بسام درويش / Jul 17, 1981

"لا زلنا في أوائل الشـهر الفضيل يا امرأة"، قالهـا أبو تيسير متأففاً ومعلِّقاً على إلحاح زوجتـه بأن يبدأ البحث عن هدايا وألعاب العيـد للأولاد. 

صمتَ قليلاً ثم تابع يقول وهو يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً: "إضــافةً إلى ذلك، أليس عندنـا ما نفكِّـر به في هذا الشهر المبارك سوى الهدايا والألعاب؟ إنَّه شـهر التعبُّـد والصيـام. ولا تنسي الزكـاة أيضاً يا سـميَّـة.. الزكـاة في رمضان أهم من هدايا الأولاد ومع ذلك فقد أصبحت الزكاة من الفروض التي لم يعد بمقدورنـا القيام بهـا."

 

وبغنجٍ ودلالٍ وصوتٍ عامرٍ بالثقة قالت أم تيسـير:

"أطـال الله عمرك يا أبو تيسير كي تبقى فوق رأس الأولاد، تـرعاهم وتشــتري لهـم دائماً. الله سبحانه تعالى لم يفرض علينا الزكاة لنهتمَّ بالعالم وننسى الأولاد. العيد لا يأتي كل يوم ورمضان كـريم يا ابن عمي. خالد يريد سيارة شـاحنة، وطارق يحلم ليلاً نهـاراً بقطار، وزاهـرة أوجعت رأسي وهي تكرِّر على مسامعي كل سـاعة أنهـا تريد معطفـاً شـبيهـاً بالذي اشـترته ابنة عمِّها، وسعيد يريد آلة تصوير أمَّـا تيسير، فهو مسكين، لم يطلب شـيئاً، لا بل شدد على أنه لا يريد شـيئاً على العيد وقال أنه كبـُرَ وأصبح يشعر بالمسؤولية وهو يقـدِّر الظروف، لكن مع ذلك، لا يجب أن نتجاهل احتياجاته، فهو بالحقيقة لا زال طفلاً ولو أنَّــه أكبــر الأولاد."

 

وحرَّك أبو تيسير شـفتيه ليجيب عليهـا ولكنَّ سـميَّة لم تفسـح له المجـال وتابعت تقول: "ولا تنسَ أيضاً أن الأولاد، اسـم الله عليهم، قد كبـروا هذه السـنة بسرعة وكلهم بحاجة إلى بدلاتٍ وأحذية جديدة، وهذه أمور لا يمكن  تأجيلهــا إلى آخر الشـهر."

 

وأطرق أبو تيسـير رأسـه ثم نظر إلى أعلى وقـال رافعاً يديه: "الله يلعن الحرامي الظالم الذي لم يُبـقِِ لنا شـيئاً. أنا ذاهبٌ إلى عملي الآن، اتركي بحث هـذه الأمور إلى وقتٍ آخـر الله يرضى عليــك يا سـميَّـة."          

***********

من خلف الباب، حيث كانت تتسـمَّع، حملقت زاهرة ذات الست سنوات بعينيها خوفـاً ودهشـةً، فهي للمرَّة الأولى في عمرها النديِّ تسمع بأنَّ هناك حرامياً ظالمـاً قد أخـذ كلَّ ما يملكه أهلهـا ولم يتـرك لهم شـيئاً! شعرت بالخجل من نفسها لإلحاحها على أمِّهـا كي تشتري لها المعطف الأحمر الذي ما فتَأَت  تحلم بـه منـذ أن حصلت عليه ابنة عمهــا في عيد ميلادهـا.

 

زاهـرة لم تكن لـتـتـنـصِّت لو لم تكن متشــوقةً لمعرفة أخبـار المعطف الذي لم تعد ترغب به بعد الآن، وقد أصبحت قصة الحرامي بالنسبة لها أهم من المعطف أو العيد. وتابعت التنصّت فجاءها صوت أمها تقول أيضاً:  "لا تجوز اللعنات في رمضان يا أبو تيسير. الله كــريم، سأوفِّر هذا الشهر ما أستطيع توفيـره وأعينـك على تخطي الصعوبة." وعلى أثر ذلك سمعت أباها يجيب غاضباً: "لا .. لا .. هذا هو أفضل وقت ليُـلْعَنَ فيه هـذا الكـافر، لأنَّ أبواب السـماء تكون مفتوحة في رمضان."

 

واقشعرَّ بدن زاهرة حين سمعت أمَّها تقول: "طوِّل بالك يا رجل، إنه لم يخرب بيتنا لوحدنا. خرب بيوت الكثيرين، لا بل خرب البلد. مثلنا مثل كل الناس يا ابن عمي.. مثل كل الناس، طوّل بالك.."

 

وأخيراً شعرت زاهرة بخطوات أبيهـا وهو يتجه إلى خارج الغرفة يردد قائلاً: "حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل.. لا بدَّ أن يأتي الفرج، لا بدَّ أن يأتي الفرج"،  فابتعدت وهي تبكي قبل أن يراها أحد قرب الباب.

لهول رعبها، توقفت عند ما قالته أمّها عمَّا حلَّ بأهلهـا وغيرهم من الناس وفاتهـا أن تسمعها تقول لأبيها قبل خروجه: "صحيح أنَّ كل شــيء قد ارتفع ثمنه، وصحيح أنَّ الراتب الذي تقبضه لم يعد يكفي لجزء مما كنا نشـتري به في الماضي وأنت رجل صاحب مبادئ وأخلاق مثل أبيــك الله يرحمه ويحسن إليه، لا تقبل البرطيل ولا تقبل على  نفسك أن تنزل إلى المستوى الذي انحدر إليـه غالبية الموظفين فتصبح لصاً في حكومة لصوص، ولكننا يا أبو تيسير يمكننا أن نتدبَّـر الأمور إلى أن يفتحهـا الله بوجهنا."  بعدها لم يعقِّب أبو تيسير بكلمة ، بل ودّع زوجته وخرج من البيت قاصداً عمله.

 

وتنـادي سميَّة ابنتها زاهـرة وتطلب منها المساعدة في ترتيـب البيت دون أن تلحظ آثار الدموع على عينيها البريئتين ووجنتيهـا الصغيرتين.

*************

خالــدٌ يكبـر زاهــرة  بسـنتين على الأقل. يذهب إلى المدرسة ويعرف القراءة والكتابة، لذلك فإنَّه بنظر أخته الصغيرة أعلمُ وأخبرُ بشؤون الحياة وشجونها، وكثيراً ما لجأت إليه تستشـيره في حلِّ  ما يستعصي عليها من أمور.

تقرر زاهرة أن تُفشي إلى أخيها بسـرِّ الحرامي الذي روَّعَ أهلها والجيران وأهل البلد، فيشـاركها خالدٌ أساها وقلقهــا ويخفِّفُ من روعهـا ويطمئنها بأنَّ كلَّ شيء سـيكون على ما يُرام. لكن ما أن تبتعدَ عنه حتى تبدو ملامح القلق على وجهه هو أيضاً، فيهـرع  إلى دفـتـره وينتزع منه صفحةً ثم يشـرع بكتابة رسالة إلى رئيس الجمهورية.

"ســيادة الرئيس القائد،

لقد علمونا في المدرسة أن الأمن مستتب في بلدنا طالما أنَّك أنت رئيسـنا. أريد أن أكون أوَّل من ينقل إليك هذا الخبر. لقد قال أبي لأمي أن حرامياً ظالماً وكافراً قد خرب بيتنا وخرَّب البلــد ولم يُبقِِ للناس شيئاً.. أرجوك أيها الرئيس أن تقبض على هذا الحرامي وتضعه في السجن..

هل يمكن أن يكون هناك في العالم واحد حرامي وأنت مـوجود؟!

خـــالــد

***********

*******

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط