بسام درويش
/
Nov 30, 2004
"في كل يوم تصلنا أخبارُ شخصيات لا نعلم ما إذا كانت موجودة فعلاً لأنها أصبحت شخصيات خرافية كالزرقاوي وبن لادن وأبو حفص يتم تصويرها وكأنها قادرة على ضرب شمال الكرة الأرضية وجنوبها والتفوق على آخر ما أنتجه العقل البشري من علم وتكنولوجيا!.."
جاء هذا في مقال كتبته بثينة شعبان الوزيرة السورية لشؤون المغتربين في صحيفة المستقبل اللبنانية(*) ثم تناقلته صحف عربية أخرى في المهجر.
*******
لو أنّ وزيراً آخر من الوزراء "الاختصاصيين" بشؤون أخرى في سورية غير شؤون المغتربين، كوزير التجارة أو التموين أو الزراعة أو حتى العدل أو الثقافة أو الدفاع، نطق بهذا، لاعتبرناه حديثاً معداً للاستهلاك المحلي ولما أعرناه بالتالي اهتماماً. لكن أن يصدر كلام كهذا عن "مسؤولة" حكومية يرتبط اسمها بالمغتربين السوريين، وفي أميركا تحديداً، فإنه ليُعتَبَرُ إهانة بحقهم وبحق وطنهم الثاني.
بصراحة وباختصار، السوريون في أميركا لا يشرّفهم أبداً ان يرتبط اسمهم بمهذارة ثرثارة كالسيدة شعبان!
*******
في الواقع، إن السيدة شعبان لم تطلع بشيء جديد وهي تتحدث عن خرافية وجود شخصيات مثل الزرقاوي وبن لادن، إذ أن جلّ ما أتت به هو أنها كررت لنا ما يتداوله الجهلة والسخفاء في الشارع العربي والإسلامي من ثرثرة. لكنها مع كل ذلك، حاولت أن تقول للقارئ بأن هذه النظرية هي من اكتشافها وأنها حصيلة عشرة أيام من "التأمل"!!!
قالت: "أمضيت الأيام العشرة الماضية في حالة تأمل وتتبع حثيث لما يتصدر أهم الجرائد ونشرات الأخبار العربية.. .. وتوصلت الى الاستنتاج ان وسائل الإعلام العربية بمجملها تتلقى الأخبار من وكالات الأنباء دون أن تكلف نفسها حتى عناء ترتيب الخبر حسب أولوية المواطن العربي أو حسب رؤية المواطن العربي لذاته وصورته عن نفسه وحقوقه بدلاً من رؤية الآخرين له.."
وبعد أن تجتر السيدة بثينة نظرية السخفاء الجهلة في الشارع العربي الإسلامي التي أتينا على ذكرها في مطلع الحديث، تتابع رؤيتها التأملية فتقول بأنه "وبغض النظر عن دقة أو خطأ المعلومات المتدفقة عن هذه الشخصيات، فما الذي يعني المواطن العربي بهذه الأخبار التي تتصدر الصفحات الأولى في الجرائد العربية بينما يوضع خبر امرأة فلسطينية اضطرت الى الولادة على معبر رفح ما يمثل قمة الإهانة لكل امرأة عربية وكل زوجة وأم في العالم في الصفحات الداخلية للجرائد العربية."!!!
*******
لندع جانباً ثرثرة السيدة شعبان عن خرافة وجود الزرقاوي وبن لادن، وتعالوا ننظر إلى "الاستنتاج" الذي توصلت إليه بعد هذا "التأمّل" و"التتبع الحثيث":
الأخبار التي تتصدر الصفحات الأولى من الصحف العربية، والتي تتحدث عن عمليات قطع رؤوس الأبرياء التي يقوم بها الزرقاوي، وأخبار تهديدات بن لادن والظواهيري بترويع العالم بحمامات دم، وأخبار تفجيرات المواقع السياحية والمطاعم والمدارس والكنائس والمستشفيات، وما شابه ذلك من الفظائع.. هي بنظر وزيرة الثرثرة السورية، أمور ثانوية يجب أن تنتقل إلى الصفحات الداخلية وربما يجب أن تُكتب بحروف صغيرة لا تلفت انتباه القارئ العربي، ليحل محلها على الصفحات الأولى خبر اضطرار امرأة فلسطينية إلى الولادة على معبر رفح!..
لا شكّ في أنه لأمرٌ مؤسفٌ أن تضطر امٌّ ـ أي أمٍّ ـ إلى وضعٍ كهذا الوضع، سواء كان ذلك في حالة حربٍ او في حالة سلم، وسواء كانت هذه الأم فلسطينية أو إسرائيلية، أو سودانية مسلمة ـ تناست بثينة ذكرها ـ اضطرها إلى هذا الوضع، أو بقر بطنها خلال هذا الوضع، مسلم آخر. لكن، إنه لأمرٌ مؤسف أيضاً أن لا زلنا نرى المناصب الوزارية في وطننا الأم، توكل إلى أناس، لا يعرفون التمييز بين الأولويات والثانويات.
وضعُ امرأةٍ لطفلها على جسرٍ أو قارعةِ طريقٍ في أحوالٍ كهذه الأحوال التي يمر بها الشرق الأوسط، ليس هو الخبر، إنما الأوضاع التي أدّت إلى حدوث هذا الحدث هي الخبر. قصر نظر السيدة شعبان يجعلها ترى الحدث وليس السبب، وربما أنها ترى السبب ولكنها تتعامى عنه لأنها تعرف أنها بحكم منصبها ـ حتى ولو كان تهريجياً ـ هي نفسها جزء من هذا السبب.
ما أوصل الشرق الأوسط ـ والعالم معه ـ إلى هذه الأوضاع التي أفرزت هذا الحدث المؤلم وغيره، هو، وعلى وجه التحديد، حكام الشرق الأوسط الذين جعلوا مصالحهم واستمرارية حكمهم، أولويةً ما بعدها أمرٌ مهمٌّ آخر، لا ثانٍ ولا ثالث.
لو تطرقت بثينة شعبان أيضاً إلى قصة الأم الإسرائيلية التي دخل عليها في بيتها إرهابي فلسطيني، فأطلق الرصاص عليها وعلى طفلها الرضيع، لربما أقنعتنا بأنها ليست جاهلة بالمشكلة الحقيقية، وأنها حقاً تبحث عن حل لها!..
أخبار كثيرة ومهمة جداً قد تكون أعظم أو أقل أهمية من ولادة طفل على معبر رفح، لا تجد طريقها، لا إلى الصفحات الأولى، ولا الداخلية، ولا الأخيرة من صحف نظام بثينة أو الأنظمة الشقيقة لنظام بثينة.. أخبار تصفياتٍ لخصوم، واغتيالِ مفكرين، وسرقاتٍ لملايين، وتعذيبِ مساجين.. أخبار أطفالٍ يعيشون على فضلات الطعام من صناديق القمامة بينما يوصي بعض المسؤولين على البيتزا طازجة من أوروبا. أخبار تضخم حسابات المسؤولين الحكوميين المودعة في مصارف سويسرا وفرانسا وألمانيا.. كل هذه الأخبار وبثينة تغضب ـ بعد عشرة أيام قضتها وهي تحرق فوسفور دماغها ـ لأن خبر ولادة امرأة فلسطينية على معبر رفح كان خبراً ثانوياً.
*******
غضب بثينة شعبان يذهب حداً أبعد من ذلك. ولادةُ امرأةٍ فلسطينيةٍ لطفلها على معبر رفح، أصبح في نظرها "يمثل قمة الإهانة لكل امرأة عربية وكل زوجة وأم في العالم"، ويؤلمها أن ينشر خبر كهذا "في الصفحات الداخلية للجرائد العربية."!!!
أهذه حقاً أكبر إهانة لحقت بالمرأة العربية والأم العربية تخطر بفكرك يا سيدة شعبان؟.. أهي الإهانة الوحيدة التي لحقت بك كامرأة عربية والتي لا ترينها تتصدر الصفحات الأولى للصحف العربية؟..
ياسيدتي، أنتِ كامرأة مسلمة، معجونة بالإهانة عجناً. إنك تعيشين الهوان في كل لحظة من لحظات حياتك وفي كل خطوة تخطينها ولكنك لا تتحدثين عنه!.. الإهانة تسربلك ليلاً نهاراً ولا تتحدثين عنها. هل أنت قانعة بهذه الإهانة ولذلك لا تجدين مبررا للحديث عنها، أم انك خانعة لها كل الخنوع وتخشين الحديث عنها؟
ماذا عن شيوخك الذين يرددون كل يوم على مسامع الكبار والصغار في المساجد والمدارس وفي وسائل الإعلام ما قاله محمد أن عقلك هو أقل من عقل الرجل، وأنك كالضلع المعوج الذي إن حاول أحد أن يقوّمه كسره؟.. ماذا عن ترديدهم لقول عمر بن الخطاب عنك بأنك لا تصلحين للسياسة لأنك "لست إلا لعبة متى احتجنا إليك دعوناك!.."
ماذا عن تعاليم الدين الذي تعتبره دولتك مصدرا رسميا للتشريع؛ هذا الدين الذي يعتبرك رجساً يفسد صلاة الرجل، ويعتبر شهادتك معادلة لنصف شهادته؟
الدفاع عن كرامة المرأة العربية المهدورة يا سيدة شعبان يبدأ بالأسباب التي أدّت إلى هدرها وليس بمظاهر الهدر.
*******
أحقاً تعتقدين يا سيدة بثينة أن أخبار الإرهاب وغيرها من الأحداث التي تجري على ساحة الشرق الأوسط لا تعني المواطن العربي؟.. حبذا لو حدثتنا شيئاً عن الأخبار التي يجب أن تعنيه بنظرك؟ أقراءة مقالاتك التي تقولين له فيها أن الزرقاوي وبن لادن شخصيات خرافية؟.. أم أخبار رحلاتك إلى الولايات المتحدة لإلقاء محاضرات تافهة أمام المغتربين، وتناول طعام العشاء على حسابهم ثم الطعن بكرامتهم والوطن الذي يعيشون من خيره وفي حمايته؟
عييتُ وأنا أبحث عن مقالة لك تتحدثين فيها عن شؤون وشجون المغتربين فلم أجد لك إلا ثرثرات لا شأن لها بالمغترب، لا من قريب ولا من بعيد.. ـ اللهمّ إلا مسبّة وطنه الثاني ـ أفلأجل هذا أسندت إليك وزارة تدعى وزارة المغتربين؟..
لقد كان اعتقادي حتى اليوم أن مهمة وزارة المغتربين، هي العمل معهم للاستفادة من خبراتهم، واستقطاب قدراتهم المادية والسياحية، وقبل كل شيء: الاستفادة من آرائهم لغاية الوصول بالوطن الأم الذي هربوا منه إلى مستوى الوطن الثاني الذي لجأوا إليه.
لقد اعتقدت أن مهمة وزارة المغتربين الوصول إلى علاقات أطيب عن طريقهم مع حكومة وطنهم الثاني، وليس إفساد تلك العلاقات وجعلها اسوأ مما هي عليه، بإهانتهم أو بتحريضهم على تلك الحكومة.
*******
يا سيدة شعبان، لن اقول لك، عودي إلى بيتك ولا تخرجي منه لأنك لست إلا لعبة متى احتجنا إليك دعوناك.. إنما سأقول: في عالمٍ كعالمك، لقد اسعدك الحظ بأن أوكل إليك منصب كهذا، فافعلي وقولي ما يمكن غداً، لكتابِ تاريخِ اليوم، أن يتحدث عنك بما تستحقه كل امرأة!
دعي عنك ما افترضوه فيك ظلماً، لعلك تثبتين لهم أن بقدرتك أن تأتي بما عجزوا هم عن الإتيان به.
منصبك هذا يؤهلك للاستفادة من أناس هجروا وطنهم سعياً وراء ما لم يجدوه فيه. غربتهم عن الوطن، خلقت في كل واحد منهم إبداعاً متميزاً ووعياً ناضجاً لا يجوز لك ولا لغيرك الاستهانة بهما؛ والفضل في ذلك هو لجوّ الحرية والكرامة الذي نعموا به في وطنهم الثاني، فإياك إياك وإهانتهم بهذرك، لأنّ شتم وطنهم الثاني هذا هو شتم لكرامتهم.
******************
(*) المستقبل (اللبنانية) 9 أغسطس 2004
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط