بسام درويش / Aug 05, 1993

ترددت كثيراً قبل أن أقدم على مصارحة صديقي بما عرفت به عن ابنه، وكانت صعوبة المهمة والقلق على مصير صداقة طويلة من أهم الأسباب وراء ترددي، إذ ليس من السهولة بشيء نقل خبر سيِّءٍ إلى إنسان غريب فكيف بالأحرى يكون نقله إلى صديق أو قريب.

 

فكَّرتُ كثيراً وعزمت على اتخاذ قرار بعدم التدخُّل، فالأمر لا يعنيني وليس لي فيه لا ناقة ولا جمل. الأمر لا يعنيني.. الأمر لا يعنيني.. الأمر لا يعنيني..

 

وبقيت أكرر هذه العبارة إلى أن اقتنعت أن تكرارها لم يكن إلاَّ محاولة مني للتهرُّب من المسؤولية وخوفاً من العواقب التي قد يؤدي إليها نقل الخبر. وأخذت أفكِّر في تلك العواقب المحتملة وأوازن بينها وبين الثمن الذي قد اضطرُّ لدفعه نتيجة تدخلي. ماذا لو كان الخبر كاذباً ولست أنا بقادرٍ على التحقق منه.. ماذا لو تصرَّف صديقي بشكل أحمق مع ابنه وأنا لا خبرة حقيقية لي بطباعه داخل بيته.. ماذا لو عرف الإبن أني  قد نقلت الخبر لأبيه فيعرف بذلك مصدره الحقيقي  ويدفعه طيشه أو حقده إلى أذىً، أنا ومن أخبرني في غنىً عنه.. وماذا وماذا وماذا؟..

 

أوضاعنا وطباعنا وأساليب تفكيرنا وتعاملنا مع بعضنا هنا في المهجر ليست كتلك التي تعوَّدنا عليها في الوطن. هناك لم تكن عادة التدخُّل في شؤون الآخرين من الكبائر، بغض النظر عن الدافع وراءها، حباً كان أم فضولاً ‍.. لكنما الأمر قد اختلف هنا. بعضنا قد " تأمرك " كلياً، إلى درجة أصبح فيها التفاهم مع الأميركي أسهل من التفاهم معه.. وما يدعو للسخرية حقاً، أن بعضنا يتأمرك حين تحلو له الأمركة ويتعرَّبُ حين تتطلب الظروف منه أن يتعرَّب.

 

في الوطن، لم يكن أمراً مستغرباً أن يقرع الجار باب جاره ويقول له أنه قد رأى ابنه يدخن أو يلعب القمار أو يقوم  بأمر ما معيب أوغير لائقٍ. لا بل لم يكن مستغرباً أن يقترب ذلك الجار من الولد فيؤنبه في الطريق ويطلب منه أن يقلع عن التدخين وينذره بأنه سيخبر أهله بما رآه. فليجرؤ أحدنا أن يقوم بذلك هنا‍‍!... لا بل فليجرؤ أحدنا هنا أن يصارح أخاه عما يفعله ابنه او ابنته، أو أن يوجِّه النصح لذلك الابن أو لتلك الابنة!

 

إتكلت على الله وعلى أنبيائه الصالحين ومولاي زين العابدين وعزمت أمري على القيام بما تفرضه الصداقة من واجبات، فذهبت لزيارة صديقي وواجهته بالحقيقة كاملةً دون مواربة. قلت له أن ابنه لا يتعاطى المخدرات فقط بل أنه يُشاهد دائماً برفقة صبية يُشتبه في سلوكهم وأخلاقهم وارتباطاتهم، ورجوته أن لا يتسرَّع إلى تصديقي قبل أن يقف على حقيقة الأمر بنفسه وأن لا يقسو عليه إن تأكَّد منه بل أن يبحث عن الأسباب ويعالج القضية بحكمة وتروٍّ.

 

مستحيل! ابني لا يفعل هذه الأشياء!

كان ذلك جواب صديقي. قلت له، ليس هناك في هذه اللحظة بالذات أمرٌ أتمنَّاه أكثر من أن أكون مخطئاً أو كاذباً. أرجوك أن تتحرَّى عن الموضوع عسى أن يكون الخبر اختلاق حاسدٍ أو حاقدٍ ولستُ أنا سوى رسولٍ وما على الرسول إلاّ البلاغ. ولكنه عاد يقول لي: مستحيل، ابني لا يفعل مثل هذه الأشياء.. أنا أعرف ابني. أنا أعرف ابني حق المعرفة!

 

لم أشأ الانسحاب بسهولة. لقد بدأت أمراً وعليَّ أن أنهيه مهما كان الثمن. وجاءه جوابي سريعاً إذ أنني من قبل قد أشبعت الموضوع دراسةً وتأملاً فقلت، إلى أيِّ مدىً تعرف ابنك يا صديقي؟.. كلنا نعرف أولادنا!.. هل فكَّرت يوماً أن تبحث بين طياتِ جيوبه أو جوارير مكتبه أو حقيبة كتبه؟ هل فكَّرت يوماً أن تراقبه وهو في طريقه إلى المدرسة أو بعد خروجه منها؟ تغدق عليه الأموال، فهل تساءلت يوماً أين وكيف يتصرف بها؟ تخرج أنت وزوجتك من البيت وتتركانه وحيداً، فهل خطر لأحدكما أن يعود بشكل غير متوقَّعٍ إلى البيت ليأخذ  شيئاً تظاهر بنسيانه؟

 

هذا انتهاك لخصوصيات الأولاد! نحن لا نعلم أولادنا احترام خصوصيات الآخرين بانتهاكنا لخصوصياتهم.. علينا أن نشعرهم بثقتنا بهم.

هذا ما أجاب به صديقي!

أي والله ثقة!.. أوشكت أن أطلب منه ساخراً أن يفتح الدليل التجاري (الأصفر) ليبحث فيه عن نادٍ للمغفلين فينتسب اليه ولكني لم أشأ أن "أزيد في الطين بلَّةً" فقلت له، ياعزيزي، ليس عليك أن تقول لابنك أنك قد ذهبت خلفه إلى المدرسة أو أنك قد بحثت في جيوبه أو بين صفحات كتبه فأنت الأب وأنت السلطة العليا في البيت وعليك تقع مسؤولية حمايته من الآخرين لا مسؤولية تربيته وإطعامه فقط. ما تقوله لي أدعوه  "تأمركاً مبالغاً فيه". إن لكلِّ مجتمع حسناته ونقائصه ونحن محظوظون لأننا خبرنا عادات وأخلاق مجتمعين مختلفين كل الاختلاف فإمَّا أن نتمسك بما ساء من أخلاقهما فنكون أكبر الخاسرين أو نتحلَّى بمحاسن كل منهما  فنصبح أعظم الرابحين.

واضطررت للانسحاب حين نصحني الصديق بأن أوجه اهتمامي إلى ما يخصني بقوله:

Thank you, but mind your business please

 

طبعاً، كان الحديث كله بالعربية.. ما عدا العبارة التي شاء صديقي أن ينهيه بها!!

==============

نشرت في بيروت تايمز تحت عنوان "لا تهدِ من أحببت" في العدد 362- 5-12 آب 1993 وفي جريدة آخر خبر تحت هذا العنوان في العدد 14 ـ 1 أغسطس 1997

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط