار عليها، بشأن هؤلاء الكفّار الوقحين الذين يصرّون على المواطنة في بلد البوطاني، أي الشيعة ـ يقحم معهم الخوارج كالعادة ـ تقول:
"ومن الجلّي أنه لا دخل للعلم في نشأة الخوارج والشيعة، بل ولّدتهما العاطفة السياسيّة، ثم اندسّ فيهما خصوم الدين من الزنادقة، فتطوّرتا أطواراً شائنة".
رابعاً: البهائيّة والأحمديّة
رغم كتابتي قبل زمن ليس بالقصير مقالات بحثيّة عن الحركتين البهائيّة والأحمديّة [يسميها البوطاني القاديانيّة ليس دون تحقير] إلاّ أني لم أخرج قط عن الأعراف النقديّة المحترمة في مقاربتي للحركتين، بل إن كتاب شكر جاءني من لندن، من أمير الجماعة الأحمديّة، على ما نشرته عن الحركة، رغم ما فيه من استعراض نقدي؛ ولو أن هذا البوطاني كان يفقه حرفاً واحداً في لاهوت هاتين الجماعتين، أو لو أنه استعرض نقديّاً ما صدر عن الأحمديين والبهائيين من آراء، لكنا وقفنا له احتراماً؛ لكنه لجهله وتعصّبه، اكتفى بأن يطرح على المعتوهين الصغار ممن يصدّقونه معلومات حول الطائفتين لا ترقى أبداً لسويّة الشتائم المهذّبة؛ يقول أستاذ الشريعة حول البهائيين:
"وإنما تقوم ديانتهم وأفكارهم الخرافيّة الكافرة على التفسيرات والاستنباطات الباطنيّة والإشارية التي لا تعتمد على منطق ولا لغة ولا مقياس من مقاييس النظر والعلم " ( ص 88 ).
لا يفلقنا بالمناسبة سوى تشديد تلميذ أبي هريرة والبخاري وكعب الأحبار على النظر والعلم.
بالمقابل، فهو يقارب الأحمديين، كباحث هام، على الطريقة التالية:
"ولم يزل على حاله [غلام أحمد القادياني، مؤسّس الحركة] تلك ويكذب على الله وأنبيائه، ويضع نفسه للناس موضع عيسى بن مريم عليه السلام، إلى أن رماه قضاء الله تعالى بالهيضة (داء الكوليرا) ومات في بيت الخلاء ساقطاً على وجهه، فكان موته عبرة لأولي الأبصار". (ص 89).
لمن لا يعرف، فإن أمير المؤمنين المتكّل على إلهه العباسي، محيي السنة ومميت البدع، الذي فرض بالحذاء التيار الفكري (؟؟؟) الذي ينتمي إليه البوطاني إياه، قتل مخموراً في أحد مواخيره على يد ابنه.
خامساً: الفلسفات الحديثة.
كم يبدو مثيراً للقرف أن يمدّ أصولي بوطاني مفعم بعقد كراهية الآخر يده إلى التراث الوجودي العظيم، فيطال سادة الوعي في غرب الحضارة بألفاظ لا تصدر عن أجهل الكائنات. كم تبدو الحضارة مغتصبة حين يفكّر بدوي جاهل بمدّ يده الحاقدة إلى هايدغر العظيم، رمز الثقافة، في أمة المثقفين: ألمانيا. زمان، ترجمتُ كتاباً لهايدغر العظيم، صاحب الكينونة والزمان، اسمه ماهية الميتافيزيك، لكني لم أنشره، لأني استأسفت أن أنشر جواهر فيلسوف الكينونة لشعب مفكّروه البوطي وقرضاوي ومتولّي شعراوي.. وزيزي مصطفى: وخيراً فعلت.
عن الوجوديّة؛ يقول هذا العلاّمة: "فأي طالب من الطلاّب الخائبين في قسم الفلسفة من جامعة ما، يخلط هذا الخلط العجيب بين الماهيّة والصفات، ويبادل التعبير بهما عن الخبرات والإمكانات التي يكتسبها الإنسان؟" (ص 188).
"ولكن من البلاء الأطم أنهم يصنّفون أنفسهم مع فلاسفة، ويخاطبوننا على هذا الأساس، ويريدوننا أن نفهمهم على هذا الاعتبار. وها نحن قد حاولنا فهمهم على هذا الاعتبار، فما رأينا إلاّ كلاماً متهافتاً وأحلاماً تستعصي على الواقع وألفاظاً تطلق على مدلولات لم يقل بها فلاسفة ولا علماء ولا مناطقة من قبل". (ص 194).
عن المفكّر المصري الوجودي؛ يقول البوطاني إنه "الذيل التابع لهم". (195).
أمّا سارتر، الذي ساند الثورة الكوبيّة، وحارب ضد بلده لأجل استقلال الجزائر، وقاد مظاهرات الطلاّب في فرنسا ضد قمع العسكر، ورفض جائزة نوبل للآداب باعتبارها صادرة عن هيئات بنظره غير محترمة، فيقول عنه صنيعة الأجهزة في أصعب زمن مرّ على سوريّا: "إن نظرة سطحيّة واحدة إلى مظهره.. تدلّ على أنّ الرجل منغمس في نقيض هذا المبدأ الذي يعلن عنه ويدعو إليه". (196).
وهكذا، ينتهي هذا العلاّمة إلى أن الوجوديّة ليست غير "فلسفة عجيبة مضحكة". (ص 221). وكفى المؤمنين شرّ القتال.
نلاحظ هنا أن البوطاني لا يقترب من هايدغر أبداً، ربما لأن الألماني العظيم بحاجة كي يُفهم إلى سويّة عقليّة، خاصة في الكينونة والزمان، غير متوفّرة عند شيخ كليّة الشريعة الأشهر.
عن الماركسيّة، التي لم يتنطح أي من الرفاق أنصارها الذين يملأون أجهزة الإعلام هذه الأيام ضجيجاً بالردّ، يقول جهبذنا ما يلي:
"لن نهدف من هذا النقد، إلى الحديث عن القيمة العلميّة لفلسفة "الجدليّة = الدياليكتيك" خلال أطوارها المختلفة. ذلك لأنها بدءاً من عهد هيراقليط إلى أن استقرّت بطورها المثالي عند هيجل، قد تحوّلت إلى مجرّد متكأ أقيمت عليه الفلسفة الماديّة الماركسيّة، التي أخذت تشغل بال كثير من السطحيين أو من دعاة المصالح والأغراض" (ص 108).
نترك التعليق للرفاق من الحزب الشيوعي السوري، دكّان المرحوم بكداش، فهم الأقدر على الرد على ابن جلدتهم.
سادساً: العلمانيّة
مما لا شكّ فيه أن الأخوات منيرة القبيسي وسحر حمدي وزيزي مصطفى وسهير البابلي حتى آخر قائمة أمهات ـ نعتذر من القبيسيّة لأنه يفترض أنها آنسة جدّاً ـ مؤمني القرن الحادي والعشرين، يعرفن تماماً أن العلمانيّة مشتقة من العالم؛ بل إن بقرة جميلة استنكرت قبل أيام على أحد تلاميذ كليّة الشريعة ضحالته العلميّة حين قال غير ذلك؛ وإذا عرف السبب بطل العجب؛ فهذا التلميذ الأنجب الذي أزعج البقرة الجميلة بجهله قرأ التعريف التالي في كتاب البوطاني التحفة:
"أصل هذه الكلمة نسبة على غير بابها إلى العلم". (ص 247).
ولأننا علمانيون، ولأننا لسنا بعثيين ـ الذين يفترض أنهم علمانيون ـ فالجروح تؤلمنا، نقول إن النص التالي من كتاب البوطاني، لو كنّا في بلد يحترم حقوق الآخر، لكان يمكن أن يوصل صاحبه إلى أقرب سجن غير محترم:
"ونظراً إلى أن مجتمعاتنا الإسلاميّة لا تخلو في كلّ وقت من مجاذيب أوروبا وعشّاقها، أولئك الأغبياء الذين ينقادون بزمام من البلاهة والذل إلى اتباع أوروبا في كلّ شؤونها وتصرفاتها، فقد ظهر في هذه المجتمعات من يدعو إلى إقامة أنظمة الحكم في مجتمعاتنا الإسلاميّة على أساس تلك العلمانيّة التي التجأت إليها أوروبا تخلّصاً من مصائبها وآلامها". (ص 248).
وأخيراً.. الأشعري:
بعد أن أقفل علينا البوطاني الألمعي أبواب التيارات والمذاهب والعقائد الأخرى باعتبارها كلّها تافهة إلحاديّة وذاهبة إلى جهنم بلا إحم ولا دستور، يقدّم إلينا الآن مسيحاً منتظراً اسمه الأشعري يتمّ تلقيمه للأولاد في كليّة الشريعة العظيمة بأسلوب بوطاني يكفل غسيل دماغ طلاّبي مرّة وإلى الأبد:
"هذا الإمام [الأشعري] لم يخترع لنفسه مذهباً ينادي به، كما فعل أصحاب الفرق الأخرى، وإنما اعتنق ما كان يدين به جمهور المسلمين من علماء الحديث والفقه وسائر الصحابة والتابعين، وموره ما دلّ عليه كتاب الله وسنّة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم. الأشعري كان لا يقيم لسلطان العقل الاجتهادي وزناً أمام النصوص، حتى وإن كانت واردة عن طريق الآحاد، ولم ترق إلى درجة التواتر. أمّا الماتريدي فقد كان يقيم لأحكام العقل وزناً أكثر من ذلك، بمعنى أنه يسعى إلى التوفيق بينه وبين المنقول إذا أمكنه ذلك دون تكلّف أو تمحّل". (ص 81).
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط