فصلٌ من كتاب تاريخ الثورة وسِيَرِ رجالها العظام
بسام درويش / Feb 04, 1993

 

قرقيش، قرية صغيرة جميلة تحتضنهـا المرتفعات الجبلية القريبة من الساحل السوري، معروفةٌ بمياهها العذبة وطبيعتهـا الخلابة ومناخها اللطيف وسكانها الطيبين. حامِد، هو واحدُ من سكان هذه القرية. فيها رأى النور أول ما رآه، وبين تلالها ووِهادها ترعرع وكبـُرَ، وبعرق جبينه، شارك أباه وغيره من الفلاحين بسقاية أرضها المعطاءة التي كان خيرها وعطاؤهــا يذهب إلى جيوب الإقطاعيين وبطونهم المنتفخة التي لا تعرف الشــبع.

 

لم ينل حامـدٌ من العلم إلاَّ قليله، ولكنه كان كافياً ليساعد سكان القرية وخاصةً الكبار منهـم في كتابة وقراءة رسـائلهم. عُرف أيضاً بين الجميـع بذكائه الحاد، إذ أنه منذ نعومة أظفاره قد أظهـر نبوغاً وبراعةً في أعماله وسـرعة بديهته حتى أن والديه لا يملاّن من تكـرار قصة الكلب الذي عضَّ ساق البقرة وكيف هرع حامدٌ، ابن السبع سـنوات، إلى البيت، ليعـود بقطعـةٍ من قميصٍ قديـم وقـليـلٍ من البنِّ غطّى به الجرح، ثم لـفَّ السـاق المعضوضة بعنايـة شـديدة دون أن يكون له سـابقُ معرفةٍ بأمور الإسعاف أو التمريض!

 

أما أهل القرية فيذكرون بإعجاب كيف اسـتطاع حامد ذات مرّة أن يتفاهم مع السـائح الأجنبي الذي ضلَّ طريقه فوصل إلى قرقيش عوضاً عن طرطوس، وعندما لم يسـتطع أحدٌ من الفلاحين أن يفهم منه ما كان يقوله بلغته الغريبة عنهم، رأوا ويا لعجب ما رأوا.. رأوا حامداً يهرعُ باتجاههم وقد سمع كلمة طرطوس وأقبل يحدث السائح بالعربية وهو يشير بيديه قائلاً له أن يسير ويسير ويسير إلى أن يصل إلى حقل اللّفت وهناك يأخذ الطريق المؤدي إلى طرطوس.. وكرر على مسامعه عدة مرات عبارة حقل الـلـفـت ليتأكّد من أنه فهم ما يقصد. وصل السائح إلى حمص عوضاً عن طرطوس إذ ظنَّ أنَّ حامداً قــال لــه بالإنكليــزية أن يأخذ (اللفت) أي اليســار.. ولكنَّ هذا إن دلَّ على شيء فإنه يدلّ على غباء السائح وليس على قلة ذكاء حامد! 

 

لم يكـن حامد فلاحاً بسـيطاً ذا أفقٍ محدود، بل إنَّـه وبسبب تتبعه الدائم للأخبار ومحاولته استنطاق الفلاحين الذين يذهبون إلى المدينة لقضاء حاجاتهم أو ملاحقة معاملاتهم، قد كوَّن رؤيـةً خاصـةً به، فتنبأ بقرب تبدّل الأوضاع الحاليـة وزوال عهـد الإقطـاع، ولكنه لم يكن يصرِّح عن تنبؤاته هذه إلاّ لنخبة مختارة من الفلاحين الذين كانوا يقـدّرون ذكاءه. لقد حكى عما يجول بخاطره ذات يوم لأحد أقرانه فضحك منه واعتبره مغروراً بذكائه، مهلوساً ومبالغاً في تحليل الأمور. وحدهم الذين آمنوا بالوطن وبحامد، كانوا يصغون إلى ما يقول ويودعونه في قلوبهم.  

 

توقُّعــات حامدٍ صحَّت. فقد فجَّر الحزب الرائــد أخيـراً ثورته المجيـدة منهياً بها عهد استيلاء الإقطاعيين على القرى وتحكمهم برقاب الفلاحين ليبدأ بحكمه عهدٌ جديد مشرقٌ، عهدُ  استيلاء القرويين على المدن وتحكمهم برقاب سكانها. وبعد سنوات، ظهر داخل الحزب مناضلٌ جريءٌ تربطه بفلاحي القرية روابطُ متينة، إذ أنه كان ابناً من أبنائهم حقَّ لهــم أن يفخروا به وقد أصبح بين ليلة وضحاها أباً وقائداً للأمة كلها. وبعد فترة قام القائد العظيم بتصحيح مسـيرة الثورة بعد أن ضلَّت الطريق كمــا ضلَّ السائح ذات يومٍ طريقه فاتجه إلى حمص عوضاً عن طرطوس.

 

نعم، شــعر فلاَّحونـا بالفخر والاعتزاز لوصول واحدٍ من أبنائهم إلى أعلى مراكـز الحكم، وفتح ذلك أمامهم أبواب الأمـل، فهرعـوا ومن بينهم حامـدٌ ليمدُّوا له يد العون وليساهموا معه في بناء البلد وَوَضْعِ أسسٍ للنظام الجديد قائمةٍ على العدل والحق.

 

وكان لا بـدَّ لحامدٍ بما اشـتهر بـه من نبوغ أن يُشـغِلَ منصبـا مهمـاً في الحكومة الجديدة، ولأن القائد الأب قد عرف بقصة سـاق البقرة المعضوضة والسـائح التائه فقد اسـند إليه وزارتي الصحة والسـياحة بعد أن مُنح درجة دكــتوراه فخرية في العلوم الميتافيزيقية ودرجة أخرى في علم الآثار.

 

لم ينسَ حامدٌ ذويه وأهل قريتـه، فقد سـعى لأبيـه بمنصب يتناسب ومنصب الابن، فجعله أمينـاً عاما لوزارة الزراعة، ثم سـعى الأب بدوره لصديقه الراعي "مصلح" فأدخله في الجيش ليصبح بعـد فترةٍ قصيرة ملحقاً عسـكرياً في سـفارة البلاد لدى حكومة الإكوادور. وقبل أن يغادر الراعي مُصلِـح أرضَ الوطن لم ينسَ صديق طفولته عازف الربابة "مرهج" فسعى لتعيينه مديراً للبرامج في دار الإذاعة.

 

وتحســَّنت أوضاع البلــد والحمد لله!

***********

*******

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط