بسام درويش / Aug 31, 2009

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (يونس 10 : 1)

تصف هذه الآيةُ القرآنَ بالكتاب الحكيم، بينما تبدأ هي نفسها بثلاثة أحرف لا أحد يعرفُ تفسيراً لها ولا الحكمة من وجودها، على الرغم من أنَّ القرآن يصف نفسه بأنه "لسانٌ عربيٌّ مبين" (الشعراء: 26 : 195) أي أنه "نزل" بلغة عربية واضحة لا غموض فيها!

 تسعٌ وعشرون سورة من سور هذا القرآن "الحكيم" تبدأ بحروف "حكيمة" كهذه تُسمّى بالحروف المقطعة. بعض هذه العبارات الغامضة يُعتبر جزءاً من الآية، وبعضها الآخر يُعتبر آية كاملة متكاملةً مثل "الم" التي تفتتح سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة؛ أو مثل "كهيعص" التي تفتتح سورة مريم، أو "حم" التي تفتتح سورة غافر وبعض السور الأخرى.

حتى اليوم، لم يأتِ "عالِمٌ" من "علماء" المسلمين بتفسير منطقي لهذه العبارات الغامضة، لا بل إن بعضهم قد رأى فيها بياناً لإعجاز القرآن ودليلاً على أنَّ الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، اي عن الإتيان بمثله! (انظر تفسير ابن كثير لآية "الم" التي تفتتح سورة البقرة)

الأمر الوحيد الذي يبدو أنّ مفسّري القرآن كلهم قد استطاعوا أن يتفقوا عليه في تحليلهم لهذه العبارات هو أنّ" الله أعلم بمراده بذلك!" وهكذا، فإنهم منذ ألف وأربعمئة سنة من الزمن على هبوط هذه الحكمة الإلهية لا زالوا حائرين فيها، عاجزين عن فهمها أو تقديم أي تفسير لها؛ ولا زالوا، إن سُئلوا عنها، يجيبونك بقولهم "الله أعلم بمراده بذلك"!

تُرى ما هي الحكمة وراء سَتر أسرار هذه الكلمات عن عقول العلماء وعامة المسلمين؟ هل هناك سرٌّ وراء احتفاظ الله بتفسيرها كما يقول فقهاء المسلمين ؟ وإذا كان وراءها سرٌّ، فكيف لنا أن نعرفَ ذلك وليس في القرآن إشارةٌ واحدةٌ من الله إليها تفيدنا بأنه ـ أي الله ـ أراد أن يحتفظ بسرها لنفسه دون أن يكشفه لأحد؟  تُرى هل يقصد الله إعجازاً أم تعجيزاً؟

**********

يذكر البخاري في كتاب بدء الوحي نقلاً عن عائشة أنّ الحرث بن هاشم سأل محمداً قائلاً، "يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟" فقال محمد: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيَفْصِمُ عني (اي ثم يتركني) وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول". وتؤكّد عائشة ذلك إذ تقول: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ فيَفْصِمُ عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقاً." ويذكر الترمذي أنّ صحابة محمد كانوا يسمعون الوحي عند نزوله عليه "كدويّ النحل...!"

وفي روايةٍ أخرى تقول إنّه "كان إذا نزل عليه، كَربَ لذلك [أي أصابه الحزن] واربدّ وجهه [أي تغير لون وجهه إلى أحمر وأسود] ونكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم منه..."

وعن أبي ميسرة وبريدة "أنّ النبي كان إذا انطلق بارزاً سمع صوتاً [يناديه] يا محمد، فيأتي خديجة فيقول يا خديجة قد خشيت أن يكون خالط عقلي شيء إني إذا خلوتُ أسمع صوتاً وأرى نوراً!"

وعن محمد بن كعب وعائشة، إنّ محمداً: "كان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح ثم حُبِّبَ إليه الخلأ فكان يخلو بغار حرّاء فسمع نداء يا محمد فغشي عليه، فلما كان اليوم الثاني سمع مثله نداء. فرجع إلى خديجة فقال: زملوني زملوني فوالله لقد خشيت على عقلي!"

وتروي الأحاديث أنّ محمداً كان يشكّ فيما إذا كان الصوت الذي يسمعه صوتَ شيطانٍ أو صوت ملاك، فحدّث خديجة عن شكوكه فقالت له: "إذا أتاك صاحبك فأخبرني." فلما جاءه الصوت أخبرها، فقالت له: "اقعد على فخذي، ثم قالت له: أتراه؟، قال: نعم. فقالت له أن ينتقل إلى الفخذ الآخر ثم قالت: أتراه؟ قال نعم، فخلعت خمارها ثم قالت: أتراه. قال: لا. فقالت له أبشر يا محمد فإنه ملك وليس بشيطان! [أي إنّ الملاك لم يهتم لجلوس محمد على فخذ خديجة ولكنه لم يستطع أن يبقى وخديجة سافرة عن وجهها...! ويجدر الذكر هنا أنّ الحجاب لم يكن قد فُرض بعد على نساء المسلمين عندما كان محمد يعيش في ظل نعمة خديجة.] [تجدر الإشارة هنا أيضاًً إلى أنَّ محمداً لم يكن حقاً يميز بين صوت الشر وصوت الخير باعترافه بأن الشيطان خدعه وألقى عليه آيةً اعتقد أنها من الله وذلك حين خاطب أهل قريش يسمح لهم بطلب الشفاعة من بعض الأصنام؛ تقول الآية: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى!" لكنّ الملاك جبريل جاء إليه وأنبه على ذلك بقوله إنه لم يأتِه بشيء من هذا (عن البزاز والطبراني وابن مردويه)]

من جهة أخرى، تروي الأحاديث أيضاً أنّ محمداً كان يعاني من الصداع، إذ يذكر ابن ماجة عن محمد أنه كان إذا أصابه الصداع غلّف رأسه بالحنّاء. ويذكر أبو نعيمٍ في كتاب "الطب النووي" إنّ الصداع النصفي كان مرضاً يعاني منه محمد. والصداع النصفي هو ما يُعرف بـ "الشقيقة". وهذا الصداع كان يرافق الوحي دائماً [أو أن الوحي كان يرافق الصداع!] إذ يقول أبو ذر، "كان النبي إذا نزل عليه الوحي صُدِعَ فيغلّف رأسه بالحناء."

خلاصة الكلام هي أنّ محمداً كان يعاني في الواقع من صداعٍ شديد وخاصة مع الوحي الذي كان "ينزل" عليه، وكان يقع في غيبوباتٍ يتفصد خلالها جبينه عرقاً ويشعر معها بالبرد الشديد ويسمع طنين أجراس ودوي نحل تخالطها أصوات تخاطبه وتقول له إنّ ما يسمعه هو رسالات إلهية، لكنه وعلى الرغم من قوله إنه كان يستفيق منها واعياً مدركاً لكل ما سمعه، فقد كان يعبّر أحياناً عن شكوكه بما يسمعه، ولذلك قصد خديجة وأفضى لها عن شكه بما كان يسمع وعن خشيته بأن يكون قد أصيب بلوثة في عقله وأنه لا يعرف إذا كان المتحدث معه خلال فترات "الوحي" تلك، ملاكاً أو شيطاناً إلى أن فكرت خديجة بتلك الحيلة البارعة التي أوقعت جبريل بها.

هذا الصداع، رافق محمد إلى آخر لحظة من لحظات حياته إذ مات وهو يعاني منه ومن حمى شديدة ترافقه، ويقال أنه قد مات مسموماً بسمٍ وضعته يهودية بطعامٍ له. وبعبارة أكثر اختصاراً، كلّ الدلائل تشير إلى أنّ الرجل كاني يعاني من داء الصرع الذي يسمع الإنسانُ خلالَ الوقوعِ ضحيةَ نوباته أصواتاً غريبة (وتسمى النوبات بالعامية "الوقوع بالساعة") ويتعرّق جسمه ويشعر ببرد شديد.

السؤال هو، إذا كان محمد يخرج من نوباتٍ كتلك ببعض ما تعلمه هنا وهناك قبل وقوعه فيها، أفلا يمكن لتلك الحروف المقطعة أن تكون بعض ما كان ينطق به لسانه وهو في انتقاله من حالة اللاوعي أو شبه اللاوعي إلى حالة الوعي؟ حتى الإنسان الطبيعي الذي يستيقظ من نومه الطبيعي مرعوباً أو بسبب ضجيج مفاجئ حوله فإنه غالباً ما ينطق بعبارات غير مفهومة، فكيف بإنسان يستفيق من غيبوبة ناتجةٍ عن صداعٍ مؤلم أو "شبه غيبوبة" كما تصفها الأحاديث؟

الاحتمال الثاني لهذه الحروف المقطعة يستند على ما روته عائشة عن دخول بهيمة وابتلاعها لآية من آياتِ القرآن كانت تحتفظ فيها تحت فراشها إذ قالت: "لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها." (صحيح سنن ابن ماجة)

كثير من الآيات جرى تدوينها على صحف النخيل والجلود وما شابهها، خبأها كاتبوها أو المحتفظون بها تحت فراشهم أو في خيامهم أو في أماكن لا يعجز الماعز أو الجرذ عن الوصول إليها. ترى كم من الآيات قضمت الفئران أو الماعز بعضاً منها فلم يبق منها إلا "الم" و "المر" و "ن" و "ص" و "حم" و " كهيعص" و "عسق" وغيرها مما ظنه علماء المسلمين آيات كاملة أو فواتح آياتٍ لا أحد يعلم بسرها إلا الله. إضافةً إلى ذلك، إنّ كثيراً من الآيات ضاعت أو ضاع جزء منها كما يشهد بذلك أبو عبيد: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: لَيقولنَّ أحدكم قد أخذتُ القرآن كلّه وما يدريه ما كلّه! قد ذهب قرآنٌ كثيرٌ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر. (الإتقان للسيوطي صفحة 348 عن الورّاق)

وهكذا، فإلى أن يكشفَ الله لنا عمّا في خزائن علمه، لن يكون هناك من تفسير لهذه الحروف المقطعة سوى أنها إما بقايا آياتٍ أكلتها البهائم والجرذان وحشرات الأرض ولم تُبقِ منها إلا أجزاء تحير عقول علماء المسلمين؛ أو أنها بقايا آياتٍ ضاعت أجزاء منها خلال نقلها، أو مجرد تمتمات كان ينطق بها محمد وهو يستفيق من نوبات الغيبوبة التي كان يقع فيها. 

إن لم يكن الأمر كذلك، فإننا نعود لنطرح السؤال الذي طرحناه أعلاه: ما الحكمة إذاً من تنزيل آيات وحيٍ لا معنى لها...؟

************

يقول القرآن: "وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِين! (المائدة 5 : 92)

"بلاغٌ مبين...؟"

ترى ما هو هذا الأمر الذي أراد الله أن يبلغنا إياه عن طريق رسوله وما الفائدة منه إذا كان قد قرر أن يترك علمه عنده فقط، وكيف يسميه بالبلاغ المبين ـ أي الواضح ـ في حين يعجز "علماء" المسلمون عن فهمه أو تبيان القصد منه...؟

أهذا هو البلاغ المبين حقاً؟ أهذا هو ما أراد رسول الله أن يبلغنا إياه: أحم، محم، قحم، جحم... لا يهمه إن فهمناه أم لم نفهمه وكأنه يقول لنا: هذا ليس من شأني وما عليّ أنا إلاّ البلاغ... حتى ولو كان بلاغاً غيرَ مبين...!

(للموضوع صلة)

==================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط