بسام درويش / May 01, 2001

(رد على مقال للسيد غسان الإمام نشرته جريدة الشرق الأوسط تحت عنوان "البابا في دمشق: هل يعتذر لصلاح الدين عن الغزوات الصليبية؟ في 13 آذار، مارس 2001)

 

قبل أن أستفيض بالرد على ما جاء في مقالة السيد غسان الإمام بدءاً بأولها، أود أن أعلق بكلمة على ما جاء في مقطع من مقاطعها الأخيرة حيث قال يصف نفسه: "لست متعصباً في زمن عربي يشجع على التعصب.." وكأنه يعرف تماماً أن أصابع الاتهام بالتعصب ستشير إليه من كل جانب. فللسيد غسان أقول:

يا سيد غسان، إني لا أرى في ما جاء في حديثك إلا تعصباً أعمى وكلمات مجبولة بالحقد البغيض. نعم يا سيد غسان، أنت متعصب من أمة متعصبة تدعو وتشجّع على التعصب، ليس في هذا الزمن فقط حسب قولك، بل أنها دعت إليه وشجّعت عليه منذ تأسيسها ولا تزال تفعل ذلك حتى يومنا هذا، ولسوف تبقى على دعوتها وتشجيعها إلى يومٍ يشاء الله فيه أن يقلب الأمور رأساً على عقب.

******

بدأ غسان الإمام مقالته بعبارة "لا أدري" ثم أخذ يبني على هذه "اللا أدري" ترهاته التي أراد منها ركيزة ينفث منها سموم حقده وتعصبه. وليته بذل بعض الجهد كي يتعلم و"يدري" قبل أن يبدأ بالتعليق على ما لا يدري! ولكنه قد أثبت على كل حال من خلال كل سطر وكل كلمة أنه لا يدري من الحقيقة أو المنطق شيئاً مثله مثل كل الحاقدين الذين يملأون الدنيا صراخاً كل يوم وكل ساعة وعبر كل وسيلة إعلامية يمكن أن يصل إليها صوتهم في أي مكان من العالم.

 

"البابا في دمشق: هل يعتذر لصلاح الدين عن الغزوات الصليبية؟"

ذاك كان هو عنوان الأطروحة التي أتحف غسان الإمام قراء العربية بها!

وغسان الإمام هذا، إما أن يكون جاهلاً حقاً، أو أنه كتب ما كتب متصنعاً التجاهل. وإذا كان للجهل عذر فالتجاهل لا عذر له!

 

يريد "الإمام" من البابا أن يعتذر لصلاح الدين عن الغزوات الصليبية، وكان الأجدر به أن يسميها "حملات" كما عُرفت به وأن يترك شرف الغزوات لأسلافه الذين لا يدانيهم فيها أحد.

 

أي اعتذار يريد "الإمام" من البابا أن يقدمه وبأي صفة؟

قبل أن يتوقع "الإمام" من البابا أو من أي مسؤول روحي مسيحي آخر أن يقدم اعتذاراً عن حملات الصليبيين أو أية معارك أو حروب نشبت بين مسيحيين ومسلمين، كان يجدر به أن يطّلع بعقل منفتح على تعاليم الديانة المسيحية ليعرف أن هذه الديانة لا تشجع على قتال ولا تدعو إلى حمل السلاح لا دفاعاً عن الله ولا عن أماكن عبادته على الأرض. والحملات الصليبية، بغض النظر عن المحرضين عليها والمنظمين لها، وبغض النظر عن الحقيقة التي لا بد من الجهر بها وهي كون العرب المسلمين هم الغزاة المحتلين لأرض المقدس، وبغض النظر عن كل الدوافع سواء رآها البعض سياسية أو دينية، فإن الدين المسيحي منها بريء، وليس على البابا بصفته رئيساً روحياً للكنيسة الكاثوليكية أن يقدم أي اعتذار عنها لأي إنسان. وإذا أراد "الإمام" من البابا أن يعتذر عن تلك الحملات فلعلّه سوف يطلب منه أيضاً الاعتذار عن كل حرب أو معركة أو حادثة كان فيها طرفان: طرف مسيحي وطرف مسلم.

    

إن حال "الإمام" كحال كل المسلمين الذين يخلطون عامدين بين "الغرب المسيحي" و"المسيحية" وهم في خلطهم هذا لا يَخدعون إلا أنفسهم لأنهم يفعلون ذلك لتحاشي الحقيقة التي تصرخ في وجوههم قائلة: إن الدين المسيحي لا يدعو ولا يشجع على القتال. لا ينظم الحملات العسكرية ولا يبيح الغزوات ولا يسمح بسلب الناس واغتصاب أموالهم أو أبنائهم وبناتهم. من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس، لا يتوجب على البابا ولا على أي زعيم ديني لأية طائفة مسيحية أخرى، ولا لأي مسيحي في العالم، أن يقدم الاعتذار عن عمل قام به أي إنسان آخر ينتمي إلى الديانة المسيحية. فليس كل مسيحي مسيحياً يطبّق تعاليم المحبة والتسامح، كما أنه ليس كل مسلم مسلماً يحمل دعوة القرآن إلى قتال كل من لا يؤمن بالإسلام محمل الجدية.

 

لو كان "الإمام" حقاً إنساناً غير متعصبٍ يسعى إلى إحلال الوئام والسلام بين شعوب العالم وخاصة بين المسلمين والمسيحيين، لكان أيضاً دعا من قبيل العدل والإنصاف زعيماً من زعماء المسلمين الذين يستفتيهم فيما يتعلق بزيارة البابا إلى "المسجد الأموي"، للوقوف بشجاعة والاعتذار عما قام به المسلمون من غزوات لبلاد المسيحيين نهبوا خلالها أموالهم وأخذوا بناتهم سبايا واستولوا على كنائسهم وسفكوا دماء الذين لم يقبلوا الإسلام منهم أو أذلّوهم وأفقروهم حتى يقبلوا بالإسلام ديناً.

 

أليس الأجدر أن يعتذر المسلمون عن المذابح التي ارتكبوها بحق بني قريظة وغيرهم من اليهود في مطلع الإسلام وعن سلبهم أموالهم وسبيهم لبناتهم ونسائهم؟ ألا يجدر بمسلم أن يقف وقفة شجاعة ليطالب الآن بوقف أعمال الإبادة التي تشنها الحكومة الإسلامية في السودان ضد مسيحيي الجنوب، أو بما يقوم به المسلمون في إندونيسيا من أعمال حرق للكنائس وسرقات ونهب لممتلكات المسيحيين، أو ما يقوم به المسلمون في مصر من اضطهاد للأقباط المسيحيين ومن سرقات لمحالهم التجارية وخطف لبناتهم وحرق لكنائسهم وذبحهم وهم في دور العبادة يتعبدون ويصلون من أجل أعدائهم. ألا يجدر بمسلم أن يقف بشجاعة ويقول أن على الأتراك أن يعتذروا للأرمن عن مجازرهم الجماعية التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن مليون ونصف مسيحي أرمني؟ 

 

إن الجواب على هذه التساؤلات سيكون بالطبع سلباً إذ أن اعتذاراً كهذا لن يحصل ولسبب واحد فقط. هذا السبب هو أن ما فعله المسلمون لم يكن بأمر حاكم من الحكام يمكن أن تُلقى اللائمة عليه "وتنتهي بذلك القصة!" إنما كان بأمر من القرآن الذي يعتبره المسلمون كلاماً منزلاً من الله حرفاً حرفاً، والاعتذار عن القيام بأعمال كهذه لن يكون إلا تنكراً لتعاليم القرآن. إن ما فعله المسلمون هو في الحقيقة أمر يُلام عليه الإسلام والمسلمون معاً، أي المحرّض والفاعل، بينما ما فعله أو يفعله "مسيحيون" من أعمال قبيحة فهو أمر لا تُلام عليه المسيحية إذ ليس في تعاليمها ما يدعو أو ما يشجع على القيام بقتل أو سلب، لا، وليس فيها حتى ما يسمح  باشتهاء مال الغير. وإن وُجِّـهَ اللوم إلى الفعلة من "المسيحيين" فلا يجوز أن يكون ذلك بصفتهم مسيحيين لأنهم ليسوا في ما فعلوا أو يفعلون من المسيحية في شيء. إن اعتذاراً من المسلمين عما ارتكبوه بحق المسيحيين واليهود وغيرهم من كل الذين ارتُكِبت بحقهم أعمال غير إنسانية يمكن أن يصدر فقط حين يتوصل المسلمون إلى قناعة بأن ما جاء في القرآن وكتب الأحاديث من نصوص تعادي غير المسلمين وتحرّض على قتالهم ليس سوى انعكاساً للأحداث التي رافقت تأسيس الإسلام سواء دعوناه ديناً أو دولة. آنذاك فقط يمكن لصورة الإسلام أن تتغير، وآنذاك فقط يمكن أن ينشأ جيل إسلامي جديد يعمل بصدق على بناء علاقات أفضل مع بقية شعوب العالم.

 

لماذا هذه الضجة حول زيارة البابا لمدينة دمشق، وبالذات لهذا "المسجد"؟

ولماذا الدعوة إلى استفتاء "علماء" المسلمين فيها؟..

كل ما أراده البابا هو زيارة مدينة لعبت دوراً مهماً في تاريخ المسيحية إلى أن احتلها المسلمون معتدين دون أن يستعديهم من أهلها أحد؛ وكذلك زيارة كنيسة اغتصبها المحتلون المسلمون من أهلها عنوة ثم قاموا بتحويلها إلى مسجد. لقد رغب البابا بزيارة هذا المسجد، ولكنه لم يعبر عن رغبة بالمطالبة به باسم المسيحيين رغم ما لهم من حق شرعي فيه.

 

عجيب أمر بعض الناس وما أضيق عقولهم.

لا بأس أن يفتح المسيحيون أبواب كنائسهم للمسلمين يقيمون في رحابها الصلوات أيام أعيادهم رغم ما تزخر به تعاليم الإسلام من دعوات إلى معاداة المسيحيين وقتالهم وإذلالهم!

لا بأس أن يسمح المسيحيون للمسلمين بإقامة صلواتهم في رحاب كنائسهم رغم عدم اعتراف المسيحية بالإسلام كدين أو بمحمد كنبي.

لكن أن يقوم البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية بزيارة صَرْحٍ لا يمكن لأحد أن ينكر ما للمسيحيين فيه من حق، فهو أمر يحتاج إلى فتوى وإلى تصريح خاص من السيد غسان الإمام ومشايخه العلماء.

 

إني أهنئ السيد غسان الإمام على قوله وبصراحة لا لف و لا دوران فيها بأن المسلمين قد انتزعوا كنيسة القديس يوحنا من المسيحيين انتزاعاً. أهنئه لأنه لم يدّع ما ادّعاه ويدّعيه آخرون أن المسلمين قد أخذوا هذه الكنيسة من أصحابها المسيحيين برضاهم بعد مفاوضات ومقايضات. (راجع المقالة تحت عنوان "تزوير التاريخ") أهنئه رغم ما يتضمنه اعترافه هذا من وقاحة وتعالٍ وخبث تفوح رائحته في كل عبارة من عبارات حديثه. ولكني لا أهنئه على منطقه الأعوج حين استدرك اعترافه لتبرير ذلك العمل غير الأخلاقي بالقول إن المسيحيين هم أيضاً كانوا قد انتزعوه انتزاعاً من الرومان وقد كان معبداً لأوثانهم.

حقاً إن هذا الرجل "لا يدري"!

المسيحيون لم ينتزعوا المعبد من أيدي الوثنيين لتحويله إلى كنيسة. المسيحيون بنوا الكنيسة على أنقاض هيكل مهدم كان مكرساً لجوبتر الدمشقي. هذا من ناحية!

أما من ناحية أخرى، هل نفهم من هذا "الإمام" أنه يحاول تبرير سرقة المسلمين للكنيسة من أصحابها المسيحيين عن طريق مقارنة فعلتهم بفعلة المسيحيين وبالقول بأنهم هم أيضاً سرقوها من أصحابها الشرعيين؟ لنفترض أن "الإمام" على حق بأن المسيحيين انتزعوا المعبد الوثني وحولوه إلى كنيسة، فهل هو أمر يمكن مقارنته بقيام المسلمين بانتزاع الكنيسة من المسيحيين وتحويلها إلى مسجد؟.. المسيحيون انتزعوا (إذا صح التعبير) بناء تُعبَـد في الأصنام وحولوه إلى مكان لعبادة الله، لكن المسلمين لم ينتزعوا بناءً مخصصاً لعبادة الأصنام إنما انتزعوا كنيسة كان أصحابها يعبدون فيها الله وهم أهل كتاب مقدس باعتراف كتب المسلمين ونبيهم.

 

غسان الإمام لم يكتفِ "بالتخبيص" وهو يكتب عما "لا يدري" ولكنه أيضاً تخطّى حدود اللياقة والأدب وهو يتحدث عن رجل له مكانته في قلوب مئات الملايين من المسيحيين ورجل ليس في تاريخه الشخصي من شائبة على الإطلاق. لقد وصف "الإمام" زيارة البابا بالزيارة الثقيلة الظل، ورغم ما في هذه العبارة من قلة ذوق، فإنني أعذر الإمام على ذكرها إذ لا أرى فيها إلا زلة لسان منه تعبّر عما في نفسه من عقدة ذنبٍ تثقل ضميره. هذه الزيارة ثقيلة، لأنها ربما تذكّره بهؤلاء الرهبان الذين وقفوا يبكون وهم يرون كنيستهم تسرق منهم. تذكره بثقل منظر الراهب الذي رفض مغادرة برج الكنيسة فأمسك به الخليفة الوليد بن عبد الملك من قفاه ودحرجه على درجاتها. هي ثقيلة لأنها تذكّره بثقل السيف الذي أعمله المسلمون في رقاب المسيحيين الذين رفضوا الاحتلال الإسلامي واعتناق الإسلام أو دفع الجزية.

 

في نهاية حديثه يصف "الإمام" البابا يوحنا بقوله "هذا البابا المغرق في أصوليته المحافظة ليس خيراً كله وليس عناء كله"! ويا ليت هذا "الإمام" الفهلوي لم ينهِ حديثه بهذا الشكل المبتور ودون أن يتكرّم علينا بالتوسع فيما يعنيه بعبارته "ليس خيراً كله"، لكن يظهر واضحاً أنه أراد القول منها بأن  "بعض هذا البابا هو شر!.."

ليت هذا "الإمام" المتفذلك أعطانا بعض التفاصيل عن النواحي الشريرة في البابا، ولو فعل لكان قد أعفانا عناء السؤال ولكان أيضاً أعفى نفسه من سماع الجواب!

ما هي يا ترى تلك النواحي الشريرة في البابا برأي غسان الإمام؟ هل استباح هذا البابا مال مسلم أو غير مسلم؟.. هل حمل سيفاً وهدد بقطع رأس أحد إن لم يعتنق المسيحية؟ أم هل طلب من أحد كرادلته أو مطارنته أن يأتيه برأس مسلم أو غير مسلم لأنه ذمه ببيت شعر كما فعل محمد؟ أو هل يتوقّع أن يقف البابا في كنيسته في الفاتيكان ليقول للمسيحيين: "من لي برأس هذا "الإمام" الذي شتمني وقال عني أني شرير"؟

 

غسان الإمام حشر في حديثه عبارات عدة حشراً ولا غاية له منها إلا اللمز والهمز ومنها قوله بأن المسيح هو النبي الثاني في ترتيب الأهمية بين الأنبياء في الإسلام. ورغم أن قوله هذا ليس فيه من جديد، فإنه، وكما هو ظاهر من خلال نَفَسِـهِ السيئ الذي طغى على حديثه، لم يقل ما قال لمجرد الذكر، إنما أراد تذكير المسيحيين بأن "هذا الذي تعبدون، ليس إلا نبياً، لا بل ليس إلا نبيـاً أدنى مرتبة من نبيّنا محمد". ولغسان الإمام نقول أنه لو بذل بعض الجهد في دراسة كتابه بعقل منفتح، لكان قد عرف مقدار خطئه. ولتبيان هذا الخطأ الشائع، سنفرد حديثاً خاصاً عنه على صفحات هذه المجلة قريباً.

 

في نهاية حديثي، كلمة صغيرة أهمس بها إلى "الإمام":

لا تخشَ من صلاة البابا في المسجد، فهو لن يرفع دعاءه إلى الله يطلب منه أن ييتّم أطفالاً أو يعذّب أحداً أو يشتّت شمل أحد. كل ما سيردده البابا من صلاة في قلبه، بالنيابة عنك وعن كافة المسلمين وحتى عن المسيحيين الذي ابتعدوا عن طريق الحق: "ربنا استجب لهم.. اهدهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين." 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط