ـ 1 ـ
من كان بطل استقلال الهند عن الهيمنة البريطانية؟ الجواب: المهاتما غاندي. ومن هو الرجل الذي كافح نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا؟ الجواب: نيلسون مانديلا. كيف تسنى لرجل ضئيل القامة، يلف جسده بقطعة من نسيج أبيض غزلها بيديه، ويجر عنزته وراءه أن يجرد بريطانيا العظمى من درة التاج (الهند)؟ وكيف تمكن رجل ذابت أجمل سنوات عمره وراء ظلال قضبان السجن أن يهزم أبشع وأعتى نظام عنصري؟ هل رفع غاندي ومانديلا شعارات مثل: "ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" أو "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"؟ الإجابة: لا. إذناً، هل دعا الاثنان أفراد شعوبهما أن يحولوا أرواحهم الشاحبة إلى مشروعات للموت، وأن يجعلوا أجسادهم المنهكة جسوراً للعبور إلى ضفة الانتصار؟ الإجابة: أيضاً لا. لقد آمن الاثنان أن قطرة دم تسري في عروق الإنسان أثمن من أن تسفك قرباناً لأوطان مستقلة. لقد آمن الاثنان أن تحرير الوطن يستلزم تخليص النفس البشرية من الضغائن والأحقاد. لقد آمن الاثنان أن العنف قد يحرق الخصم ولكن ألسنة النار ستحرقك حتى ولو لم يبقَ جندي غريب يطأ أرضك. هل يمكن شراء النصر بسيوف من ورد وبسرب من حمام؟ التجربة التاريخية لكلا الرجلين تقول لنا نعم.
ـ 2 ـ
اسمحوا لي أن اقتبس بعض المقاطع التي سطرها الدكتور تركي الحمد في كتابه (ويبقى التاريخ مفتوحاً: أبرز عشرين شخصية سياسية في القرن العشرين). الكتاب يسكب بعض الضوء على زعامات سياسية كان لها كبير الأثر في صناعة التاريخ وتوجيه مسار الأحداث. لنقرأ معاً ما قاله الدكتور تركي عن غاندي أولاً ثم مانديلا.. "فالسياسة لم تكن عنده غاية بحد ذاتها، بقدر ما كانت وسيلة إلى غاية أبعد وأعمق، وسيلة تربوية للوصول إلى الغايات السامية التي كان يعتقدها. حتى الاستقلال السياسي للهند، الذي كان هدف حياته وغاية وجوده، لم يكن هدفاً أو غاية نهائية بحد ذاته، بقدر ما كان وسيلة لاستقلال الروح قبل الجسد، وحرية الذات قبل حرية المكان. فلا معنى للحرية المكبلة بالرغبات، ولا معنى لكيان حر أفراده من الرقيق... ربما كان من الممكن تحقيق استقلال الهند قبل يوم استقلالها التاريخي بوقت كبير، حسب ما يعلق البعض، لو استخدمت وسائل غير تلك التي كان يستخدمها "المهاتما" (الروح السامية). فليس هناك ما هو أسهل من استثارة الجماهير، واللجوء إلى ثورات العنف والدماء، ولكن ذلك يعني البقاء في دائرة العنف والدم، حتى بعد تحقيق الهدف المروم. ولم يكن ذلك ما يريده "غانديجي" في الهند. فما الفائدة من أن تربح عالماً بأسره، وتخسر نفسك... وعندما كان يلاحظ أن حركة التحرر الهندي كانت تنحرف عن الطريق الذي رسمه لها، فينفجر غضب الشعب عنفاً هنا أو هناك، أو تنفجر الخلافات بين "عيني" الأمة، أي المسلمين والهندوس كما كان المهاتما يسميهما، كان يعاقب شعبه، ويصوم حتى يثوب الشعب إلى رشده... كان يردد دائماً: "حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح ال ذي تخشاه أنت". وكان هذا السلاح هو عدم التعاون مع العدو، وليس حمل السلاح. وأثبتت نظرية غاندي هذه فعالية في الحالة الهندية تفوق التصور، على الرغم من معارضة كثيرين لأسلوبه في البداية سواء في "حزب المؤتمر الهندي"، أو في غيره من أحزاب وحركات. ولكنه في النهاية سما على الجميع، وأصبح الجميع ينادونه "بابو"، أي أبا جميع الهند والهنود".
أما الزعيم الآخر، مانديلا، والذي لا يقل شأواً عن غاندي فقد سلك الدرب الذي سار فيه قبله غاندي، ونجح كنظيره في تفتيت النظام العنصري دون إراقة دماء. وإليك بعض المقاطع المقتبسة من الدكتور الحمد.
".. طوال أيام حياتي (على لسان مانديلا) كرست نفسي للنضال من أجل الشعب الأفريقي. لقد قاتلت ضد البيض، كما قاتلت ضد هيمنة السود. لقد كنت دائماً مؤمناً بنموذج الديموقراطية والمجتمع المفتوح، حيث يعيش كل الناس بعضهم مع بعض بانسجام، وبفرص متساوية. إنه نموذج أرجو أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن، إذا استلزمت الحاجة، فإنه نموذج أنا على استعداد للموت من أجله... منذ البداية، كان ذاك هو طريق مانديلا: البحث عن الخير والطيب والفطري في الإنسان، ومحاولة رفع أكوام الحقد والكراهية المتراكمة منذ أزمان وأزمان، حتى لو كانت الظروف لا تبعث على كثير من التفاؤل، وهو ما كانت عليه الظروف فعلاً في جنوب أفريقيا. ومن هنا، كان اللاعنف هو الإستراتيجية التي تبناها نيلسون مانديلا من أجل تغيير الأوضاع في جنوب أفريقيا، ومحاولة القضاء على نظام "الأبارتيد" العنصري، حتى في تلك الأوقات التي كانت فيها الحركة الوطنية الأفريقية ترى أنه لا بديل للكفاح المسلح، ولا محيص من رفع السلاح، وعلى رأسها حزب المؤتمر... وفي كل مراحل حياته، لم يكن مانديلا حاقداً على البيض، بقدر ما كان ناقماً على الأوضاع اللاإنسانية التي يعانيها الجميع، بيضاً وسوداً على السواء، وهنا تكمن النظرة الإنسانية العميقة. فالأكثرية الأفريقية السوداء، كانت تعاني التمييز العنصري، والعبودية المادية الملموسة. أما الأقلية البيضاء، فبرغم أنها هي السيدة والمهيمنة في بلد أكثريته من السود، إلا أنها في خاتمة المطاف مستعبَدة بهذا الشكل أو ذاك، مادامت محرومة من الحس الإنساني بسلوكها العنصري، وأنظمتها الجائرة... كانت الرئاسة امتحاناً حقيقياً لزعامة نيلسون مانديلا، ولتلك المبادئ التي ظل يؤمن بها طوال حياته. فها هي الأغلبية الوطنية السوداء تصل إلى الحكم، بعد قرون من الهيمنة البيضاء، فماذا ستفعل، وكيف ستتصرف؟ هل تنتقم لتلك الأيام "السوداء" التي عانتها على أرض أجدادها؟ هل سيقوم مانديلا والزعامات الوطنية بفرض نوع من "الأبارتيد" الأسود، انتقاماً من "الأبارتيد" الأبيض؟ لم يحدث شيء من ذلك، وبقي مانديلا حريصاً على النموذج الديموقراطي الذي بشر به دائماً، حتى في أحلك الأيام سواداً، وإمكانية التعايش السلمي بين مختلف الأعراق والجماعات. لم يحاول استثارة الأحقاد، والنبش في دفاتر الماضي، بل طوى تلك الصفحة، وفتح صفحة جديدة اسمها المستقبل، وعنوانها "التفاؤل"..
ـ3 ـ
هل يمكن أن ينسل من وسط الجموع العربية أو الإسلامية شخصية على غرار غاندي أو مانديلا؟ تاريخنا المديد وحاضرنا المنكود لا يحفلان بمثل تلك النماذج. وحتى لو وُجد، فسوف يوسم بأنه فاتر الهمة، وخائر العزيمة، وربما عُد عميلاً تم زرعه من الخارج لتقليم إرادة الشعب، وإطفاء جذوة النضال في داخله. اللافت للنظر حقاً أن أكثر الزعمات الإسلامية نجاحاً في دحر المعتدي الخارجي واسترداد كرامة الأمة كان صلاح الدين المشهور بنبله وتسامحه ولينه مع خصومه الفرنجة. إن أولئك الحالمين بانبعاث صلاح الدين من رماد الهزائم يغفلون أنه لا مكان لتسامح ذلك البطل الكردي في أرض مالحة سقتها جماعات العنف الأصولية بفتاوى ظلامية ووصايا جهادية. أشعر وكأن بعض من المسيح قد حل في صلاح الدين حتى في غمرة صراعه مع الحملات الصليبية المتدفقة على أراض المسلمين، هذا المسيح، أو بوذا إن شئت، الذي يقف شاخصاً وحاضراً في غاندي ومانديلا. لكن المسيح، مع ما يحظى به من تبجيل وتقدير، لن يكون بمقدوره أن يشق طريقه، ولدى التيارات الإسلامية رصيد هائل من الممارسات المحمدية التي تستعار دوماً في تكييف وإدارة واستشراف آفاق الصراع مع قوى الغرب.
إن تاريخ النبي محمد ثري للغاية، وإذا سلمنا بصدق كل ما روي عنه من أفعال وأقوال، فإن الجماعات الإسلامية لا تكف عن نزعة انتقائية رخيصة تنتخب من السيرة المحمدية أكثر الجوانب ذات النبرة العنفية لتغليف سلوكياتها المتشددة بقطعة من الشيكولاته النبوية. أما الجوانب ذات البعد الإنساني والمتسامح، والتي يظهر أنها كانت بالفعل كانت تتراجع أمام حاجة النبي محمد لبناء دولة الإسلام، فإن تلك الجماعات عادة ما تقوم بالنبش عنها عندما تستدعي سياساتها التكتيكية اللجوء إلى التهدئة أو الانحناء أمام العاصفة. قصارى القول، أن الجماعات الإسلامية المبتهجة بإمساك زمام الشارع العربي والإسلامي بعد إصابة التيارات القومية بالشيخوخة مبكراً، تصر، عمداً أو جهلاً، على تديين الصراع مع الغير، وعلى رؤية الحاضر بعيون الأمس. لقد استبدل الأصوليون يهود بني قريضة وبني النضير وبني قينقاع بدولة اسرائيل الحالية، ومشركي مكة والجزيرة العربية بمسيحي أوروبا وأمريكا. ربما هذا أحد أوجه الإعجاز القرآني، حيث يستبدل عدو الأمس بعدو اليوم ومن نفس أبناء الجلدة. لهذا ستظل كرة النار تتدحرج من فوق منذ لحظة تلقف النبي محمد رسائل السماء إلى يومنا هذا. هل انتبه أحد إلى أن كرة النار ستحرقنا قبل أن تنطفئ على أعتاب فسطاط العدو؟ لا أحد يكترث بما أن الوطن السماوي أبقى وأجمل من أوطان الأرض. بالمناسبة، هل رأى أحدكم ملامح الحسرة والغيظ وقد كست وجه "بابا" العالم الإسلامي، سماحة الشيخ الوسطي والمعتدل جداً، العلامة والفهامة يوسف القرضاوي بعدما ذهب الداعية "النيو لوك" عمرو خالد إلى كوبنهاجن لتغيير صورة النبي محمد النمطية بعد الضجة المفتعلة على خلفية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي. لقد أفسد الشاب عمرو مخططات الشيخ الوسطي القرضاوي بعدما تخلى عن عمامته وجبته، وارتدى بزته العسكرية، وظل ينفخ في جمرة العالم الإسلامي لعله ينتفض على جراحاته وينتقم من انكساراته. غضب سماحة الشيخ كثيراً، بعدما تسبب عمرو خالد في شق الصف الذي نادراً ما يلتئم، مفوتاً فرصة ثمينة لبث مزيد من مشاعر الكراهية والحقد في نفوس الناس ضد الغرب. رحمك الله يا غاندي، وأطال الله عمرك يا مانديلا، فمثلكما لا مكان له في ارض تمجد الموت وترخص الحياة.
***********************
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط